الآن لا يعني شيئاً: كيف يعمل الوقت في كوننا

يعتمد الوقت على السرعة والكتلة مايعني أنه ليس ثابتاً كما نعتقد.

فنحن نفكّر في الوقت بشكل تقليديّ باعتباره شيئاً بسيطاً وأساسياً، وهو يجري بشكلٍ موحّدٍ مستقلّاً عن كل شيءٍ آخر،

من الماضي إلى الحاضر، ويُقاس بواسطة الساعات.

وعلى مدار الوقت، تعاقبت أحداث الكون وراء بعضها بشكلٍ مُنظّم: الماضي والحاضر والمستقبل،

فالماضي ثابتٌ، والمستقبل مفتوحٌ، ومع ذلك تبيّن أنّ كلَّ هذا غيرُ صحيح، ومرّة بعد أخرى، أثبتت السّمات المميزة للوقت أنها تقريبية، فالأخطاءُ تحدّدها وجهةُ نظَرِنا مثل: استواء الأرض أو دوران الشمس. كما أدى نموّ معرفتنا إلى تفكّكٍ بطيء لمفهومنا للوقت، فمانسميه ”الزمن” هو مجموعة معقّدة من الهياكل والطبقات، وفي ظل التدقيق المتزايد وبعمقٍ أكبر من أي وقت مضى، فقَدَ الزمنُ طبقاتِه الواحدةَ تلو الأخرى، طبقةً تلو طبقة.

مرونة الزمن:

لنبدأ بحقيقةٍ بسيطةٍ: يمرُّ الوقت في الجبال بشكلٍ أسرع مما هو عليه عند مستوى سطح البحر،

فالفرق بسيطٌ، لكن يمكننا قياسه بالساعاتِ الدقيقة التي نشتريها عبر الإنترنت، مقابل بضعة آلاف من الدولارات.

مع تكرار هذا يمكن لأي شخص أن يلاحظ تباطؤ الوقت، وباستخدام ساعات المختبرات المتخصصة، يستطيع الباحثون اكتشاف هذا التباطؤ في الوقت عند المستويات التي لا تفصل بينها سوى بضعة سنتيمترات، فالساعة الموجودة على الأرض تعمل بشكل أبطأ قليلاً من الساعة الموجودة على الطاولة.

وليست الساعات فقط هي التي تتباطأ، ففي الأسفل جميع العمليات تصبح أبطأ، كمثال: صديقان يعيش أحدهما في السهول والآخر في الجبال، عندما يلتقيان بعد عدة سنواتٍ أخرى،

الشخص الذي بقي في السهل قد عاش أقل، ومر عمره بشكلٍ أقل، وتتأرجح ساعته بشكلٍ أبطأ،

ولديه وقتٌ أقل للقيام بالأشياء، ونباتاته تنمو ببطء، وأفكاره لديها وقتٌ أقل لتكتشف.

في الأسفل هناك ببساطة وقتٌ أقل مما هو عليه في الأعلى.

هل هذا مفاجئ؟ ربما هو كذلك، لكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم.

يمر الوقت ببطء في بعض الأماكن وأسرع في أماكن أخرى.

والشيء المثير للدهشة، أنّ شخصاً قد فهم هذا التباطؤ في الوقت قبل ظهور الساعات الدقيقة التي تقيس الوقت بدقة كافية، وهو بالطبع ألبرت أينشتاين.

إنّ القدرةَ على فهم شيء ما قبل ملاحظته تُعَدُّ جوهرَ التفكير العلمي.

ففي العصور القديمة، أدرك الفيلسوف اليوناني أناكسيماندر أنّ السماء تمتدّ تحت أقدامنا، قبل وقت طويل من إبحار السفن حول الأرض.

وفي بداية العصور الحديثة، فهم عالم الرياضيات والفلك البولندي كوبيرنيكوس أنّ الأرض تدور، منذ وقتٍ طويل قبل رؤية روّاد الفضاء لها من القمر.

في سياق اتخاذ مثل هذه الخطوات نتعلّم أنّ الأشياءَ التي بدت لنا بديهية لم تكن أكثر من مجرد تحيزات، بدا واضحاً أن السماء كانت فوقنا وليست تحتنا، وإلّا فإنّ الأرض سوف تسقط، وبدا لنا بديهياً أن الأرض لا تتحرك، وإلا فإن هذا سوف يتسبب بخراب كل شيء.

مرّ ذلك الوقت بنفس السرعة في كل مكان، وبدا هذا واضحاً لنا بنفس القدر، لكن كالأطفال عندما يكبرون، ويكتشفون أنّ العالم ليس كما كان يبدو داخل جدران منازلهم الأربعة، فإن البشرية ككل سوف تدرك الشيء نفسه.

الأجسام المتساقطة:

سأل أينشتاين نفسه سؤالاً عند دراسة قوة الجاذبية ربما حيّر الكثير منا: كيف يمكن للشمس والأرض أن ”يتجاذبا” بدون ملامسة، أو استخدام أيّ شيء بينهما؟

لقد بحث عن تفسيرٍ معقول ووجده من خلال تخيل أن الشمس والأرض لا تتجاذبان بشكلٍ مباشرٍ، بل إنّ كلاً من الشمس والأرض تؤثّر فيما بينهما تدريجياً، مما يؤدي إلى تعديل المكان والزمان، كما يزيح شخصٌ مغمورٌ في الماء السائل من حوله.

ويؤثر هذا التعديل في بنية الزمن على حركة الأجسام، مما يجعلها تسقط أو تنجذب نحو بعضها البعض.

الآن لا يعني شيئاً:

ماذا يحدث الآن في مكانٍ بعيدٍ؟ على سبيل المثال: تخيل أنّ أختك ذهبت إلى الكوكب المُكتَشَف حديثاً بروكسيما بي الذي يدور حول نجم يبعد عنا 4 سنوات ضوئية،

ماذا تفعل أختك الآن في بركسيما بي؟ الإجابة الصحيحة على هذا السؤال، هي (ليس لهذا السؤال أي معنى)،

إنه مثل السؤال: ماذا يوجد هنا في بكين؟ عندما نكون في البندقية، وهذا ليس له أي معنى، لأنه إذا استخدمت كلمة ” هنا” في البندقية، فأنا أشير إلى مكان في البندقية وليس في بكين.

إذا سألت أختك التي معك في الغرفة ماذا تفعلين الآن؟ فالإجابة السهلة المعتادة هي أنت تنظر إليها وتستطيع معرفة ما تفعله، وإذا كانت بعيدة عنك تستطيع أن تتصل بها وتسألها عن ما تفعله.

لكن انتبه: إن الضوء يستغرق وقتاً ليصل إليك، فإذا نظرت لأختك فأنت تستقبل الضوء المسافر منها إلى عينيك.

نقول إنّ النانو ثانية هي أجزاء صغيرة من الثانية، لذلك أنت لا ترى تماماً ماذا تفعل أختك الآن، لكن أنت ترى ما كانت تفعل قبل بضعة نانو ثانية.

فإذا كانت أختك في نيويورك، واتصلت بها من ليفربول، إن صوتها يستغرق بضعة أجزاء من الثانية ليصل إليك، لذا فإن أقصى ما يمكنك معرفته، هو ما كانت أختك تفعل قبل بضعة أجزاء من الثانية، إنه ربما ليس بالفارق الكبير.

ماذا يعني هذا ”التعديل في بنية الزمن”؟ بالطبع تباطؤَ الوقت المذكور أعلاه.

فالكتلة تبطئ الزمن من حولها، والأرض كتلتها كبيرة وتبطئ الزمن من حولها، والأمر ينطبق على السهول فيمر فيها الوقت ببطء نظراً لقربها من الأرض، وفي الجبال يمر الوقت بصورةٍ أسرع، لذلك فإن الشخص الذي يكون عند مستوى سطح البحر يكبر بشكلٍ أبطأ.

ولذلك إذا سقطت الأشياء في الفضاء بين الكواكب، فإنها لن تسقط، بل ستطفو بسبب مرور الوقت بشكلٍ منتظم.

ومن جانبٍ آخر، هنا على سطح كوكبنا تسقط الأشياء إلى الأسفل لأن الزمن يتباطأ على الأرض في الأسفل،

وبالتالي، على الرغم من أننا لا نستطيع ملاحظة هذا بسهولة، إلا أنّ تباطؤ الزمن له تأثيراته الحاسمة، فالأشياء تسقط بسببه، وهو ما يسمح لنا بإبقاء أقدامنا على الأرض.

هذا بسبب أن أجسامنا تميل بشكل طبيعي إلى حيث يمر الوقت بشكل أبطأ، فيمرّ الوقت بالنسبة لأقدامك ببطءٍ أكثر منه بالنسبة لرأسك.

هل يبدو هذا غريباً؟ مثلاً عندما نشاهد غروب الشمس وهي تختفي ببطء خلف السحب البعيدة، نتذكر فجأةً أنّ الشمس ليست هي التي تتحرك، بل الأرض هي التي تدور، ونحن نتصور كوكباً كاملاً ونحن عليه ندور بعيداً عن الشمس.

السرعة والوقت:

يتباطأ الزمن متأثراً بالكتلة، فقَبْلَ فهم أن الكتلة تبطئ الزمن بعشر سنوات، لاحظ أينشتاين أن الزمن يتباطأ متأثراً بالسرعة. إن نتيجةَ هذا الاكتشاف بالنسبة لفهمنا الأساسي للزمن كانت مدمرة.

والحقيقة بحد ذاتها بسيطة، فبدلاً من إرسال صديقين إلى الجبال والآخر إلى السهول، نقوم بإبقاء أحدهما ساكناً، ونطلب إلى الآخر أن يقوم بجولة.

يمر على الصديقين فترات زمنية مختلفة، فالشخص الذي يتحرك يتقدم بالسن بصورةٍ أبطأ، فساعته تشير إلى مرور الوقت بشكلٍ أبطأ ولديه وقتٌ أقل للتفكير، والنبات الذي يحمله يستغرق وقتاً أطول لينمو، وهذا نفسه بالنسبة لكل شيءٍ يتحرك إذ يمر الوقت عليه بصورةٍ أبطأ.

لكن يجب على الشخص أن يتحرك بسرعةٍ كبيرةٍ حتى يكون هذا التأثير ملموساً، وتم قياسه أول مرة في السبعينات باستخدام ساعات دقيقة على متن طائراتٍ، فعرضت هذه الساعات وقتاً متأخراً عن الساعات الموجودة على الأرض، واليوم يمكن ملاحظة تباطؤ الزمن في العديد من تجارب الفيزياء.

حتى قبل هذا الإثبات في السبعينات اكتشف أينشتاين وهو في الخامسة والعشرين من عمره عندما كان يدرس الكهرومغناطيسية أن الزمن يتباطأ.

اتضح أن هذا الاستنتاج ليس معقداً، فالكهرباء والمغناطيسية وُصِفَتا بشكلٍ جيدٍ في معادلات جيمس كليرك ماكسويل، وهو عالم فيزياء رياضي اسكتلندي.

تتضمن هذه المعادلات المتغير الزمني المعتاد t،

لكن لها خاصية غريبة، وهي إذا سافرت بسرعةٍ معينةٍ، فإنّ معادلات ماكسويل بالنسبة لك لا تُعَدُّ صحيحة (أي أنها لا تصف ما تقيسه أنت)، إلا إذا أسميت الزمن متغيراً مختلفاً وهو t´.

لقد أصبح علماء الرياضيات على درايةٍ بهذه الميزة الغريبة لمعادلات ماكسويل، لكن لم يتمكن أحد من فهم ما تعنيه.

أدرك أينشتاين أهمية t وهو الوقت الذي يمر إذا بقيت ساكناً، أما t´ فهو وقتك، حيث t هو الوقت الذي تقيسه ساعتي في أثناء السكون، وt´ هو الوقت الذي تقيسه ساعتي في أثناء الحركة.

لم يتخيل أحدٌ أن الوقت يمكن أن يكون مختلفاً بالنسبة للساعة الثابتة عنه بالنسبة للساعة المتحركة.

وبالتالي فإن الجسم المتحرك يمر بمدة أقصر من الجسم الساكن، وبالنسبة للجسم المتحرك، فالساعة تشير إلى الثواني بشكلٍ بطيء، والنبات ينمو ببطء، والشاب يحلم أقل.

ولا يقتصر الأمر على عدم وجود وقتٍ واحدٍ لأماكنَ مختلفةٍ، بل لا يوجد حتى وقت واحد لأي مكان معيّن، يمكن ربط الوقت فقط بحركة شيء ما بمسار معيّن.

لا يعتمد الوقت فقط على مكان تواجدك ودرجة قربك من الكُتَل، بل يعتمد أيضاً على السرعة التي تتحرك بها، إنها بحد ذاتها حقيقة غريبة، لكنّ عواقبها غير عادية، لذا كونوا على استعداد لأننا على وشك أن نبدأ.

إذا كانت أختك على كوكب بروكسيما بي حيث يستغرق الضوء أربع سنوات للوصول إليك من هناك، ثم نظرت عبر التليسكوب إليها، أو تلقّيت منها اتصالاً لاسلكياً، فأنت ستعرف ماكانت تفعل قبل 4 سنوات، بدلاً من معرفة ماذا كانت تفعل الآن، إذاً ليس ماتراه من خلال التليسكوب أو تسمعه عبر الراديو هو بالضبط الآن في بروكسيما بي.

لذا يمكنك القول إنّ ما تفعله أختك الآن هو ما ستفعله بعد 4 سنوات من اللحظة التي تراها منها عبر التلسكوب. لكن، لا بعد 4 سنوات من وقت أختك حين رأيتها من خلال التليسكوب، ربما تكون قد عادت إلى الأرض (نعم هذا ممكن).

10 سنوات أرضية في المستقبل، لكن بنفس الوقت لا يمكن أن تكون في المستقبل.

ربما يكون من المعقول إذا غادرت أختك قبل 10 سنوات إلى بروكسيما بي مصطحبةً معها تقويماً لتتبع الوقت، فهل يمكننا أن نفكر في أن الآن بالنسبة لها هي عندما مرت 10 سنوات؟ لا هذا لا ينفع ربما تكون قد عادت إلى الأرض بعد 10 سنوات في وقتها، وفي أثناء العودة يكون قد انقضى 20 عاماً.

اذاً ماهو الوقت الآن على كوكب بروكسيما بي؟

حقيقة الأمر أننا بحاجة إلى التوقف عن طرح هذا السؤال، لأنه لايوجد وقت خاص على كوكب بروكسيما بي يتوافق مع ما يشكل الزمن والمكان في الحاضر.

عزيزي القارئ توقف لحظة لنرى هذا الاستنتاج، في رأيي هذا الاستنتاج الذي تم التوصل إليه هو الأكثر إذهالاً في الفيزياء المعاصرة.

ببساطة ليس من المنطقي أن تتساءل عن اللحظة التي تتوافق الآن مع حياة أختك على كوكب بروكسيما بي.

أي أن الأمر يشبه السؤال عن فريق كرة القدم الذي فاز ببطولة كرة السلة، أو كم من المال كسب الطائر، أو كم تزن النوتة الموسيقية، إنها أسئلة لا معنى لها، لأن فرق كرة القدم تلعب كرة القدم وليس السلة، والطيور لا تنشغل بكسب المال، والأصوات ليس لها وزن.

إذاً يشير مصطلح ”أبطال كرة السلة” الى فريق من لاعبي كرة السلة وليس كرة القدم، والربح النقدي يشير إلى المجتمع البشري وليس إلى الطيور، إذاً مفهوم الحاضر يشير إلى الأشياء القريبة منا وليس إلى أي شيء بعيد.

حاضرنا لا يمتد في جميع أنحاء الكون إنه مثل فقاعة من حولنا.

إلى أي مدى تمتد هذه الفقاعة؟ إنه يعتمد على الدقة التي تحدد بها الوقت، إذ تم تحديد الحاضر بالنانو ثانية فقط على بعد بضعة أمتار، إذاً بالمِللي ثانية يتم تحديد الحاضر على بعد آلاف الكيلومترات، ونحن كبشر لا نميّز بين أعشار الثانية إلا بصعوبة بالغة، لكن يمكننا بسهولة أن نعتبر كوكبَنا بأكمله فقاعة واحدة، حيث التحدث عن الحاضر كما لو كان لحظة نتقاسمها معاً، هذا أقصى ما يمكننا فعله.

هناك ماضينا: كل الأحداث التي حصلت من قبل يمكننا أن نشهدها الآن.

في مستقبلنا، الأحداث التي سوف تحصل بعد اللحظة التي نعيشها الآن، بين الماضي والمستقبل هناك فترة زمنية ليست بالماضي، ولا المستقبل ولا تزال لها مدة: 15 دقيقة على المريخ، و8 سنوات على كوكب بروكسيما بي، وملايين السنين في مجرة المرأة المتسلسلة، إنها الحاضر المتوسع، ربما يكون هذا أعظم وأغرب اكتشافات أينشتاين.

جوهر العالم:

لقد أدى نموّ معرفتنا إلى تفككٍ بطيء لمفهومنا للوقت، وما بقي لنا هو مشهدٌ طبيعيٌ فارغٌ، يكاد أنْ يكون خالياً من أي أثر زمني.

عالَمٌ غريبٌ، ومع ذلك لا يزال هو العالم الذي ننتمي إليه، إنه مثل الوصول إلى قمة الجبال حيث لا شيء سوى الثلوج والصخور والسماء.

عالَمٌ مجرّدٌ من جوهره يتألق بجمالٍ مقلقٍ، إن الفيزياء التي أعملُ عليها (الجاذبية الكمية)، هي محاولةٌ لفهم وإضفاء معنًى متماسكٍ على هذا المشهدِ المتطرّفِ الجميلِ للعالَم دون وقت.

  • ترجمة: ريم مللي
  • تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
  • المصادر: 1