أوّل خريطة كاملة للدّماغ على غرار خرائط جوجل

كشف فريق بحث دوليّ اليوم عن إنجازٍ قد بدا مُستحيلًا منذ سنوات قليلة، إنّها أوّل خريطة كاملة للوصلات العصبيّة في دماغ ذبابة الفاكهة. هذا الإنجاز يُعدّ نقطة تحوّل كبيرة، وهو مصحوب بسلسلة من الأبحاث الّتي تُظهر كيف أنّ هذا الإنجاز بدأ يؤدّي بالفعل إلى اكتشافات علميّة جديدة، وما زال هناك المزيد في المستقبل.

**لماذا نحتاج إلى خرائط الدّماغ؟**

تُسمّى الخرائط الشّاملة الّتي تُظهر كلّ عصبون (خليّة عصبيّة) في الدّماغ وكلّ الاتّصالات بين هذه العصبونات: «كونّيكتومز -Connectomes». كانت دودة «الرّبداء الرّشيقة – Caenorhabditis elegans» أوّل كائن رُسِمت خريطته العصبيّة بالكامل، بعد أن وُصِفَ جهازها العصبيّ بالكامل في ورقة بحثيّة رائدة نُشرت عام 1986. شكّل هذا العمل مستقبل الأبحاث المتعلّقة بالدّودة، والّتي تُعدّ أحد أكثر النّماذج الحيّة استخدامًا في البحوث العلميّة، ولا يزال تأثيره واضحًا حتّى اليوم.

ومع ذلك، فإنّ هذه الدّودة لا تملك دماغًا بالمعنى التّقليديّ، بل تمتلك «حلقة عصبيّة – Nerve ring» تُمكِّنها من القيام ببعض الأمور المدهشة مثل التّعلّم البسيط، لكن للوصول إلى مستوى تعقيد الدّماغ البشريّ، يجب البحث في مكان آخر.

هنا تأتي «ذبابة الفاكهة (دروسوفيلا ميلانوجاستر) – Drosophila melanogaster» لتلعب دورًا مهمًّا، وتعتبر هذه الذّبابة من أهمّ الكائنات النّموذجيّة في علم الأعصاب.

يشرح الدّكتور جريجوري جيفريز من جامعة كامبريدج، وهو أحد الباحثين الرّئيسيّين في الدّراسة الجديدة، قائلاً: “تستطيع الذّبابة القيام بأشياء مُعقّدة مثل: المشي، الطّيران، التّنقّل، وحتّى غناء الذّكر للأنثى”. وتتمكّن الذّبابة من كلّ هذا بفضل 139,255 عصبونًا في دماغها، متّصلة بما يزيد عن 50 مليون مشبك عصبي.

يضيف جيفريز: “إذا أردنا فهم كيفيّة عمل الدّماغ، نحتاج إلى فهم ميكانيكيّ لكيفيّة ترابط جميع العصبونات معًا وكيف تسمح لنا بالتّفكير، وبالنّسبة لمعظم الأدمغة، لا نملك فكرة عن كيفيّة عمل هذه الشّبكات”.

ولهذا السّبب انخرط العديد من العلماء في مجال الاتّصالات العصبيّة، وأدركوا أهمّيّة رسم خريطة الدّماغ بهذا المستوى.

كيف وصلنا إلى هنا؟

تأسّسَ «اتّحاد فلاي واير – FlyWire Consortium» للاستفادة من أحدث التّقنيّات وجمع الخبرات من عشرات المختبرات حول العالم بهدف إنشاء خريطة كاملة لتوصيلات دماغ ذبابة الفاكهة، لكنّ المهمّة كانت شاقّة. وكما كتبت أنيتا ديفينيني في تعليق ضمن قسم “أخبار وآراء” المرفق مع الأبحاث المنشورة حديثًا: “منذ سنوات قليلة ماضية، كان الحصول على خريطة دماغيّة كاملة لذبابة الفاكهة يبدو بعيد المنال”.

تمتلك دودة الرّبداء الرّشيقة حوالي 302 عصبونًا فقط. كما سبق للعلماء أن رسموا خريطة دماغ يرقة ذبابة الفاكهة، الّتي تحتوي على حوالي 3,000 عصبون. لكن بالنّسبة لذبابة الفاكهة البالغة، كانوا بحاجة إلى خريطة تحتوي على نحو 140,000 عصبون، وهذا الرّقم لا يزال ضئيلًا مقارنة بالدّماغ البشريّ الّذي يحتوي على نحو 80 مليار عصبون.

بدأت الخريطة ب 21 مليون صورة لدماغ أنثى ذبابة الفاكهة البالغة. تمّت مُحاذاة هذه الصّور وإنشاء نماذج ثلاثيّة الأبعاد لكلّ عصبون بمساعدة الذّكاء الاصطناعيّ (AI)، وبعدها، تمّت مُراجعة هذه النّماذج بعناية فائقة، وهو عمل تطلّب مساهمة مئات الباحثين والعلماء الدّوليّين، وتشير التّقديرات إلى أنّ شخصًا واحدًا لوحده كان سيستغرق 33 عامًا لإنجاز هذا العمل بمفرده.

بحلول عام 2021، كان 15% فقط من العصبونات قد خضع للمراجعة، لذا فإنّ التّقدّم الّذي تحقّق خلال ثلاث سنوات فقط مثير للإعجاب.

ثمّ استفادوا من البيانات الموجودة لتحديد وفهرسة المشابك العصبيّة – الّتي يزيد عددها عن 50 مليونًا! – وبعد ذلك جاء التّحدّي المتمثّل في “قراءة” الخريطة. قام جيفريز مع دافي بوك من جامعة فيرمونت وزملاؤهم في إحدى الأوراق البحثيّة بتصنيف أنواع العصبونات المختلفة داخل الدّماغ، حيث يوجد أكثر من 8,400 نوع، أكثر من 4,500 نوع منها جديد تمامًا على العلم.

يمكننا الآن، بفضل الرّسوم المتحرّكة ثلاثيّة الأبعاد الّتي أُنشِئَت من مشاريع الأبحاث المختلفة، استكشاف أعماق أجزاء معيّنة من الدّماغ. يمكنك التّجوّل في العصبونات السّمعيّة للذّبابة، والّتي تستخدمها الأنثى لاكتشاف أغاني الذّكور المحتملين للتّزاوج. ويمكنك استكشاف جزء من “البوصلة الدّاخليّة” للذّبابة، المعروفة بحلقة «EPG».

هذه الخليّة العصبيّة CT1 هي واحدة من اثنتين فقط، كل منهما تغطّي العين بأكملها وتحتوي على أكثر من 140 ألف مشبك.

ماذا ينتظرنا في المستقبل؟

يُعدّ هذا الإنجاز مذهلًا، لكن إذا كنت تتطلّع لرؤية شيء مشابه لدماغ الإنسان، فقد تحتاج للانتظار فترة طويلة؛ لأنّ عرض دماغ الذّبابة لا يتجاوز 1 ميليمتر، بينما دماغ الإنسان أكثر تعقيدًا بشكل لا يُصدَّق.

لكن لدى الفريق هدف آخر مأخوذ مُسبقًا بعين الاعتبار؛ يقول الدّكتور سيباستيان سيونغ من جامعة برينستون، وهو أحد المشاركين الرّئيسيّين في البحث: “دماغ الذّبابة يمثّل محطّة هامّة في طريقنا لرسم خريطة وصلات دماغ الفأر بالكامل.”.

الآن، بعد أن أثبت مشروع فلاي واير ما يمكن تحقيقه، لا يوجد سبب لعدم توسيع هذه المنهجيّة تدريجيًا لمواجهة تحدّيات أكبر، وفي الوقت نفسه، أصبحت خريطة الوصلات العصبيّة تسهّل الأبحاث الّتي قد يكون لها تأثيرات مهمّة على البشر أيضًا، تقول ديفينيني: “سنوات من العمل التّجريبيّ لتتبّع الوصلات العصبيّة ستُستبدل الآن بعدّة نقرات على موقع فلاي واير”.

يُشارك الذّباب البشر في نحو 60% من الحمض النّوويّ، وهناك العديد من أوجه الشّبه في كيفيّة عمل أدمغتنا، يمثّل نشر هذه الخريطة الجديدة لحظة تاريخيّة فارقة ستُشكّل بلا شكّ أبحاث علم الأعصاب لعقود قادمة.

نُشرت الورقة البحثيّة الرّئيسيّة في مجلّة «الطّبيعة (نايتشر) – Nature»، ويمكن الوصول إلى الأوراق المرافقة الأخرى عبر صفحة الوصول المُرفقة.

  • ترجمة: نِهال عامر حلبي
  • تدقيق علمي ولغوي: حلا سليمان
  • المصادر: 1