لماذا توجد الكثير من الكنائس المهجورة؟

التنقل بين الأحياء وفقدان الإيمان وحتى فواتير التدفئة كلها أسباب تجعل دور العبادة من بين أكثر الأماكن المنسية والمهجورة شيوعًا.

مرت سبع سنوات على زيارتي الأولى لكنيسة “صعود الرب” المهجورة في منطقة كنسينغتون في فيلادلفيا، لكنني لم أتوقع تدهور وضعها إلى هذا الحد. كانت تلك المرة الأولى في عام 2014، بعد عامين فقط من إغلاق الكنيسة. وحتى في ذلك الوقت، كان الطلاء المتقشر يغطي الكنيسة وامتلأت أرضيتها بالجص المتفتت؛ ضرر واضح ناجم عن تسرب في السقف وفقدان القدرة على التحكم في المناخ، ومع ذلك ظل المذبح الجميل بتماثيل الملائكة الراكعين سليمًا محتفظًا برونقه.

كانت المقاعد وتجهيزات الإضاءة المزخرفة ما زالت في مواضعها، وكان ما زال هناك بصيص من الأمل حول إمكانية تجديدها بقليل من الحظ والعثور على مالك جديد مناسب. قد يتغير نشاطها ولا تعود كنيسة مثلما كانت، لكن ربما كان سيكون لها مستقبل كمطعم أو ملهى ليلي أو شقق سكنية. تحولها لأي هيئة كان سيفي بالغرض، طالما ستبقي هذه الهيئة على بعض من هندستها المعمارية المهيبة.

لكن السنون ما بين زيارتي الأولى في 2014 وعودتي مرة أخرى في 2021 أكلت على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وما يحيطها وشربت. أصبح حي كنسينغتون، أحد الأحياء التقليدية للطبقة العاملة، يُعرف بكونه “وول مارت الهيروين”، وملجأ لعدد كبير من المشردين ممن لا مأوى لهم فأصبحوا مادة صحفية لمجلة نيويورك تايمز وصحيفة التايم.

استضافت الأبرشية التي تم تخصيصها في عام 1900، وكانت ثالث أكبر أبرشية في المدينة، الكثير من المشردين ممن يعانون من الإدمان، لدرجة أن أحد القساوسة الزائرين ضمن برنامج التوعية التابع لمؤسسة Mother of Mercy House قد وصف حالهم لصحيفة Catholic Philly قائلًا “بدا الأمر وكأنهم ينتظرون بدء القداس”.

في شتاء 2017 القارس، أشعل بعضهم النيران داخل الكنيسة طلبًا للدفء، لكن سرعان ما خرج الأمر عن نطاق السيطرة. أُخمد الحريق من دون وقوع أي إصابات خطيرة أو أضرار كارثية في صحن الكنيسة، لكن لم يكن الحظ حليفًا لأجزاء أخرى من المبنى. في زيارتي الثانية عام 2021، وبينما كنت أشق طريقي بحذر شديد بين ما تبقى، رأيت فضلات وواقيات ذكرية مستخدمة في كراسي الاعتراف وإبرًا تتناثر على الأرض هنا وهناك. التقطت صورة لما بدا لي في الوهلة الأولى أنه وجه شاب نائم، لكنني بعدها أدركت أن الشاب لم يكن على فراش بل في نعش. ألقى طاقم الإنقاذ ببقايا خشب الأرضيات المقاعد المكسورة من فتحات النوافذ. ولم يبق من المذبح سوى كومة من الطوب والركام.

إن وراء كل كنيسة مهجورة قصة مختلفة؛ لكن هذه القصص عادة ما تدور في فلك مجموعة من الثيمات: تغيرات في التركيبة الديموغرافية للأحياء، وتضاؤل الحضور والتمويل، والمباني المتهالكة وعلى رأس هذه الثيمات يأتي الفقر. والخطوط العريضة لقصة كنيسة الصعود لا تختلف عن قصص العديد من الكنائس الحضرية الأخرى.

ففي بعض أجزاء مدينة مثل بيتسبرغ، على سبيل المثال، يمكنك بسهولة العثور على ست كنائس في دائرة نصف قطرها لا يزيد عن بنايتين، بُنيت كل واحدة من هذه الكنائس لخدمة الفئة السكانية العرقية التابعة لها. ففي إحدى الزوايا، قد تجد كنيسة ألمانية، أو كنيسة بولندية أو كنيسة أيرلندية، وفي المبنى التالي قد تجد كنيسة سلوفاكية. وعلى افتراض أنهم جميعًا كاثوليكيين، وكثير منهم كانوا كذلك بالفعل، فالقداسات والتراتيل كانت تُقدم باللغات الأصلية، فكانت أشبه بروابط للتكامل والدعم الاجتماعي لمجتمعات المهاجرين سريعة النمو.

عكست المباني نفسها حرف وقيّم زائريها، نتيجة المزج بين الأحجار المستخرجة محليًا والزخارف المستوردة من الوطن الأم. ومع الهجرة الجماعية بعد الحرب إلى الضواحي وانهيار الاقتصادات الصناعية في العديد من المناطق، ناضلت الكنائس لجذب الناس. وفي كنسينغتون، مع الإغلاقات المتتابعة لمصانع المنطقة؛ كمصانع الأصباغ، المدابغ، مرافق تجهيز اللحوم ومصنع ستيتسون هات، و126 مصنع نسيج، انخفض الدخل أيضًا.

في عام 1970، كان 16.4% من الأسر في المنطقة الشمالية، التي تمثل جزءًا كبيرًا من كنسينغتون، تحت مستوى الفقر. وبحلول عام 2015، وصلت النسبة إلى 45.4%، وذلك وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة سيتي سنتر ديستريكت غير الربحية. وُحدت الكنائس ودُمِجت، لكن ذلك لم يكن كافيًا لمواكبة الإصلاحات الضرورية والمكلِّفة.

وتتفاقم هذه العوامل المحلية نتيجة التحول الوطني بعيدًا عن الدين المنظَّم والانقسامات بين رواد الكنيسة المتبقين والاتهامات بالاعتداءات الجنسية. اليوم، يزعم ما يقرب من ثلث البالغين الأمريكيين أنهم لا ينتمون إلى أي دين وتقترب هذه النسبة من 50% بين الأجيال الشابة.

أشار معهد هارتفورد لأبحاث الدين إلى انخفاض متوسط الحضور للخدمات الكنسية من 137 إلى 65 بين عامي 2000 و2020. كما أُغلِق عدد من الكنائس البروتستانيتنة أكبر بكثير مقارنة بما افتُتح في عام 2019، وساءت الأمور أكثر في أثناء الوباء. كما أصبحت الكنائس نفسها عالقة بشكلٍ كبير في مرمى صراعات سياسية حول قضايا مثل شمول الأنواع الاجتماعية والدعم العلني للمرشحين السياسيين، وهي عادة صراعات تدور بين أجيال مختلفة. ومن المفارقات المريرة، أن الكنائس المسيحية تسببت في إغضاب أتباعها، بغض النظر عن دعمهم أو إدانتهم اليوم للهجرة، وذلك على الرغم من أن عقيدة هذه الكنائس قائمة في الأساس على عبادة رجل قضى طفولته المبكرة كلاجئ فار من الاضطهاد. إن الخلافات الناجمة عن المعتقدات السياسية ليست بالأمر الجديد، بل إنها في الواقع أدت في كثير من الأحيان إلى ظهور طوائف جديدة. ولكن مع نقص أعداد المصلين، قد لا يكون تشرذم وتشعب الكنائس خيارًا. فسابقًا كان بمقدور هذا الانقسام أن يؤدي إلى إنشاء كنيستين، أما اليوم فقد يؤدي إلى عدم وجود كنائس على الإطلاق.

وكشخص يهدف إلى توثيق المواقع التاريخية المندثرة بدلًا من إصدار الأحكام عليها، فإنني أبذل قصارى جهدي لوضع إيماني جانبًا، أو بالأحرى التجرد منه، عندما يتعلق الأمر بدراستي لهذه المواقع المتدهورة التي أزورها. فوراء كل مبنى مهجور فضائح أو أعباء، ولكن أيضًا هناك ذكريات إيجابية، ومهمتي هي تأريخ كليهما. ومع وصول المزيد والمزيد من المواقع الدينية إلى حالات متقدمة من الهجر، حتى تتحول في نهاية المطاف إلى مقابر للنفايات، لا يسعني إلا التعجب من هذه الخسارة.

عند مواجهة بعض الأشخاص بصور لكنيسة مهجورة، يتحسرون على تخلي المجتمع عن إيمانه. بينما آخرون لا يطيقون الانتظار حتى تلقى جميع الكنائس نفس المصير. لكن غالبًا ما تغيب، عن كلا الطرفين، حقيقة أن هذه الكنائس أشبه بمستودعات لفن وتاريخ مجتمعاتهم لا يمكن استبدالها. على سبيل المثال، في إحدى الكنائس الصغيرة التابعة لجماعة الفحم في ولاية بنسلفانيا، لا يسعني إلا أن ألاحظ أن المذبح كان يشتمل على ألواح فحم الأنثراسايت المحفورة بنقوش من المعاول والمجارف والمصابيح الأمامية لعمال المناجم.

إن الحجارة المستخرجة محليًا والأخشاب القديمة المستخدمة في الكنائس التي بُنيت على مدار القرون الماضية قد نفدت الآن من معظم الأماكن. حتى المهن الضرورية لبناء الكنائس التقليدية كالأعمال الخشبية والشغل بالحجارة والنسيج والزجاج المعشق، في طريقها للاندثار أيضًا. وجنبًا إلى جنب مع المنازل، أصبحت الكنائس أكثر أشكال المباني المهجورة شيوعًا في الولايات المتحدة، لدرجة أن أعدادها أصبحت تمثل مشكلة حلها الأكثر شيوعًا عادة هو الهدم.

تمثل الكنائس تحديات فريدة لإعادة تقديمها في ثوب جديد، الذي غالبًا ما يكون الخيار الأفضل لإنقاذ مبنى تاريخي مهجور. لكن اتساعها وأسقفها العالية تجعل محاولات التدفئة والتبريد باهظة، كما أن المواد والمهارات اللازمة لإصلاحها قد تكون مكلِّفة. هذا لا يعني عدم وجود قصص نجاح لتحويل كنائس شاغرة إلى مكاتب أو مكتبات أو حانات أو مطاعم أو حتى متنزهات للتزلج. فبعض المنظمات مثل Partners for Sacred Places تناضل من أجل دعم التجمعات الدينية القائمة وتشجيع خطط إعادة الاستخدام التكيُّفية. ومع ذلك، سيظل التمويل والانتروبيا دائمًا ما يمثلان عقبات أمام مثل هذه المشروعات.

في الوقت الحالي، ما زالت كنيسة صعود الرب موجودة، ومداخلها مغطاة بالألواح أو بالطوب، مجردة من الزخرفة لكن ليس من الذكريات. في عام 1923 م، أقنع الأب “كيسي” اللاعب الشهير بيب روث للعب في فريق الكنيسة لكرة البيسبول ضد متجر Lit Brothers. وصفت صحيفة فيلادلفيا انكوايرر كرنفال كنيسة صعود الرب الصيفي لعام 1905، بأنه أحد أكثر المهرجانات التي شهدتها المدينة “تنوعًا وحداثة على الإطلاق”، وذلك بعدما تميز بعروض الفودفيل المسرحية الترفيهية والإضاءات الكهربائية الحديثة الفخمة والسيارة التي تتيح لك التجول في الحي، وعروض الصور المتحركة، . شهدت هذه الكنيسة تعميد الأطفال واحتفالات الزفاف، وأقيمت بها مراسم الحداد على أشخاص مثل الشاب الموجود في الصورة التي وجدتها.

وربما ذات يوم، عندما ترتفع قيمة العقارات في الحي بالقدر الكافي لتشجيع إعادة التطوير، أو ربما حتى التحسين، كما حدث في الأحياء المجاورة، ستُهدم كنيسة صعود الرب. إنها الآن في حالة يرثى لها يصعب معها الحصول على فرصة إحياء ثانية، وحتى ذلك الوقت، ستواصل تدهورها البطيء والهادئ لتنضم إلى قائمة الأماكن المهجورة التي لا روح فيها، ستتبعثر ذكريات الأعياد والجنازات أبعد فأبعد في الزمان والمكان. لا أستطيع أن أنقذ العديد من الأماكن التي زرتها بالقصص الصحفية والصور. في بعض الأحيان، كل ما يتبقى فعله هو مشاركة بعض اللحظات الصامتة وبذل قصارى جهدي واضعًا إياه في كلمات وصور لضمان عدم محو هذه الذكريات بشكل تام.

لمزيد من الصور والتعرف بشكل أكبر على تاريخ كنيسة الصعود، تفضل بزيارة معرض “أمريكا المهجورة”، ولمزيد من المعلومات حول خسارة المنشآت الدينية في أمريكا، استمع إلى هذه الحلقة من بودكاست Abandoned America.

ماثيو كريستوفر كاتب ومصور استكشف عددًا من المواقع المهجورة في جميع أنحاء العالم على مدى عقدين من الزمن، مؤرخًا لبعض المعالم المفقودة في المجتمع الأمريكي. يمكنك العثور على المزيد من أعماله على موقعه الإلكتروني Abandoned America أو استمع إلى البودكاست الخاص به Abandoned America.ه

  • ترجمة: رانا عبد الرحمن
  • تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
  • المصادر: 1