كيف يمكن للأرقام أن تدمّر حياتك؟
بقلم: مايكل داهلين وهيلج ثوربيونسن.
“داهلين” أستاذٌ في مدرسةِ ستوكهولم للاقتصاد، و”ثوربورنسن” أستاٌذ في مدرسة الاقتصاد النرويجيّة. وقد ألّفا معًا كتابَ “المزيد من الأرقام كل يوم/ More Numbers Every Day”.
كم عددُ الأرقامِ التي تسلّلت إلى عقلكِ اليوم؟ 10؟ 100؟ 1000؟
ماذا لو قمتَ بإضافةِ عددِ خطواتكِ ونبضاتِ قلبكِ الذي أخطرتكَ بهِ ساعتكَ الذكيّة؟ أو أضفتَ عددَ الإعجاباتِ والمتابعينَ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ؟ ماذا عن الأرقام الخاصّة بالعمل والبنك والألعاب والتطبيقات وتلك الموجودة في صندوق البريد الخاصّ بك؟ وفقًا للتقديرات، الآن أصبحنا نولِّد كل يوم أعدادًا من الأرقام أكثرَ ممّا ولّده البشر منذ بدء الخليقة وحتى عام 2010.
الآن، جرّب أن تتوقف وفكر للحظة، كيف تتسلل هذه الأرقام -بوعي أو بدون وعي- إلى عقلك وتؤثّر على القرارات التي تتخذها كلَّ يوم؟ والإجابة ببساطة أنّ هذه الأرقام -هذه الأوغاد الصغيرة- تخدعك بالفعل.
على سبيل المثال: الأرقام التي تطالعها في بيئةِ العمل تؤثّر وتعمل على تعديل دوافعك وجهودك، أمّا الأرقام على وسائل التواصل الاجتماعي تحوِّل المشهدَ الاجتماعيّ إلى كابوسٍ تنافسيّ وتخلق فائزين وخاسرين، بينما الأرقام التي تظهر على ساعة Fitbit ستجعلك تركض بشكلٍ أسرع على المدى القصير، ولكن في النهاية سيتحوّل الجري إلى عملٍ وروتينٍ يومي عليك القيام به.
وكل رقمٍ تسمح له بالتسلل إلى عقلك يعمل كإطارٍ مرجعيّ من خلاله وعلى أساسه تقارن العالم وتقيّمه.
كم عدد أصدقائكَ مقارنةً بشخصٍ آخر؟ تحقّق من الفيس بوك أو أنستجرام. ما مدى جودة هذا المطعم؟ تحقق من موقع TripAdvisor.
أي فيلم يجب عليك مشاهدته الليلة؟ تحقق من التقييمات.
سواءً على هاتفك الذكي أو حاسوبك أو داخل رأسك، تملي عليك الأرقام قراراتك وتصوراتك لقيمة الأشياء. فالسّعر العادل لزجاجة بيرة أو شقة من غرفتي نوم يُحدد وفقًا للأرقام العالقة بالفعل في عقلك، وهو ما يُطلق عليه علماء النفس “الارتساء”، عندما نكوّن فكرةً عن شيءٍ ما أو نحاولَ فهم أمرٍ ما، نحتاج إلى دليلٍ ننطلق منه ونمضي قدمًا لترسيخ فهمنا.
وإدخال هذه المرجعيات والأرقام العالية والمنخفضة في عقولِ الناس هو فنٌّ في حدّ ذاته، ويقوم به عادةً وكلاءُ العقارات والسياسيون أو أيّ شخصٍ يُجري مفاوضات.
فعلى سبيل المثال: ‘يبدو دفع 1.1 مليون دولار مقابل مكانٍ ما بمثابة صفقةٍ جيّدة إذا قال الوكيل أنّ الشقة المجاورة بيعت بمبلغ 1.5 مليون دولار’، أليس كذلك؟ والحقيقة أنّه تمّ توثيقُ تأثيرات “الارتساء” في سياقاتٍ متنوّعة بدايةً من متوسّط وقت الجماع (دقيقة واحدة أو 15 دقيقة) وصولًا إلى إصدار الأحكام في المحاكم، نعم بالفعل، حتّى القضاةُ يغيّرون أحكامهم بشكلٍ ملحوظ بعد التعرّض لمرجعيّاتٍ عالية، وذلك مقارنةً بالمرجعيّات المنخفضة.
الآن، سيصبحُ الأمر مخيفًا نوعًا ما، ماذا لو أنّ الأرقام التي تظهر طوال الوقت في حياتنا أصبحت راسخةً في عقولنا وتؤثّر على فهمنا وقراراتنا بشأن أشياء أخرى تحدث في نفس الوقت -ولكنّها أشياءٌ لا ترتبط حتّى بهذه الأرقام بأيِّ شكلٍ كان-؟
ماذا لو أنّ عدد الإعجابات الكبير على صورتك الأخيرة على أنستجرام جعلك تقدّم عرضًا أعلى مما كنت تعتقد أنه معقول ومناسب على مواقع مثل eBay أو Redfin؟
لقد كنا فضوليين، لذلك قمنا بإجراء تجربةٍ حيث طلبنا من حوالي 1500 فرد كتابة عدد الخطوات التي قاموا بها خلال اليوم -يمتلك الأغلبيّة تطبيقًا صحيًا على هواتفهم يحسب الخطوات تلقائيًا، من ليس لديهم التطبيق كان عليهم التخمين على أفضل وجهٍ ممكن-، ثم طلبنا منهم تحديد السّعر الذي سيكونون مستعدين لدفعه مقابل شقةٍ مكونة من غرفة نومٍ واحدة في مدينتهم. حسنًا تخيّل ماذا حدث؟ كلّما زاد العدد الذي ذكروه من الخطوات، زاد السّعر الذي كانوا على استعدادٍ لدفعه مقابل الشقة.
الآن، ربما تعتقد أن ذلك يرجع إلى أنّ سكّان المدن الكبرى يمشون أكثر بسبب المسافات الأكبر، ويكلّف السكن في المدن الكبيرة أكثر. ولكننا تحكمنا في ذلك المتغير وسيطرنا عليه؛ حيث أظهرَ أصحاب أرقام الخطواتِ الأعلى استعدادًا لدفع أسعارٍ أعلى بغضّ النظر عن المدينة. قد تعتقد أنّه من الممكن أيضًا أنّ الأشخاص أصحاب الخطوات الأكثر يشعرون بالقدرة ويكافئون أنفسهم بالاستعداد لدفع المزيد مقابل الشقة. ولكن التأثير كان هو نفسه عندما طلبنا من المشاركين تخمين متوسط سعر شقّةٍ بغرفةِ نومٍ واحدة في مدينتهم. أمرٌ مخيف، ولكن ليس من قبيل الصدفة.
إذا فكرنا أبعد من ذلك وسألنا أنفسنا، ماذا لو شعرت الخوارزميات بحجم الأرقام التي تحيط بك في أيّ لحظة ووظَّفَتها في الأخبار الزائفة أو الإعلانات؟ ربما يبدو هذا أورويليًّا “نسبةً لجورج أورويل”، لكن بطريقةٍ ما، هذا ما يحدث بالفعل. تتفاعل خوارزميّاتُ وسائلِ التّواصل الاجتماعي مع الأرقام على هيئة مشاهداتٍ وتعليقاتٍ ومشاركات، وأصبحت هذه الخوارزميات تعطي مساحةً أكبر للمنشورات التي تحصل على الكثير من هذه الأرقام. والناس معجبون بالأرقام، ولا يكتفون فقط بالنّقر على المعلومات والأخبار التي تحتوي على أرقام -التي بدورها تحصل على خوارزميات لنشر المنشورات بشكلٍ أكبر-، بل يعتقدون أيضًا أنّ تلك المعلومات أكثر صحة. حيث تشير الدراسات إلى أن الناس يرون أن الأخبار التي حصلت على الكثير من الإعجابات عبر الإنترنت أكثر مصداقيّةً من الأخبار التي لم تحصل إلا على عددٍ قليل من الإعجابات. من ناحيةٍ أخرى، يواجه هؤلاء الأشخاص صعوبةً أكبر في التمييز بين الأخبار الصحيحة والأخبار الزائفة عندما يكون عليها العديد من الإعجابات، فيبدو الأمر كما لو أنّ الأرقام الكبيرة تعيق التفكير النقدي.
لذا كن واعيًا: الأرقام موجودة في كلّ مكان، وتعتقد أنها صحيحة -حتى عندما لا تكون كذلك-، وتتسبب في تحيّز قراراتك بطرقٍ أكثر بكثيرٍ مما تتخيّل. لذلك ربما تحتاج إلى فترةٍ لتنقية عقلك من هذا الزخم المستمر للأرقام.
- ترجمة: رنا عبد الرحمن
- تدقيق علمي ولغوي: روان نيوف
- المصادر: 1