الحساسية الشديدة نعمة، فهل من مغتنم لها!

ثلاث لآلئ مكنونة يمتلكها أصحاب الحساسية الشديدة دونًا عن غيرهم.

تعد الحساسية في المعالجة الحسية علامة فارقة لأصحاب الحساسية الشديدة (HSPs) المميزون بحساسيتهم العاطفية العالية وتفاعلهم الزائد مع المحفزات الخارجية والداخلية، وفي المقابل لا يشترط اتسام الفرد بها تصنيفه ضمن أصحاب الحساسية الشديدة.

إذ إن دقة حواسهم تمنحهم إدراكًا عاليًا يلاحظون من خلاله كل ما يدور في محيطهم من الذرَّة إلى المجرَّة. وما هذه الحساسية إلا سلاح ذو حدين؛ فتمنح من يتمتعون بها تواصلًا عميقًا وإبداعًا خلاقًا وتعاطفًا شديدًا، غير أنها تمتحنهم بالاستنزاف والتوتر والعصبية الدائمة وسط عالم يعج صخبًا ويسطع ألقًا وتعمه الفوضى.

ورغم محنها الجمَّة، تغدو الحساسية سُلَّم ارتقاء للذات؛ وما على شديدي الحساسية إلا أن يدركوا سماتهم الاستثنائية ويتعلموا أساليب إدارتها ليحولوا محنتهم منحةً. وسنكتفي بذكر أبرز ثلاث محن يواجهها الأشخاص ذوو الحساسية الشديدة، كما سنوصي بتدابير تطبيقية تستخلص المنح الكامنة فيها ليتفيؤوا بظلالها على الصعيدين الشخصي والمهني.

1. فيض المدخلات الحسية:

لعل أبرز معاناة يتعرض لها أصحاب الحساسية الشديدة فرط المحفزات، إذ تنهمر عليهم المدخلات الحسية كالضجيج الصاخب والضوء الساطع والازدحام الخانق من كل حدب وصوب.

ووفقًا ل (إيلين آرون) مؤلفة كتاب (الدماغ شديد الحساسية/The Highly Sensitive Brain)، يعاني معظم ذوي الحساسية الشديدة من التحفيز المفرط في أثناء عبورهم للمنعطفات الحياتية الكبيرة، والتي تقتضي الضبط الفوري لتركيزهم وسلوكهم والمحفزات الواردة عليهم. ولا نستثني من ذلك التحولات السَّارَّة كالإجازة والانتقال والزواج والترقية والأبوة والتقاعد وما قد تتركه من آثار جانبية مُزعجة كاضطرابات في النوم وارتكاسات انفعالية حادة. ولا عجب أن يترافق الإنهاك الحسي بالإعياء والانفعال والخَوَر.

وقد تكتنز الحساسية الكثير من النِعَم المخبوءة؛ فيحرز الأشخاص شديدو الحساسية تفوقًا في المهن التي تتطلب ملاحظة ودقة عالية، فمثلًا نجدهم يبدعون في مجال التصميم بفضل قدرتهم على ملاحظة أدق الفوارق كطريقة دمج الألوان أو الاختلافات الطفيفة في الأقمشة، أو الأخطاء الضئيلة للبيانات. كما أن وعيهم العميق يخوِّلهم رؤية واستشعار كل ما يخفى عمّن سواهم، فيتقنون هذه المجالات على نحو استثنائي.

ولإدارة حساسيتك لا بد من خلق بيئة موائمة لاحتياجاتك؛ فمثلًا حالما تشعر بالانزعاج من الضوء الساطع والضجيج الصاخب، استعن بإضاءة خافتة وسماعات رأس عازلة للضجة، واحرص على العمل في أماكن هادئة. وإذا شعرت بالضيق الخانق من الحشود الكبيرة في الأماكن العامة، اختر الوجود في الأماكن الصغيرة الدافئة، مثلًا استبدل الحانات المفعمة بالضجيج بمقهى مريح.

الاختيار الواعي أول خطوات نجاحك، واعلم أنك لن تنال راحتك وتستمتع بطاقتك ما لم تتقبّل حساسيتك.

2. العاطفة الجامحة:

يمتاز أصحاب الحساسية العالية في الغالب بعمق الشعور، مما يجعلهم عرضة للإرهاق العاطفي والتوتر. فتصبح مجريات الحياة اليومية بما تحويه من أخبار سيئة وعلاقات متشعبة استنزافًا صريحًا لمشاعرهم. مع ذلك، فقد تنقلب حدة الشعور لتصبح أهم مصادر القوة.

وبينت دراسة أجريت عام (2021) أن الأشخاص الذين يتمتعون بحساسية عالية في المعالجة الحسية (SPS) لديهم أنماط متميزة من توصيلات الدماغ. فقد ازدادت التوصيلات في مناطق الدماغ المسؤولة عن الانتباه والعاطفة لديهم، وتحديدًا قويت الروابط بين الحُصين والطَّلَل (المهمين للذاكرة)، بينما ضعفت الروابط بين اللوزة المخية والمناطق المسؤولة عن القلق، وبين الحُصين ومناطق المعالجة الإدراكية. وعليه، فإن للمعالجة الدماغية العميقة الناجمة عن حساسية المعالجة الحسية آثارًا واضحة على الانتباه والذاكرة وإدارة العواطف.

فبصيرة العاطفة العميقة التي يتمتع بها أصحاب الحساسية الشديدة لا تقدر بثمن، ولا سيما في المهن الاستشارية التي تتطلب فهمًا عميقًا للآخرين. أضف إلى ذلك، أن غنى تجاربهم العاطفية يوقد شعلة الإبداع لديهم، فينتجون أعمالًا فنية أو كتابية أو موسيقية تخترق أعماق الآخرين.

بعض النصائح لإدارة العواطف الشديدة والتعافي:

• للوعي والتأمل والتفكر بانتظام دور في المعالجة السليمة للمشاعر:

يخلق التأمل اليومي فسحة ذهنية تعين على إدراك المشاعر بلا استنزاف. كما يمكن لتدوين اليوميات أن يكون متنفسًا للتنقيب عن المشاعر المكبوتة وتفريغها، وتحجيم الأعباء العاطفية وتصفية الذهن.

• قل “لا”:

حفاظًا على طاقتك، وأفصح عن الأوقات التي تحتاج فيها لإختلاء ذاتي يجدد نشاطك، بما في ذلك اجتناب المواقف المُستنزفة للمشاعر والحد من متابعة وسائل الإعلام المؤججة لها.

3. الاستنزاف الاجتماعي:

غالبًا ما يستنزف التواصل الاجتماعي طاقة أصحاب الحساسية العالية رغم استمتاعهم بتمضية الأوقات مع الآخرين، وسرعان ما يفضي دفق المحفزات المستمر الناجم عن مشاعر الطرف الآخر ولغة جسده والحديث معه إلى حالة الاستنزاف الاجتماعي. فنراهم يلجأون إلى مكان هادئ يستعيدون فيه سلامهم الداخلي عقب المناسبات الاجتماعية أو حتى اللقاءات الشخصية. وفي بعض الأحيان يُساء فهم احتياجهم إلى الراحة، فيشعرون بالذنب لقلة حضورهم الاجتماعي مقارنة مع أقرانهم.

من ناحية ثانية، فالحاجة إلى فترات منتظمة من الراحة والهدوء لا تعتبر عيبًا وإنما تعكس طبيعة الفرد التأملية. فقد بينت دراسة أجريت عام (2012) أن فرط المشتتات البيئية؛ كالاستعمال المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، تعطل المهارات الاجتماعية العاطفية، وبدلًا من التأمل الداخلي ينصرف التركيز إلى الاهتمامات الخارجية المباشرة.

وتساعد فترات الراحة أصحاب الحساسية الشديدة على استيعاب الإشارات الاجتماعية وتحليلها بتركيز أعلى يتطلب طاقةً وعمليات ذهنيةً أكبر. إذ أن هذه المعالجة العميقة تنعكس على عمق فهمهم وتعاطفهم مع الآخرين، شريطة أن يمنحوا أنفسهم القسط الكافي للمعالجة والتعافي بعد اللقاءات الاجتماعية.

حتى ينقلب الاحتياج للاستراحة إلى أبرز نقاط القوة، احرص على ما يلي:

• اجعل الاسترخاء على رأس أولوياتك:

امنح نفسك وقتًا كافيًا لترتاح وتسترد توازنك تلافيًا للإنهاك ولضمان تواصل فعال مع الآخرين.

• انتقِ أماكن هادئة:

احرص على انتقاء أماكن صغيرة وهادئة تخولك إجراء محادثات هادفة بعيدًا عن ضغط التجمعات الكبيرة.

• آثر الكيف على الكم:

إن استثمار هبتك الفطرية للاستماع والتعاطف والاستجابة العميقة في هذه الأماكن يمهد لك الانخراط في علاقات أصيلة متينة.

الحساسية ليست نقصًا، هذا ما ينبغي علينا إدراكه؛ إنما هي نِعمة عظيمة يفتح اغتنامها أبواب العبور لحياة يظللها الوصال الهانئ.

  • ترجمة: آلاء نوفلي
  • تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
  • المصادر: 1