كيفَ تكشف المفارقات عيوبَ المنطق؟
لفترةٍ طويلة طرحتِ المفارقات معضلة رؤيتنا للعالم: هل الجواب أنّنا نحتاج فهمًا بثنائيّة أقل للمنطق؟
إذا سألت ما إذا كانت الأرض كرويّة، فمعظم القرّاء سيجيبُ بنعم. فقط المتحذلق سيشير إلى أنّها جسم كرويّ مفلطح، لكن بتعبيرٍ فنّيّ أولئك الذين وافقوا على الاقتراح سيكونون مخطئين.
مع ذلك من الواضح أنّهم ليسوا مخطئين بأية حالٍ من الأحوال كشخصٍ يدّعي أنّ الأرض مسطّحة.
هناك درجات من الخطأ، والتي غالبًا ما تكون مهمّة، وهذا يدلّ أنّ هناك أيضًا درجاتٍ من الحقيقة.
إذًا، فإنّنا غالبًا ما نعتمد على المنطق الكلاسيكيّ الذي يفترض قيمتين فقط: الصّواب والخطأ، الذي يمكن أن يؤدّي إلى مفارقات عندما يؤدّي أيّ من الخيارين إلى التّناقض.
المنطق حسب أحد التّعريفات هو “طريقة محاكمةٍ عقليّة تتضمّن سلسلة من العبارات، كلٌّ منها يجب أن يكون صحيحًا إذا كانت العبارة التي قبله صحيحة”. على ذلك النّحو، فإنّ المنطق يبدو موثوقًا.
وأيّة إخفاقات لا يمكن أن تكون إلّا بسبب بيانٍ أوليٍّ خاطئ، أو إنّ إحدى العبارات اللّاحقة لا تتبعها عالميًا كما يُزعم.
عندما نتحدّث عن “المنطق المعيب” فنحن عادةً ما نعني أحد هذه الأشياء: يبدأ شخص ما بافتراضٍ غير صحيح ويبني مجموعة من الاستنتاجات على هذه الأسس المتزعزعة.
إنّه يكافئ “القمامة الدّاخلة، القمامة الخارجة”، إذ تُعد أخطاء الحاسوب ليست خطأ النّظام، بل البيانات التي تغذّى بها.
وبدلًا من ذلك، الفرضيّة الأصليّة صحيحة، لكن في نقطةٍ ما عاملوا واحدة من عدد الآثار المحتملة باعتبارها الوحيدة الممكنة.
إنّ حلّ الأخطاء في كلّ منها واضح، مع أنّه ليس من السّهل دائمًا تنفيذه. في الحالة الأولى نحتاج فقط إلى التّحقّق من المبنى بصورةٍ أفضل. وفي الحالةِ الثّانية نحتاج لفحص كلّ خطوة لرؤية ما إذا كان مقاومًا للماء كما هو مذكور.
مع ذلك، ومنذ آلاف السّنين، كان الفلاسفة اليونانيون يشكّلون تحدّيًا بجوهريّة عالية للمنطق في صور مفارقات.
لا شكّ أنّ المفارقات ما تزال أقدم بكثير، لكنّ مفكّرون مثل زينو الإيلي الذين أعطونا الاسم ورسّخوا فكرةَ الأحكام المتناقضة بوضوح من مقدّمات منطقيّة كتحدّي لطبيعة الواقع.
بعض التّقاليد الفلسفيّة، خاصّة تلك القادمة من آسيا، تكون مريحة أكثر مع فكرة أنّ الحقيقة يمكن أن تكون طيفًا.
أُنشأت المفارقات الأصليّة (على حدّ علمنا) لتحدّي إحساسنا بالواقع، ليس للتّشكيك بالمنطق. ولكن العديد من المفارقات، سواء الأصليّة أو الأحدث، تبيّن مؤخرًا أنّ لها حلولًا منطقيّة تمامًا، والتي ببساطة لم تكن واضحة في ذلك الوقت. ولكن هناك مفارقات أخرى تمثّل تحديًا أعمق.
وفقًا لأحد التّعريفات، فإنّ المفارقة “حجّة تستمدّ ممّا يبدو أحكامًا متناقضة ذاتيًا عن طريق استنتاج صحيح من مقدّمات مقبولة”.
كسر الثّنائيّة
مع ذلك تمثّل المفارقات الأخرى تحديًا جوهريّ أكثر، يكفي لإثارة تساؤلات عن المنطق في جوهره. وهذه المعروفة باسم التّناقضات، لا تتصادم مع معرفتنا وحسب، بل مع منطقها الدّاخليّ الخاصّ.
ربّما كلّ التّناقضات، تنشأ من وجهة نظر ثنائيّة للعالم. على سبيل المثال، واحدة من أشهرها، مفارقة الكذّاب، تتضمّن أمثلة مثل “هذا البيان خاطئ”.
إذا كنّا نعتقد أنّ الأشياء يمكن أن تكون فقط إمّا صحيحة أو خاطئة، مثل الواحدات والأصفار في الحاسوب، إذًا العبارة تولّد نوعًا من الحلقة المتكرّرة التي فتنتِ النّاس لقرون.
بعض التّقاليد الفلسفيّة، خاصّة تلك القادمة من آسيا، تكون مُريحة أكثر من أوروبا مع فكرة أنّ الحقيقة يمكن أن تكون طيفًا، إذ بُنيت بشدّة في اليونان الكلاسيكيّة.
القرون قبل أرسطو شكّلت قواعد المنطق التي اعتمد عليها الغرب إلى حدّ كبير منذ ذلك الحين، Jains طوّرت عقيدة Anekāntavāda، إذ تحتوي جمع العبارات على كلّ من الحقيقة والباطل.
يمكن القول، أنّ ظهور الحواسيب الكمّيّة، التي تطبّق كل من الواحد والصّفر، في النّسب المتغيّرة، استبدال البتّات الثّنائيّة، قد أثبتَ الآراء البديلة.
إنّ العديد من المفارقات المنطقيّة الأساسيّة الاعتقاد أنّ شيئًا ما هو شيء أو آخر. هذا ينهار بالكامل تقريبًا على المستوى دون الذّرّي، مع الفوتونات التي هي جسيمات وأمواج، لكنّها لا تتّجه دائمًا بسهولة في أكثر البيئات المألوفة، كما قد يوضّح المثال الأوّليّ لشكل الأرض.
السّؤال الشّهير ما إذا كان نصف الزّجاجة ممتلئ أو نصفه فارغ يلمح في مثال آخر. كلا الأمرين صحيح، ولكن في أيّ نقطة يمكننا أن نتخلّى عن “النّصف” ونقول: “زجاجتي فارغة” ؟
اختُرِع المنطق الغامض محاولةً لالتقاط التّعقيد، ممّا يسمح لقيمة الحقيقة باقتراح في أيّ مكان تكون بين الصّفر والواحد.
ويمكن القول، أنّ اتّخاذ القرار البشريّ الفعليّ، يشترك مع منطق غامض أكثر من المنطق المنطقيّ للواحدات والأصفار.
ومع ذلك، فإنّ استخدام المنطق الغامض في تحليل الذّكاء الاصطناعيّ وتحليل الصّور الطّبيّة، من بين استخدامات أخرى، لم يقترب من إزاحة الإصدار الكلاسيكيّ في معظم أنظمة أو تطبيقات التّعليم.
ربّما يكون ذلك لأنّ التّقاليد الثّقافيّة المتأصّلة يمكن أن تكون صعبة التّحوّل للغاية.
قد يُنظر إلى ردّ الفعل الغاضب لفكرة أن الجنس يمكن أن يكون أي شيء آخر غير الثنائي كمثال على ذلك.
من ناحيةٍ أخرى، قد يظهر أنّ المنطق التّقليديّ لا يزال لديه الكثير من أجله.
مفارقات محلولة-انتصارات للمنطق؟
تأتي المفارقات بصورٍ عديدة، ولا تشكّل جميعها مشكلةً للمنطق، في الواقع العديد منها قد أُثبِت. إذ من الشّائع لتناقضات المفارقات أن تكون مع الواقع المُدرك أكثر من كونها مع نفسها، وغالبًا ما تُحلّ عن طريق دمج المنطق مع البحث الأعمق.
على سبيل المثال، تحوّلت بعض المفارقات لتكون أساليب مفيدة للكشف أنّ الواقع مُعقّد أكثر من افتراضاتنا السّاذجة. وينطوي آخرون على نوع من خفّة اليد، مثل التّقسيم على الصّفر إلى “إثبات” أن 1 =2.
واحدة من المفارقات الأصلية التي قدّمها زينو (كما أُعيدَت صياغتها من قبل أرسطو وغيره)، تخيّل سباق غير عادل جدًا بين أخيل وسلحفاة. يعطي أخيل رياضيًا خصمه الزّاحف بداية.
نحن نعلم أنّه، مع شرط أن يكون السّباق طويلًا كفايةً، سيكون هذا غير كافٍ، والعدّاء الأسرع سيتجاوز الأبطأ في آخر الأمر. ومع ذلك، جادل زينو، أنّه بحلول الوقت الذي يصل فيه أخيل إلى النّقطة التي بدأت السّلحفاة من السّلحفاة، ستحصل على بعض الدّافع، وبمرور الوقت الذي يعبر فيه أخيل تلك المسافة الثّانوية، كانت السّلحفاة قد تحرّكت مسافة لا تزال أصغر. يكسب أخيل باستمرار على السّلحفاة، ولكن وفقًا لهذا الرّأي، لا يمكن أن يتفوّق عليها أبدًا.
قدّم أرسطو إجابةً، لكنّ القلق من أنّها غير كافية قاد إلى دراسة المتسلسلات اللّانهائيّة، والتي أثبتت قيمتها بوجهٍ استثنائيّ للعلوم.
ليس الجميع راضين عن مثل هذه الحلول الرّياضيّة، إذ يرى بعضهم أنّها مشكلة ميتافيزيقيّة لم تُحل بعد. لذلك، يخرج المنطق الكلاسيكيّ من تحدٍّ كهذا بشكلٍ جيّد إلى حدّ ما-بعيداً عن فقدان مصداقيته، فقد قادنا إلى شيء حقيقيّ ومفيد.
استخدمت مفارقة سبب ظلام سماء اللّيل لإثبات أن الكون ليس بلا حدود، على الرّغم من أنّنا تعلّمنا منذ ذلك الحين أنّه يتوسّع.
بالمثل، استخدمت مفارقة سبب ظلام سماء اللّيل لإثبات أن الكون ليس بلا حدود، مع أنّنا تعلّمنا منذ ذلك الحين أنّه يتوسّع.
هناك مفارقات أخرى ليس لدينا حلول كاملة لها بعد، لكنّ العلماء جيّدون في تعقّبها. على سبيل المثال، تشير مفارقة الشّمس الفتيّة الخافتة إلى أنّ النّجوم التي لها كتل كالشّمس تنبعث منها حرارة وضوء أقلّ في المليار سنة الأولى من عمرها، مقارنة بما تنبعث منه في عمر الشّمس الحالي.
بناءً على ذلك، كان الشّكل الأوليّ للمفارقة هو أنّ الأرض كان يجب أن تكون أكثر برودة خلال العصر الهادياني، ممّا منع وجود الماء السائل. ومع ذلك، نحن نعلم أنّ تاريخ محيطات الأرض يعود إلى 4.4 مليار سنة. والكثير من ثنائي أكسيد الكربون الوفير، وعليه فإنّ تأثير الاحتباس الحراري الأقوى، حُلّت المشكلة للأرض إلى حدّ كبير، لكنّه استمرّ بازعاج باحثي المريخ.
إنّ تفسير الغازات التي يمكن أن تشكّل الغلاف الجويّ للمريخ خلال عصر نوح، وأين ذهبت هي مشكلة مستمرّة، لكنّها مشكلة يمكننا أن نتوقّع حلّها بصورة معقولة دون التّخلّص من كتاب المنطق.
ربّما نحتاج إلى كلمة (ربّما مفارقة وصفيّة) لحقيقة أن المفارقات يمكن أن تكشف عيوب المنطق الكلاسيكيّ، وتثبت قوّته.
مجلّة CURIOUS مجلّة رقميّة من IFLScience تتضمّن مقابلات وخبراء وحقائق ممتعة، وأخبار ومقتطفات من الكتب وغير ذلك الكثير.
- ترجمة: ريمة جبارة
- تدقيق لغوي: غفران التميمي
- المصادر: 1