المشيمة والسرطان: حين يكشف سرّ الحياة مفاتيح الموت

على غرار الخلايا السرطانية، تنقسم خلايا المشيمة- التي تزود الجنين بالأوكسجين والعناصر الغذائية في معظم الثدييات- بسرعة وتغزو الأنسجة، وتتفادى تدمير الجهاز المناعي، إلا أن بيولوجيا الأم تبقيها تحت السيطرة بطريقة ما.
وبعد قرون من الحيرة، بدأ الباحثون في أوائل القرن العشرين يفهمون ماهية السرطان ومن أين أتى، محددين بدقة بعض المواد الكيميائية والفيروسات التي تساهم في حدوث المرض
إلا أن بعض النظريات لم تكن دقيقة تمامًا؛ فقد افترض عالم البيولوجيا التطورية جون بيرد أن الخلايا السرطانية هي في الأصل أرومات غاذيةــ وهي خلايا تشكّل الطبقة الخارجية للجنين الأولي وتتحول لاحقًا إلى المشيمةــ وُجدت في مكان غير مناسب؛ أي ترسّخت عن طريق الخطأ في نسيج الجنين أثناء التطور، مسببة مشكلات في مراحل لاحقة من الحياة.

وعلى الرغم من أننا نعلم اليوم أن الأورام لا تنشأ من الأرومة الغاذية، فإن نظرية بيرد تبرز بشكل لافت أوجه تشابه بين بيولوجيا المشيمة وبيولوجيا الأورام.
وقال شيتيز، عالم بيولوجيا الخلية في جامعة كونيتيكت: «تغزو خلايا المشيمة جسم الأم مستخدمة العديد من الآليات المشابهة لآليات السرطان، وأحيانًا تبتكر آليّات جديدة».
وتطول قائمة التشابه، فتمر خلايا المشيمة بفترات من فرط الانقسام يصاحبها زيادة تنشيطٍ لعوامل نمو عديدة وآليات مضادة للاستماتة.
كما تفرز عوامل محفزة لنمو الأوعية الدموية بهدف الوصول إلى الأكسجين والعناصر الغذائية.

وأجرى الباحثون في جامعة كامبردج، عام ٢٠٢١، تسلسلًا جينيًا لعينات من نسيج المشيمة، وصُدموا بمدى تنوع الطفرات الجينية فيها، كما لاحظوا أن السّمات الطفرية في المشيمة تشابه تلك التي تُرى في الورم الأرومي العصبي والساركومة العضلية المخططة.
وأضاف شيتيز: «يخدع السرطان جهازنا المناعي بتمويه الاستجابة المناعية وقمعها كحركة ‘كش ملك’، وبذلك ينجو من تدميره بسهولة بواسطة المناعة».
ومرة أخرى، مثل خلايا السرطان تعد خلايا المشيمة أجسامًا غريبة:
فعلى الرغم من اشتراكها في بعض الجينات مع الأم، إلا أنها أيضًا تحمل الحمض النووي الأبوي.
ولو كانت في ظروف أخرى، لكان جهاز المناعة قد دمر هكذا خلايا غير ذاتية على الفور.

وبحسب دراسات عدة؛ يستخدم كلٌّ من الأورام والمشيمة استراتيجيات متشابهة لخداع جهاز المناعة.
فعندما نفهم كيف تتجنب المشيمة هجوم الجهاز المناعي، نستطيع ابتكار أساليب جديدة تجعل الخلايا السرطانية عُرضة لمهاجمة الجهاز المناعي.
في بحث نُشر عام ٢٠٢٤، قارن فريق من الباحثين من جامعة ميشيغان ــ تحت إشراف المختص في علم المناعة السرطاني ويبنغ زوــ خلايا الأورام البشرية مع خلايا الأرومة الغاذية باستخدام تقنية النسخ الأحادي للخلية.

لاحظوا أن كلا المجموعتين قد أظهرتا تعبيرًا مرتفعًا عن جين B7-H4، وهو جزيء نقطة تفتيش مناعي يثبط نشاط الخلايا التائية.
ثم أثبتوا تجريبيًا، على نماذج فأرية، أهمية هذا الجزيء في السطح البيني بين الأم والجنين وفي البيئة الدقيقة للأورام.
فقد أظهرت الفئران المحذوف منها جين B7-H4 ارتفاعًا في معدل ارتشاف الأجنة، مع تنشيط ملحوظ وتسلل أكبر للخلايا التائية إلى المشيمة مقارنة بالفئران البرية.
بل ربما كان الأهم من ذلك، في نموذج فأري لسرطان الثدي، وجد الباحثون أن تقليل مستويات جين B7-H4 دوائيًا يزيد فعالية مثبطات نقاط التفتيش المناعية( مجموعة من العلاجات المضادة للسرطان المعتمدة) في إبطاء تطور الورم وإطالة عمر الحيوانات.

لكن هذه طريقة واحدة فقط من بيولوجيا المشيمية التي يمكن أن توجهنا لعلاج السرطان.
وتعد المشيمة البشرية اجتياحية على نحو كبير، إذ ترسل نتوءات شبيهة بالأصابع مباشرة إلى دم الأم بصورة مماثلة للسرطان الخبيث الذي يجب أن يغزو سدى الأنسجة المحيطة لينتشر عبر الجسد.
بينما ركزت معظم الأبحاث عبر التاريخ على الآليات التي تستخدمها المشيمة أو الورم لغزو الأنسجة الأخرى، فإن شيتيز يدرس المشكلة من زاوية أخرى: كيف تتمكن الخلايا المحيطة من المقاومة؟
فقال: «لطالما شُبّه السرطان ببذرةٍ في تربة، تعتمد سرعة نموهاجزئيًا على خصائصها، وكذلك على طبيعة التربة وما توفره من ظروف ملائمة لنموها».
قد تختلف قابلية بطانة الرحم أو السدى للاختراق بين الأفراد اختلافًا طفيفًا، وهي على الأرجح تتأثر بعوامل بيئية ووراثية، مما يجعل تحديد الجينات المسؤولة بدقة أمرًا صعبًا، غير أن الاختلافات بين الأنواع تكون أكثر وضوحًا.

مثلًا، تمتلك رئيسيات والقوارض مشيمات عالية الاختراق( أو بطانات رحمية ذات قابلية عالية للاختراق)، بينما تتفوق الثدييات الأخرى في ضبط الاختراق المشيمي، فالكلاب والقطط تمتلك مشيمات متوسطة الاختراق، في حين يقل مستوى الاختراق إلى الحد الأدنى لدى الخيول والأبقار .
أجرى شيتيز وزملاؤه مقارنة بين الجينات عبر أنواع عدة ضمن هذا النطاق، وتمكنوا من تحديد المئات من الجينات المتعلقة بدرجة الاختراق المشيمي، بالإضافة إلى عدد محدود من عوامل النسخ التي تعد هامة في تنظيم هذه الجينات.

ثم استخدموا نماذج أنسجة ثلاثية الأبعاد فيها خلايا بشرية لدراسة أثر إزالة عوامل النسخ هذه على قابلية الأنسجة للاختراق.
فوجدوا أن تعطيل أي من عاملي النسخ GATA2 أو TFDP1 في الأرومة الليفية لبطانة الرحم البشرية، قد زاد كثيرًا من مقاومتها لغزو الأرومة الغاذية، على غرار ما يحدث في الحيوانات ذات المشيمة محدودة الاختراق كالأبقار.

ومن الجدير بالذكر، أن تعطيل هذه العوامل في خلايا الجلد قد عزز من مقاومتها لاختراق خلايا سرطان الجلد الخبيث.
ووضّح شيتيز: «عمليًا، إذا تمكّنّا من منح البشر بعض خصائص الأبقار – بالطبع هذا لا يعني أننا نريد جعل الشخص بأكمله يشبه البقرة- إنما فقط تحويل البيئة المحيطة بالورم لتشبه البيئة الموجودة عند الأبقار، عندئذ سيكونون قادرين على مقاومة اختراق الخلايا السرطانية. لذلك، نطور حاليًا علاجًا جينيًا يتضمن أخد خزعة من خلايا جلد المريض (السليمة)، وتعديلها لتصبح مشابهه لخلايا الأبقار من خلال تغيير جينات محددة، ثم إعادة زرعها بالقرب من الورم».

وبهذه الطريقة، قد يؤدي الفحص الدقيق للسطح البيني بين الأم والجنين و التسلسلات الجزيئية التي تنظم اختراق الخلايا وتجنب المناعة وغيرها من العمليات التي تفيد الجنين، إلى استراتيجيات جديدة يمكنها أن تعطل الآليات ذاتها في الأورام السرطانية.
ترجمة: صفاء سليمان
تدقيق: فريال حنا

  • ترجمة: صفاء سليمان
  • تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
  • المصادر: 1