
فوائد العزلة: كيف تستفيد إلى أقصى حد من الوقت الذي تقضيه بمفردك؟
لَكَ مساءٌ تخلو فيه إلى نفسك، وقد انشغل الأهل والأصحاب عنك بما لهم من شؤون. يخالطك العجب من وقت الفراغ هذا، إذ قلّما تجد في أيامك المزدحمة مثلَه. وبينما تطوف في أرجاء منزلك، قد تمرّ بعينك على غرض كنت قد صنعتَه فيما مضى، حين كنت مشغوفًا بهواية ما. يوقظ فيك هذا الغرض ذكرى تلك اللحظات، ويذكّرك بالثناء الذي تلقيته حين أتممتَه. ثم تتنبه إلى أن ربع ساعة مرت دون أن تشعر.
استكشاف متعة العزلة
وفقًا لدراسة جديدة أجرتها إيما برادشو وزملاؤها من الجامعة الكاثوليكية الأسترالية (2025)، فإن فوائد العزلة (مقابل الوحدة) بدأت تُقدَّر في علم النفس. ومع ذلك، “على الرغم من الفوائد المزعومة للعزلة، قد يجدها البشر منفرة”. حتى أن مجموعة سابقة من الباحثين وجدت معظم الرجال “يفضلون الصعقات الكهربائية الخفيفة على الجلوس بمفردهم بهدوء خمس عشرة دقيقة فقط”. يا للهول!
مع ذلك، تشير برادشو وزملاؤها إلى أن هناك طرقًا يمكن من خلالها اعتبار العزلة أمرًا منفرًا. إذا تعاملتَ مع هذه المناسبات التي تقضيها بمفردك بعقلية سليمة، فقد يكون لها القدرة على تحسين صحتك. ويقترح الباحثون أن أفضل سُبل ذلك هو الرجوع إلى الذاكرة، واستحضار اللحظات التي لُبّيت فيها الحاجات النفسية العميقة. من منظور المؤلفين لنظرية التحديد الذاتي (SDT)، فإن “الشروط الأساسية” للأداء الأمثل هي تلبية احتياجاتك للاستقلالية (الإرادة الحرة)، والكفاءة (الفعالية)، والتواصل (القرب). إن استحضار الذكريات التي تعكس أوقاتًا أشبعت فيها هذه الاحتياجات من شأنه أن يسمح للعزلة بأن تتحول إلى وقت ليس للتأمل فحسب، بل أيضًا للرضا.
استخدام العزلة لتعزيز الصحة النفسية
في دراستين أُجريتا عبر الإنترنت على بالغين (متوسط أعمارهم في أوائل الخمسينيات)، اختبر برادشو وزملاؤه ما إذا كانت الذكريات العفوية التي تعكس إشباع متطلبات نظرية التحديد الذاتي (الدراسة 1) أو الذكريات المُستحثة تجريبيًا التي تعكس إشباع متطلبات نظرية التحديد الذاتي قادرة على تحويل العزلة إلى تجربة صحية إيجابية.
طُلب من المشاركين في الدراسة 1 قضاء بضع دقائق في وصف ذكرى تتعلق بلحظة حققوا فيها هدفًا مهمًا. بعد ذلك، طُلب منهم الجلوس بمفردهم لمدة خمس دقائق دون فعل أي شيء سوى التفكير. ثم تطورت التجربة عبر الإنترنت إلى مجموعة من تقييمات الصحة النفسية، بالإضافة إلى اختبار للتلاعب. ولتحديد ما إذا كان التأثير المتوقع لنظرية التحديد الذاتي سيظهر في تقييمات ما بعد العزلة، رمَّز الباحثون الذكريات التي ولّدها المشاركون إلى جوهرية (حاجات نفسية) وخارجية (الشهرة، والتقدير، والمكاسب المالية). واتضح أن كلتا المجموعتين من الذكريات مرتبطة بتقييمات أعلى لإشباع الاحتياجات، بغض النظر عما إذا كانت جوهرية أو خارجية في طبيعتها.
في الدراسة الثانية، انتقل فريق البحث إلى عملية تلاعب، حيث تلقى المشاركون تعليمات تُوجِّههم للتأمل، خلال فترة من العزلة، في ذكريات تعكس إشباع الحاجات الجوهرية مقابل الحاجات الخارجية. بدأ كلا الشرطين بنفس الأمر:
باستخدام مربع النص، يُرجى وصف ذكرى شخصية بالتفصيل عن وقت حققت فيه أهدافًا:
… مثل فهم نفسك بشكل أفضل؛ تقبُّل شيء ما عن نفسك؛ إيجاد معنى لحياتك؛ تعلم شيء جديد أو تعميق معرفتك بشيء ما؛ مساعدة شخص ما، أو مجموعة، أو مجتمع؛ بناء علاقة وثيقة أو رومانسية مع شخص ما أو الحفاظ عليها بشكل هادف (محفز جوهري).
… مثل الحصول على تقدير اجتماعي مرغوب من شخص أو أكثر، أو بعد نيل جائزة أو مكافأة؛ أو الشهرة؛ أو مكسب مالي (سواء من خلال العمل، أو الفوز بجائزة، أو تلقي أموال كهدية)؛ أو إثارة إعجاب شخص ما؛ أو أن يُعترف بجاذبيتك الجسدية (محفز خارجي).
في الحالة المحايدة، طُلب من المشاركين التفكير في يوم عمل عادي.
بعد تحفيز الذاكرة، عُرضت تعليمات العزلة نفسها بواسطة برنامج الاستبيان، ثم قيّم المشاركون مشاعرهم بالانفعال والإثارة، بالإضافة إلى مشاعر الاستنزاف والحيوية. ومرة أخرى، كانت الفرضية أن تأمل الذاكرة الجوهرية أثناء العزلة سيؤدي إلى رفاه أكبر وفقًا للتقييمات المُقدمة بناءً على هذه الأبعاد.
في هذه الدراسة الثانية، أظهرت العزلة مرة أخرى نتائج إيجابية وفقًا لمقياسي الرفاهية والتحفيز. ومع ذلك، هذه المرة، لم يكن تأثير التذكير الخارجي مساويًا لانعكاسات الذاكرة الجوهرية فحسب، بل تجاوزها أيضًا.
ولكن عند التمحيص، ظهر أن التمييز بين النوعين ليس دومًا واضحًا. فهل تُعدّ هذه ذكرى جوهرية أم خارجية: “مُنحت جائزة من قناة إخبارية لأني قمت بعمل إنساني”؟ أو قول أحدهم: “حين أقلعت عن الشرب وبدأت حضور جلسات الدعم الذاتي”- هذه تجربة ذاتية، لكن فيها الحلو والمر معًا.
إحدى وجهات النظر حول الدافع الخارجي هي أنه يتناقص لأنه لا يمكن إشباعه بالكامل. بمعنى آخر، بمجرد أن تتذوق الشهرة، تظل راغبًا في المزيد. في المقابل، أظهرت نتائج هذه الدراسة أن الذكريات الجوهرية هي التي تنطبق عليها معايير “السلاح ذو الحدين”.
وختامًا لهذه التحليلات، خلص برادشو والآخرون إلى أن الأهم ربما لا يكمن في محتوى الذكرى، بل في أسباب أهميتها. علاوة على ذلك، في الواقع، ليس من السهل فصل الجوهري عن الخارجي بطرق تتوافق مع نموذج نظرية التحديد الذاتي.
استخدام وحدتك بحكمة
لم تتوافق هذه النتائج مع ما طمح إليه المؤلفون، وهو المساعدة في تطوير “مهارات العزلة” (أي تعليم الناس التأمل في الجوهري). ومع ذلك، فقد أيدوا قيمة العزلة ليس كحالة يجب تجنبها، بل كمتعة. أيدت كلتا الدراستين فوائد العزلة بغض النظر عن محتوى ذكريات الناس خلال تلك الفترة القصيرة.
بالعودة إلى مثال رؤيتك لهذا الشيء الناتج عن إبداعك، قد يصعب عليك التمييز بين فرحتك بإبداعه وفخرك بإعجاب الآخرين به. وفقًا للدراسة الأسترالية، من المستحيل فعل ذلك على الأرجح. إن انخراطك النشط في استحضار تلك الذكريات هو ما يُنشطك ويجعل فترة وحدتك تلك تُعزز شعورك بالراحة.
باختصار، إن اعتبار العزلة فرصة للتأمل فيما يهمك، لا كعقاب، يمكن أن يساعدك على جعل وقت وحدتك يمر بسرعة، ومصدرًا للرضا أيضًا.
الدكتورة سوزان كراوس ويتبورن، الحاصلة على درجة الدكتوراه، هي أستاذة فخرية في العلوم النفسية وعلوم الدماغ في جامعة ماساتشوستس أمهرست.
- ترجمة: فضيلة محجوب
- المصادر: 1