صيد الشياطين: تنبؤ غريب بفيزياء الجسيمات عمره 67 عامًا… أخيرًا تم إثباته

الائتمان: كليةُ غرينجر للهندسةِ بجامعةِ إلينوي أوربانا شامبين.

اكتشفَ الباحثونَ شيطانَ باينز، مجموعةٌ من الالكترونات في معدن تسلكُ موجة عديمة الكتلة.

بعدَ مرورِ ستّةٍ وسبعينَ عامًا على تنبّؤِ ديفيد باينز النّظريّ. فقد اكتُشِف جسيم الشّيطان المحيّر، وهو كيانٌ عديمُ الكتلةِ ومحايدٌ في الموادِ الصّلبةِ، في روثينات السّترونتيوم، ممّا يؤكِّدُ القيمةَ في مناهجِ البحثِ المبتكرةِ.

في عامِ 1956، تنبّأَ عالمُ الفيزياءِ النّظريّةِ ديفيد باينز أنّ الالكترونات في المادّةِ الصّلبة يمكنُها أن تفعلَ شيئًا غريبًا.

مع أنَّ الالكترونات عادةً ما يكونُ لها كتلة وشحنة كهربائيّة، أكّدَ باينز أنَّها استطاعَت أن تتّحدَ لتكوينِ جسيمِ مركّبٍ عديمِ الكتلة، ومحايد، ولا يتفاعل مع الضّوء.

أطلقَ على هذا الجسيمِ النّظريّ اسمَ “الشّيطان”.

منذُ ذلكَ الحين، وضِعَت نظريّةٌ أنّهُ يؤدي دوراً مهمّاً في سلوكيّاتِ مجموعةٍ منوّعةٍ واسعة من المعادن.

لسوءِ الحظّ، إنَّ الخصائصَ نفسَها التي تجعلُهُ مثيرًا للاهتمام سمحَت لهُ بالتّملُّصِ من الاكتشاف منذُ التّنبؤِ به.

بعدَ مرورِ 67 عامًا، وفريقُ بحثٍ بقيادةِ بيتر أبامونتي، أستاذُ الفيزياءِ في جامعةِ إلينوي أوربانا شامبين (UIUC)، اكتشفوا أخيرًا شيطانَ باينز المحيّر.

كما أفادَ باحثونَ في صحيفةِ Nature أنّهم استخدموا تقنيّةً تجريبيّةً غيرَ قياسيّةٍ التي تنشّطُ الذّرّات بشكلٍ مباشرٍ للأنماطِ الالكترونيَّةِ للمادّة، ممّا يسمحُ لهم برؤيةِ توقيعِ الشّيطان في معدنِ السّترونتيوم روثينيت.

قالَ أبامونتي: “لقد خمّن الشّياطين نظريًا لمدّةٍ طويلةٍ، لكن التّجريبيين لم يدرسوها أبدًا. في الواقع، نحنُ لم نكن حتّى نبحثُ عنها. لكن اتّضحَ أنّنا كنّا نفعلُ بالضّبط الشّيءَ الصَّحيح، ووجدناه.”.

الشّيطانُ المحيّر

أحدُ أهمِّ اكتشافاتِ فيزياءِ المادّةِ المكثّفة هو أنَّ الالكترونات تفقد فرديّتها في الموادّ الصّلبة. التّأثيرات الكهربائيّة المتبادلة تجعل الالكترونات تتّحد لتشكّلَ وحدات مشتركةٍ بما يكفي من الطَّاقة، وتستطيعُ الالكترونات أيضًا أن تشكّلَ جسيماتٍ مركّبةٍ تسمّى البلازمونات بشحنةٍ وكتلةٍ جديدتين تُحدّد بالتّأثيرات الكهربائيّة المتبادلة الأساسيّة.

معَ ذلك، الكتلةُ عادةً ما تكونُ كبيرةً جدًا، ولا يمكنُ للبلازمونات التّشكّل مع الطّاقات المتوفّرةِ في درجةِ حرارةِ الغرفة.

وجدَ باينز استثناءً. إذا احتوتِ المادّةُ الصّلبة الكتروناتٍ في أكثرَ من نطاقِ طاقةٍ واحد، كما هو الحال مع العديدِ من المعادن، وحاولَ أن يبرهنَ أنَّ البلازمونات الخاصّة تستطيعُ أن تتّحدَ في نمطٍ خارجَ الطّور لتشكّلَ بلازمونًا جديدًا عديمَ الكتلةِ ومحايدًا: شيطان. ولأنَّ الشياطين عديمة الكتلة فهيَ تستطيعُ أن تتشكّلَ بأيّةِ طاقة. لذلكَ يمكنُ أن تتواجدَ في جميعِ درجاتِ الحرارة. قد أدّى هذا إلى تكهّناتٍ أنَّ لها تأثيراتٍ مهمّةٍ على سلوكِ المعادنِ متعدّدةِ النّطاقات.

حيادُ الشّياطين يعني أنّهم لا يتركُونَ توقيعًا في تجاربِ المادّة المكثّفة القياسيّة.

قالَ أبامونتي: “إنَّ الغالبيةَ العظمى من التّجاربِ تتمُّ بوَساطة الضّوء وقياسِ الخصائصِ الضّوئيّةِ، لكن كونَها محايدة كهربائيًا يعني أنّها لا تتفاعل مع الضّوء”. “كانَت هناكَ حاجةٌ لنوعٍ مختلفٍ تمامًا من التّجاربِ”.

اكتشافٌ غيرُ متوقّعٍ

يتذكّرُ أبونتي أنّهُ ومساعدهُ كانَا يدرسان روثينيت السّترونتيوم لسببٍ غير ذي صلةٍ، فالمعدنُ يشبهُ الموصلاتِ الفائقةِ عند درجة الحرارة العالية دونَ أن يكونَ كذلك. على أملِ العثور على أدلّةٍ بما يخصُّ حدوث الظّاهرة في الأنظمةِ الأخرى، أجروا أوّلَ مسحٍ للخصائصِ الالكترونيّةِ للمعدن.

ركّبت مجموعةُ البحثِ التي يترأسها ليوشي ماينو، أستاذُ الفيزياءِ في جامعةِ كيوتو، عيّناتٍ عاليةِ الجودةِ من المعدن الذي فحصَهُ أبامونتي وطالبُ التّخرّج السّابق علي حسين باستخدامِ التّحليلِ الطّيفيّ لفقدِ طاقةِ الالكترون الذي حلَّ الزّخمُ فيه. وهيَ تقنيّةٌ غيرُ قياسيّةٍ تستخدمُ الطّاقةَ من الالكترونات التي تُطلق في المعدن لمراقبةِ ميّزاتِ المعدن مباشرة، يتضمّنُ ذلكَ البلازمونات التي تتشكّل. في حين كانَ الباحثونَ يبحثونَ في البيانات باهتمامٍ، وجدوا شيئًا غيرَ عاديّ، وضع الكترونيّ بلا كتلة.

يذكر حسين، وهو عالمُ أبحاثٍ في شركةِ كوانتيوم: “بدايةً نحنُ لم يكن لدينا أيّ فكرة عمّا كان عليه. الشّياطين ليسَت في التّيّار السّائد، ظهرَت هذهِ الإمكانيّة باكرًا، وضحكنا عليها أساسًا، لكن عندما بدأنا استبعادَ الأشياء، بدأنا نشكّ أنّنا حقًا وجدنا الشّيطان.

طُلِبَ من إدوين هوانغ في آخرِ الأمر، وهو مختصٌّ بمجالٍ علميٍّ ما بعد الدكتوراه في جامعةِ UIUC وباحثٌ نظريّ في المادّةِ المكثّفة، حساب ميّزات البنية الالكترونيّة للسّترونتيوم روثينيت. قائلاً: “إنَّ تنبّؤَ باينز يستلزم إلى حدٍّ ما شروطًا محدّدة، ولم يكن من الواضح لأيّ شخصٍ ما إذا كانَ يجبُ أن يكون للسّترونتيوم روثينيت شيطان على الإطلاق”. “كانَ علينا إجراءُ حسابٍ مجهرّيٍّ لتوضيحِ ما يحدث. عندما فعلنا ذلك، وجدنا جسيمًا يتكوّنُ من نطاقين الكترونيّين يتأرجحان خارجَ الطّور بنفسِ القدر تقريبًا، تمامًا كما وصفَ باينز”.

الصّدفةُ للبحث

وفقاً لأبامونت، لم يكن حادثًا أن تكتشفَ مجموعتهُ الشّيطان بالصّدفة. وأكّدَ أنّهُ ومجموعتهُ استخدموا تقنيّةً غيرَ مستخدمة على نحوٍ واسعٍ على مادّةٍ لم تُدرس جيدًا. إذ اعتقدَ أنّهم وجدُوا شيئًا غيرَ متوقّعٍ ومهمّ نتيجةً لمجرّدِ محاولةِ شيءٍ مختلفٍ، وليسَ مجرّدَ حظّ.

قال: “أنَّهُ يتحدّثُ عن أهمية قياس الأشياءِ فقط”. “معظمُ الاكتشافات الكبيرة لم يُخطط لها، اذهب وابحث عن مكانٍ جديدٍ وانظر ماذا يوجدُ هناك”.

المرجع: “لوحظ شيطانِ باينز كبلازمونٍ صوتيٍّ ثلاثيّ الأبعاد في Sr2 RuO4”.

بقلم علي أ. حسين، إدوين دبليو هوانغ، ماتيو ميترانو، ميليندا س. راك، سامانثا آي. روبيك، زيوفي غو، هونغبين يانغ، تشانشال سو، يوشيتيرو ماينو، برونو أوتشوا، تاي سي شيانغ، فيليب إي باتسون، فيليب دبليو فيليبس وبيتر أبامونتي، 9 آب 2023، Nature.

أبامونتي عضوٌ في مختبرِ أبحاثِ الموادّ في UIUC.

هوانغ عضوٌ في معهدِ نظريّةِ المادّةِ المكثّفةِ في UIUC.

ساهمَ في هذا العمل الأساتذةُ فيليب فيليبس منUIUC،

وماتيو ميترانو من جامعةِ هارفارد، وبرونو أوتشوا من جامعة أوكلاهوما، وفيليب باستون من جامعة روتجرز.

دُعِم البحث من قبلِ وزارةِ الطَّاقةِ الأمريكيِّة، والجمعيّةِ اليابانيّةِ لتعزيزِ العلوم، والمؤسسّةُ الوطنيّةُ للعلوم، ومؤسسّةُ جوردون وبيتي مور.

  • ترجمة: ريمة جبارة
  • تدقيق لغوي: غفران التميمي
  • المصادر: 1