تدفق الكهرباء في الدماغ البشري يمكن توقّعه باستخدام الرياضيات البسيطة للشبكات
من خلال شبكةٍ واسعةٍ من الألياف العصبية، تتنقل الإشارات الكهربائية باستمرارٍ في جميع أنحاء الدماغ. هذا النشاط المعقد هو الذي يؤدي في النهاية إلى ظهور أفكارنا وعواطفنا وسلوكنا، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى مشاكل صحيّة نفسيّة وعصبية عند حدوثِ خللٍ ما في هذه العملية.
“التحفيز الدماغي” هو علاجٌ ناشئٌ لمثل هذه الاضطرابات، حيث يتم تحفيز منطقةٍ من دماغك بنبضاتٍ كهربائية أو مغناطيسية ممّا يؤدّي إلى إطلاق سلسلةٍ من الإشارات عبر شبكةٍ من اتصالات الألياف العصبية.
ومع ذلك، في الوقت الحالي، ليس العلماء على درايةٍ تامّة بكيفيّة تنقّل هذه السلاسل لتؤثّر على نشاطِ دماغك بأكمله، وهذا يعدُّ جزءًا مهمًّا يفتقر العلاج الدماغي إليه، ويقلّل من فوائده.
في بحثنا الأخير المنشور في مجلة “Neuron” اكتشفنا أنّ انتشار التحفيز الدماغي يمكن التنبؤ به باستخدام الرياضيات الخاصة بالشبكات.
تتبُّع الإشارات الكهربائية في الدماغ
تعد دراسة الاتصال في الدماغ البشري صعبة. يرجع ذلك إلى أنّ الإشارات الكهربائية تتحرّك بسرعةٍ كبيرة على مقياس الأجزاء الألفية من الثانية، من جزءٍ لآخر في الدماغ.
وعلاوةً على ذلك، يتم نقل الإشارات عبر شبكة معقدة للغاية من الألياف العصبية التي تربط جميع مناطق الدماغ. وهذه المسائل تجعل من الصعب على العلماء ملاحظة الإشارات التي تسافر عبر الدماغ.
وعلى أي حال، يمكننا في ظروفٍ خاصّة ومحددة استخدام الأقطاب الجراحية لتتبع انتشار إشارات الدماغ بدقة.
“الأقطاب الجراحية”: هي أدواتٌ يتم إدخالها جراحياً في أدمغة المرضى الموافقين على ذلك.
ومن المهم التأكيد على أن هذا النوع من الإجراءات الجراحية يمكن فقط تنفيذه في ظروفٍ خاصّة جدًا، عندما يكون الهدف الرئيسي هو مساعدة المرضى. في حالتنا، كان المرضى هم أشخاصٌ يعانون من الصرع الشديد. عندما لا يستجيب مرضى الصرع للأدوية، يمكنهم استخدام الأقطاب لمساعدة الأطباء في معرفة المزيد عمّا يحدث في أدمغتهم.
شارك في بحثنا مجموعةٌ كبيرة من المتطوعين المصابين بالصرع البالغ عددهم 550 مريضًا من أكثر من 20 مستشفى في أمريكا الشمالية وآسيا وأوروبا.
توفر الأقطاب وسيلةً لتحفيز منطقة الدماغ بلطف بنبضةٍ كهربائية، وفي نفس الوقت، تسجيل النشاط الدماغي للمريض. استخدمنا بياناتٍ من الأقطاب الموضوعة في مواقع مختلفة في الدماغ لتتبّع اتصال النبضاتِ الكهربائية من منطقةٍ إلى أخرى.
وكآخر أداةٍ في دراستنا، استخدمنا فحوصات الرنين المغناطيسي لإعادة بناء شبكة الألياف العصبية للدماغ البشري، والمعروفة باسم “الشبكة العصبية”. هذا أعطانا نموذجًا للأسلاك الفيزيائية التي تنتقل عبرها الإشارات الكهربائية في الدماغ.
رياضيات الاتصال في الشبكة
فكيف يتم نقل الإشارات عبر الأسلاك المعقدة للشبكة العصبيّة؟
إحدى الاحتمالات البسيطة هو أنّ الإشارات تنتقل عبر المسارات الأكثر المباشرة في الاتصال. وفي مصطلحات الشبكة، يعني هذا أن نبضة كهربائية تذهب من منطقة إلى أخرى عبر المسار الأقصر للمناطق الوسيطة بينهما.
هناك فكرةٌ أخرى، هي أنّ الإشارات تمتد بواسطة انتشار الشبكة. لفهم ذلك، فكر في كيفيّة تدفق الماء في شبكة الأنابيب.
في كل مرةٍ تصل فيها المياه إلى اتصالٍ في الشبكة، يتم تقسيم التدفق على مساراتٍ متفرعة. المزيد من الاتصالات على مسيرة المياه يعني المزيد من التقسيم، ويصبح التدفق على أيِّ مسارٍ معينٍ أضعف. ومع ذلك، إذا تقابلت بعض المسارات المتفرّعة مرّةً أخرى أسفل التيار، فإنَّ قوّة التدفق تزداد مرة أخرى. في هذا المثال، تساهم جميع الاتصالات (الأنابيب) في الشبكة في تشكيل تدفق الإشارة (الماء)، وليس فقط تلك على المسار الأكثر مباشرةً.
ما وجدناه
هاتان الطريقتان للاتصال الشبكي -أقصر المسارات مقابل تدفّق الانتشار- فرضيتان منافستان لشرح كيفيّة انتقالِ الإشارات الكهربائية عبر أسلاك الشبكة العصبيّة بعد تحفيز الدماغ. حتّى اليوم، لا يزال العلماء غير متأكدين من الفرضية التي تتطابق بشكلٍ أكبر مع ما يحدث في الدماغ.
دراستنا هي واحدة من أوّل الدراسات التي تحاول حلّ هذا الجدل. للقيام بذلك، تساءَلنا ما إذا كانت أقصر المسارات أو التدفق الانتشاري يتنبّأُ بشكلٍ أفضل بانتشار الإشارةِ الكهربائية، كما تمّ قياسه بواسطة الأقطاب في أدمغة المرضى.
بعد تحليل البيانات، وجدنا أدلّةً تدعم فرضية التدفق الانتشاري. وهذا يعني أنّ العديد من الاتصالات العصبية -بالمقارنة مع تلك التي تسير على أقصر المسارات- تشكّل كيفية انتشار تحفيز الدماغ في شبكة الاتصال.
وهذه معلوماتٌ مهمة للعلماء، حيث تساعدنا على فهم كيفية مساهمة الأسلاك العصبية المادية في نشاط الدماغ ووظيفته.
ما هو القادم؟
يعد بحثنا الأوّل من نوعه، وهناك المزيد من العمل اللازم لتأكيد ما وجدناه. نأمل أن يساعد التقدم في فهمنا لاتصالات الدماغ العلماء السريريين أيضًا في تصميم علاجاتٍ أفضل لمشاكل الصحّة العقلية.
يمكن أن يساعد تحفيز الدماغ في “استعادة” التواصل المعيب بين مناطق الدماغ. على سبيل المثال، يعد التحفيز غير الغازي (الذي يتم خارج الجمجمة وبدون الحاجة إلى جراحة) علاجًا رئيسيًّا لاضطرابات الاكتئاب، وهو متاح في أستراليا.
في دراساتنا المستقبلية، سنبحث فيما إذا كان يمكن استخدام الاكتشافات التي تم الإبلاغ عنها هنا لتحسين الفائدة العلاجية للعلاجات المتعلّقة بتحفيز الدماغ.
- ترجمة: نرمين صلاح بدر
- تدقيق علمي ولغوي: روان نيوف
- المصادر: 1