أكبر الغابات البرية في العالم تتقلص

تغطي الغابات الشمالية مساحات واسعة من شمال الكرة الأرضية وصولًا إلى جنوب منطقة التندرا الخالية من الأشجار في القطب الشمالي.

فإذا كان الكوكب يرتدي غطاءً جليديًا في القطب الشمالي، فإن الغابات الشمالية تشكل عصابة رأس فضفاضة ملفوفة حول أذنيه، وتغطي أجزاء كبيرة من ألاسكا وكندا والدول الاسكندنافية وسيبيريا.

لقد عملت تربة المنطقة الشمالية منذ فترة طويلة على حماية الكوكب من ارتفاع درجات الحرارة عن طريق تخزين كميات هائلة من الكربون وإبقائه خارج الغلاف الجوي، وساعد موقعها النائي تاريخيًا إلى حماية غاباتها وأراضيها الرطبة من التأثير البشري واسع النطاق.

تجعل هاتان السمتان الغابات الشمالية من أهم النظم البيئية على وجه الأرض. وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من أنواع الثدييات والأسماك والنباتات والحشرات والطيور تجعل من هذه الغابات موطنًا لها.

لقد أدرك العلماء على مدى أكثر من قرنين من الزمن، أن المناخ يؤدّي دورًا رئيسيًا في تحديد المناطق الجغرافية للمجتمعات النباتية.

ونظرًا لأن الغابات الشمالية والتربة تواجه فصول شتاء شديدة البرودة (حيث تصل درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر) وصيفًا قصيرًا، فإن هذه الغابات والحيوانات التي تعيش فيها تتحرك نحو الشمال مع ارتفاع درجات الحرارة.

ومع ذلك، فإن تقدم الغابات الشمالية نحو الشمال كان متقطعًا وأبطأ من المتوقع، وفي ذات الوقت كان تراجعها الجنوبي أسرع مما توقعه العلماء، إذ لاحظ العلماء ممّن يدرسون النظم البيئية والغابات والأراضي الرطبة الشمالية أدلة تثير القلق، وتشير إلى أنه مع ارتفاع درجة حرارة العالم سوف تتقلّص أكبر غاباته البرّيّة.

أكبر برّيّة على وجه الأرض

تحتوي الغابات الشمالية على مليارات الأشجار معظمها صنوبريات ذات أوراق إبرية وتحمل الأكواز المخروطية، ولكن هناك أيضًا مساحات تغطيها بعض الأشجار عريضة الأوراق، بما في ذلك البتولا والأسبن والحور، كما تعتبر موطنًا لملايين الطيور المهاجرة والثدييات الشهيرة مثل الدببة البنية والأيل والوشق.

تساعد هذه الأشجار والتربة المحيطة بجذورها في تنظيم مناخ الأرض وذلك عن طريق سحب ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، الذي يعتبر من الغازات الدفيئة، ثم تستخدم الأشجار هذا الكربون لنمو الجذور والجذوع والأوراق، والتي تتحول -بمجرد موت الشجرة- إلى تربة غنية بالكربون،

وهذه التغيرات الكبيرة في الغابات ستترجم إلى تغيرات في المناخ العالمي.

إذ ترتفع درجة حرارة هذه الغابات بمعدلات أعلى بكثير من المتوسط ​​العالمي، ويؤثر ارتفاعها بشكل مباشر على نمو الأشجار وبقائها، وبالتالي في قدرتها على تخزين الكربون.

الغابات تتحرك

تنمو الأشجار البالغة بشكل أسرع بسبب ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي الذي يحرر الأشجار من القبضة الجليدية لدرجات الحرارة الباردة، كما تسمح درجات الحرارة الأكثر اعتدالًا للشتلات الصغيرة في أقصى الغابات الشمالية بالنمو والحصول على موطئ قدم حيث كانت الظروف السابقة قاسية جدًا ولا يمكن النشوء فيها.

أما في الغابات الشمالية الجنوبية الأكثر دفء، فالوضع مختلف تمامًا، إذ أصبحت الظروف هناك دافئة جدًا بالنسبة للأشجار الشمالية المتكيفة مع البرد، مما أدى إلى تباطؤ نموها وحتى موتها.

ومع ارتفاع درجات الحرارة يأتي الجفاف، وشح المياه يجعل الأشجار أكثر عرضة للإصابة بالحشرات والحرائق، كما حصل في كندا عام 2023، وفي سيبيريا عامي 2019 و2020.

وإذا حدث هذا على نطاق أوسع، فإن حدود الغابات الشمالية الجنوبية سوف تضعف وتتدهور، وبالتالي تتراجع نحو الشمال حيث لا تزال درجات الحرارة مناسبة.

وإن توسعت الغابات الشمالية شمالًا وتراجعت في الجنوب بالمعدلات نفسها، فمن الممكن أن تتبع درجات الحرارة المرتفعة ببطء.

ومع ذلك، فإن بحثنا المشترك باستخدام بيانات الأقمار الاصطناعية والبيانات الميدانية يظهر أن القصة أكثر تعقيدًا.

تتبع الغابات من الفضاء

تعتبر الأقمار الاصطناعية ذات قيمة لا تقدر بثمن لتتبع كيفية تغير الغابات الشمالية في العقود الأخيرة وما إذا كانت هذه التغيرات متوافقة مع التحول الشامل نحو الشمال، حيث يمكن للباحثين استخدامها لرصد التغيرات في خصائص الغابات من سنة إلى أخرى، مثل: نمو الأشجار السنوي والغطاء النباتي.

إذ أظهرت الدراسات الأخيرة باستخدام بيانات الأقمار الاصطناعية أن نمو الأشجار والغطاء الشجري زاد من عام 2000 إلى عام 2019 في معظم أنحاء الغابات الشمالية.

حدثت هذه التغيرات بشكل رئيسي في المناطق الشمالية الأكثر برودة، ومع ذلك، كان هناك أدلة محدودة تشير إلى أن الغابات توسعت لتتجاوز خطوط الأشجار الحالية.

وكشفت الدراسات أيضًا أن نمو الأشجار والغطاء الشجري انخفض من عام 2000 إلى عام 2019 في المناطق الجنوبية الأكثر دفئًا من الغابات الشمالية. إذ أدت الظروف الأكثر سخونة وجفافًا في هذه المناطق -في كثير من الأحيان- إلى انخفاض نمو الأشجار أو قتل الأشجار الفردية، في حين ساهمت حرائق الغابات وقطع الأشجار في فقدان الغطاء الشجري.

وتوضح بيانات الأقمار الاصطناعية أن تغير المناخ يؤثر على الأطراف الشمالية والجنوبية للغابات الشمالية.

ومع ذلك، إذا حدث فقدان الغطاء الشجري في الجنوب بسرعة أكبر من التوسع في الشمال، فمن المرجح أن تتقلص الغابة الشمالية، بدلاً من مجرد التحوّل نحو الشمال.

التعمق لفهم تغير الغابات

تكبر الغابات عندما تنبت بذور الأشجار الفردية وتنمو، لكن أشجار الغابات الشمالية تنمو ببطء وتحتاج عقودًا للوصول إلى الحجم الذي يمكن رؤيته من الفضاء، لذا نحتاج إلى بيانات ميدانية من الأرض للعثور على الأشجار الصغيرة التي يشير وجودها إلى حركة خط الأشجار.

في أواخر السبعينيات، قام ‘ديفيد كوبر’ بتوثيق أشجار التنوب الصغيرة التي كانت تنمو على ارتفاعات أعلى بمئات الأمتار وفي مواقع على بعد كيلومترات شمال أعلى الأشجار حاملة الأكواز المخروطية في سلسلة جبال بروكس في ألاسكا.

وفي عام 2021، وجدنا أن تلك الأشجار الصغيرة نمت بطول عدة أمتار وكانت تنتج أكوازًا، والأهم من ذلك أن عدد أشجار التنوب الصغيرة التي تنمو وراء خط الشجر وخارجه الآن زاد بمقدار 10 أضعاف عما كان عليه خلال زيارتنا الميدانية الأولى.

وعند عبور الحدود بين غابة ألاسكا الشمالية والتندرا في القطب الشمالي سيرًا على الأقدام، وجدنا آلاف الأشجار الشمالية الصغيرة التي تنمو في مسافة تصل إلى 40 كيلومترًا شمال خطوط الأشجار القائمة، وينمو معظمها حيث تتساقط الثلوج بكثافة؛ وذلك بسبب نموذج المحيط المتجمد الشمالي المسمى ‘تأثير البحيرة’ حيث يتحرك الهواء البارد عبر المياه المفتوحة، ويلتقط الدفء والرطوبة التي تتساقط بعد ذلك في اتجاه الرياح على شكل ثلوج، وتراجع الجليد البحري يزيد من مساحة المياه المفتوحة.

ويولد هذا رياحًا أقوى تدفع بذور الأشجار لمسافة أبعد، كما ينتج المزيد من تساقط الثلوج مما يعزل الشتلات الصغيرة عن ظروف الشتاء القاسية. والنتيجة هي أن الأشجار في سلسلة جبال بروكس في ألاسكا تتحرك بسرعة إلى منطقة التندرا الخالية من الأشجار.

ومع ذلك، فإن هذه التوسعات السريعة محلية ولم تحدث في كل مكان على طول خط الأشجار الشمالي بعد.

وجه الغابات الشمالية المستقبلي

يُظهر بحثنا المشترك أن الغابات الشمالية تستجيب في الواقع لارتفاع درجات الحرارة، لكن المعدلات السريعة للتغير المناخي تعني أنه من المحتمل ألا تتمكن الأشجار من التحرك شمالًا بوتيرة تواكب خسارتها في الجنوب.

ولكن، هل ستتمكن الأشجار في أقصى الشمال من اللحاق بالمناخ ومنع انكماش الغابات؟ لا يعرف العلماء ذلك ببساطة في هذه المرحلة.

ولعلّ الأشجار حديثة النشوء في سلسلة جبال بروكس تبشر بمثل هذا التوسع.

كما أنه من غير الواضح ما إذا كانت الأجزاء الشمالية من الغابات الشمالية يمكنها تجميع ما يكفي من الكربون من خلال زيادة النمو للتعويض عن خسائر الكربون في الجنوب.

وإذا كانت الغابات الشمالية بالفعل على وشك الانكماش، فإنها سوف تختفي في نهاية المطاف من أطرافها الجنوبية الحالية، وهذا من شأنه أن يضر بالعديد من الحيوانات المحلية والمهاجرة -وخاصة الطيور- وذلك من خلال تقليل بيئتها الشمالية.

وتعد الغابات أيضًا ذات أهمية ثقافية لملايين الأشخاص الذين يعتبرونها موطنًا لهم، مثل: مجتمعات السكان الأصليين في كندا.

إن مراقبة الغابات الشمالية حول العالم عن كثب، باستخدام بيانات الأقمار الاصطناعية والقياسات الميدانية على الأرض، سيساعد في ملء هذه الصورة. عندها فقط يمكن للباحثين أن يأملوا بإلقاء نظرة خاطفة على مستقبل إحدى آخر المناطق البرية على وجه الأرض.

‘روني روتبارث’ (مرشح دكتوراه لعلم البيئة في القطب الشمالي وشبه القطب الشمالي، جامعة فاجينينجن).

‘ديفيد ج. كوبر’ (عالم أبحاث كبير فخري، جامعة ولاية كولورادو).

‘لوغان بيرنر’ (أستاذ أبحاث مساعد في علم بيئة التغير العالمي، جامعة شمال أريزونا).

‘ورومان ديال’ (أستاذ علم الأحياء والرياضيات، جامعة ألاسكا باسيفيك).

  • ترجمة: عبير ياسين
  • تدقيق علمي ولغوي: روان نيوف
  • المصادر: 1