لماذا يُصاب بعض أعظم العلماء بالجنون في نهاية المطاف؟

عادةً ما يُنظَر للفوزِ بجائزة نوبل في العلوم، على أنهُ أهم إنجاز عرفه العالم. فهو أشبه بالفرصةِ الذهبية. فعلى الصعيد المهني، يستطيع الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء أو الكيمياء أو الطب أن يقضي بقية حياته المهنية أينما يحب، ويدرس ما يرغب في دراسته. كما يصبح الحائزون على الجائزة متحدثين باسم مجالاتهم، أو بإمكانهم قيادة المعاهد أو رئاسة الوكالات الحكومية. فببساطة هم يمثلون قمة الإنجاز البَشّري.

لكن للشُهرةِ سلبياتها أَيضًا. إذ غالبًا ما يُطلَب من الفائزين بالجائزة التعليق على موضوعات بعيدة كل البعد عن نطاق خبراتهم وتخصصاتهم؛ وهو ما قد يكون محفوفًا بالمخاطر، خاصة إذا كان الموضوع يَحظى باهتمامٍ شعبي كبير، مثلما هو الحال مع الموضوعات السياسية أو الدينية أو حتى الكائنات الفضائية. فعلى الرغم من أَن (ستيفن هوكينج) لَم يحصل على جائزة نوبل، إلّا أنهُ كان يتعرض لمثل هذه المواقف بشكلٍ متكرر، وغالبًا ما كان يتفوه بتصريحاتٍ وأقوال غبية وساذجة بشكلٍ لا يصدق.

ولا يختلف الأمر كثيرًا على الصعيد المهني. ففي حين ينجذب معظم العلماء الناجحين للمشكلات التي يمكن حلها، فإن الحائز على جائزة نوبل غالبًا ما يجد صعوبة في التركيز على أَي شيء سِوى التحديات والمعضلات الكبرى. فمثلًا، توصل (ألبرت أينشتاين) إلى العديد من الاكتشافات المذهلة التي كانت تؤهله للفوز بأربع جوائز نوبل أخرى؛ لكنه بدلًا من ذلك، أفنى سنواته الأخيرة يطارد النظريات الموحدة الكبرى غير المُجدية. وعلى نحو مماثل، أمضى (ستيفن واينبرج) -وهو عملاق آخر في هذا المجال- عقودًا من الزمن غارقًا في نظرية الأوتار، وهو يلاحق حلم الوصول إلى “النظرية النهائية”. أما (ريتشارد هامينج) الحائز على جائزة نوبل، فقد وصف ما يحدث بعد الفوز بنوبل على هذا النحو: «الآن يستطيع [أي فائز آخر] الانشغال فقط بحل المشكلات الكبرى».

ومشكلة المعضلات الكبرى هي أَنها تؤدي في كثير من الأحيان إلى إصابة الحائز على جائزة نوبل بما يسمى “مرض نوبل” وهو مصطلح لوصف الغطرسة والثقة بالنفس غير المبررة التي تصاحب غالبًا الفوز بجائزة نوبل.

سلوك شوكلي الصادم

كان (ويليام شوكلي) أحد مخترعي ترانزستور الحالة الصلبة الحديث في مختبرات بيل. (وقد حرص على أَن يعرف الجميع ذلك عن طريق نسبة الفضل إليه في عمل مساعديه، مقحمًا نفسه في صورهم الدعائية، ومحاولًا استبعادهم من براءة الاختراع). ولهذا السبب، بالإضافة إلى مشاركته في اكتشافات أُخرى، تشارك (شوكلي) جائزة نوبل في عام 1956 م مع زميله جون باردين. (باردين) المعروف بطبيعتهِ المتواضعة والهادئة، سئم من سلوك (شوكلي) وترك مختبرات بيل؛ ليصبح أستاذًا. في عمله الجديد، انتبه (باردين) إلى مشكلة الموصلية الفائقة. وقد ساعده عمله الجديد في الحصول على جائزة نوبل الثانية في الفيزياء.

على الجانب الآخر، أُصيب (شوكلي) بمرض نوبل. فأسس أول شركة للترانزستور، التي أصبحت تعرف فيما بعد باسم (سيليكون فالي) وقد اجتذبت سمعته ومواهبه الفكرية كبار الفيزيائيين الشباب؛ للعمل بالشركة. ومع ذلك، فإن الفوز بالجائزة أطلق العنان لأسوأ صفات شوكلي. إذ تضخم جنون العظمة لديه لدرجة أنه أجبر موظفيه على الخضوع لأجهزة كشف الكذب. وفي ظل حاجته الأنانية لأن يُنظر إليه على أنه عبقري عظيم؛ جعلهم يعملون على أفكاره الرائعة ولكن غير العملية وأهانهم علنًا عندما فشلت هذه المهام. وأخيرًا، أجبرت غطرسته من أسماهم “الثمانية الخونة” من أتباعه الموهوبين على الاستقالة. أصبح هؤلاء الرجال مشهورين بأعمالهم الرائعة: تأسيس شركة إنتل، واختراع تكنولوجيا الرقائق الحديثة، وإنشاء دوائر متكاملة.

بعد هذه الكارثة، عاد (شوكلي) إلى المجال الأكاديمي لكنه ترك مجال الفيزياء تدريجيًا ليغوص في أسئلة حول العرق والذكاء؛ مما أَدّى في نهايةِ المطاف إلى أَن يُصبح متحدثًا عامًا باسم (علم تحسين النسل). وطلق زوجته الأولى بسبب جيناتها “المتدنية” حسب زعمه! التي جعلت أطفاله أقل ذكاءً، وتبرع بالحيوانات المنوية لبنك خاص للحيوانات المنوية حائز على جائزة نوبل، وتم منعه من دخول الحرم الجامعي. وحينما أتى أجَلَه، كان (شوكلي) يُعرف بأنه مجنون يسجل محادثاته مع المراسلين الذين كانوا بدورهم يسخرون منه.

وقد وجد العديد من الفائزين الآخرين بالجائزة وصمة عار مماثلة في وقت لاحق من حياتهم المهنية: فعلى سبيل المثال، أصبح (جيمس واتسون) الذي شارك في اكتشاف بنية الحمض النووي، معروفًا بالعنصرية. بينما أمضى (لينوس بولينج) سنواته الأخيرة مؤيدًا ومدافعًا عن أنواع مختلفة من الطب البديل. حتى أنه شن حملة جيدة جدًا من أجل الفكرة الزائفة المتمثلة في استخدام فيتامين (C) كعلاج لكل وأي شيء بدءًا من الشيخوخة إلى السرطان ونزلات البرد الشائعة. حتى يومنا هذا، كثير من الناس يتناولون فيتامين (C) عندما يبدأون في الشعور بالمرض. أصبح (لوك مونتانييه) أحد مكتشفي فيروس نقص المناعة البَشّرية، مؤيدًا عامًا لمختلف النظريات الطبية الهامشية.

التحول من العلم إلى الخرافة

فاز فيزيائي آخر، وهو (بريان جوزيفسون) بالجائزة عن عمله الفردي الذي قام به في سن 22 عامًا والذي شكل أطروحته للدكتوراه. (وهو أمر مذهل، مثل الفوز بسباق إندي 500 بينما ما تزال تدرس للحصول على رخصة القيادة الخاصة بك. ) والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف يمكنه العيش مع مثل هذا النجاح، خاصة وأنه ما زال أمامه 40 سنة أخرى؟ لا يمكن لأحد أن يشكك في ذكاء (جوزيفسون) أو حكمه في متابعة أفكار جديدة. لذلك، قرر الاهتمام بالتأمل التجاوزي؛ مما دفعه على ما يبدو إلى قضاء نصف قرن في دراستة وأحيانًا دعم فكرة التخاطر، وعلم النفس الموزاي، والتحريك الذهني وغيرها من الموضوعات التي أصبحت تلقى رواجًا في العصر الحديث.

لَمْ تردع الانتقادات اللاذعة التي وجهها لهُ أقرانه عن أفكاره. إذ واصل البحث عن العرافيين والظواهر الخارقة، واهتم بفكرة الاندماج البارد.

التعاطف مع مرضى مرض نوبل

من السهل الاستهزاء ورفض الحائزين على جائزة نوبل ممن استسلموا لهذا المرض. فمن يشفق على شخص عنيد أو متكبر يتلفظ بالهراء؟ ومع ذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الانحراف في أحيان كثيرة يترافق مع العبقرية. وعندما تضاف ضغوط الشهرة إلى هذا المزيج، فإن ذلك قد يدفع بعض هؤلاء الأشخاص الغريبين إلى حافة الهاوية. لذا، يجب أن يكون لدينا قليل من التعاطف معهم؛ إذ بالنسبة إلى البعض، المرض هو أحد الآثار الجانبية للعَظَمَة.

  • ترجمة: رنا عبد الرحمن
  • تدقيق علمي ولغوي: فاطمة قائد
  • المصادر: 1