بكتيريا تلتهم حطام التايتنك!

استعدوا لمواجهة العاصفة! هل ستؤدي البكتيريا المؤكسدة للحديد المعروفة باسم هالوموناس تيتانيكي إلى تفكك حطام سفينة تايتانيك بالكامل خلال حياتنا؟

في عام 1987 ابحر الربان الغواص المخضرم والقائد البحري الفرنسي السابق بي إتش نارجوليه إلى موقع في المحيط يبعد قرابة 330 ميلًا جنوب شرق نيوفاوندلاند- كندا، ثم غاص أكثر من ميلين تحت سطح المحيط الأطلسي. وفي ذلك العمق، وقعت عيناه على سفينة آر إم إس تيتانيك لأول مرة بعد مرور 75 عامًا على غرقها وفقط بعد عامين من اكتشافها مرة أخرى.

يقول نارجوليه، الذي عاد إلى حطام السفينة أكثر من 30 مرة منذ ذلك الحين: «كانت مشاعر عارمة، في الحقيقة، وأنا لست شخصًا عاطفيًا جدًا، وكأنك تتنقل بين السعادة والحزن في ثوانٍ قليلة. .. كانت حقًا تجربة لا تصدق بالنسبة لي».

وقد لاحظ في الرحلات اللاحقة تدهور الحطام أكثر فأكثر. ويبدو أن معدل التآكل يختلف بين أي رحلتين، لكنه غالبًا ما يستهدف جزءًا من السفينة بدلًا من آخر، ولكنها كانت دائمًا في ذهنه.

هل حقًا تتآكل التايتنك بسبب البكتيريا ؟

خلال زيارته الأخيرة في الصيف الماضي، كأحد أفراد الطاقم على متن رحلة OceanGate’s الأولى لاستطلاع حطام التايتانيك Titanic Survey Expedition، كانت السفينة في حالة أقل من أن يمكن التعرف عليها حتى. يقول نارجوليه: «هناك تدهور كبير قادم من خلف قسم المقدمة (القوس)، ويتغلغل نحو الأمام، وقد انهارت السارية، التي هي أكثر هشاشة، تمامًا على السطح، وشيئًا فشيئًا بالتدريج، كل شيء يتهاوى ويتقوَّض»، ويقول: «وأنا متأكد، سنرى فارقًا العام المقبل».

لا شك في ذلك، إذ يفترض بعض الخبراء أن بقية سفينة التايتانك ستنهار تمامًا في غضون العقود القليلة القادمة.

وتعد البكتيريا المسؤولة عن ذلك: الميكروبات الدقيقة المركبة، التي تنتج الصدأ ثم تلتهمه، وتعمل حاليًا على إعادة تدوير أجزاء السفينة إلى النظام البيئي للمحيطات.

قد تكون البكتيريا نفسها التي تسبب هذا الضرر مفيدة يومًا ما في التخلص السريع من السفن الغارقة، وحتى من منصات التنقيب عن النفط المنتشرة في محيطات العالم. ومراقبة البكتيريا وهي تقوم بمهامها يمكن أن تساعد العلماء في التنبؤ بمآل السفن التاريخية الأخرى المغمورة التي نود الحفاظ عليها. وكما تقول إيرين فيلد، عالمة الأحياء الدقيقة في جامعة شرق كارولينا: «نحن نعلم أن الكائنات الدقيقة يمكنها فعل هذه الأشياء، ولكن مازلنا لا نفهم ما الذي يتحكم في هذه العوامل، وكيفية التنبؤ بالحطام الذي يحتاج إيلاءه الأولوية في الحفاظ عليه».

بكتيريا في الأعماق (راستكلس Rusticles)

وما نعرفه هو أن البكتيريا المؤكسدة للحديد تحصل على الطاقة اللازمة للعيش والتكاثر عن طريق تحويل الحديد المذاب إلى صورة غير قابلة للذوبان لأكسيد الحديد – المعروف بشكل عام باسم الصدأ العادي. (في الواقع، من الصعب جدًا تحقيق هذا الأمر، لأن الحديد لديه قليل جدًا من الطاقة ليقدمها في المقام الأول)، ويجد العلماء هذه الكائنات الدقيقة في العديد من البيئات المختلفة: المياه العذبة، والمياه المالحة، وحتى في القنوات والمجاري على جانب الطريق.

ولكن في بيئة أعماق البحار تفضل تلك الكائنات الاستقرار في الرواسب الغنية بالحديد في قاع المحيط، كما تقول فيلد، التي تعمل على تحديد المجموعات الميكروبية المرتبطة بحطام السفن ذات الهياكل الفولاذية على طول نهر بامليكو ساوند ونظام نهر نيوز في شمال كارولينا: «عندما يقع حادث بحري ويصل إلى قاع المحيط، يحدث اختلاط للمياه والرواسب من تلك الاضطرابات، مما يتيح للبكتيريا الموجودة في الرواسب الدخول إلى عمود الماء والتصاقها بالموطن الجديد الذي وصلت إليه».

صارت تيتانيك، التي كانت تحتوي على عشرات الآلاف من أطنان الصلب، محض وليمة لتلك البكتيريا.

يمكننا رؤية دليل على أنها أصبحت مأدبة من خلال راستكلس، وقد أُطلق عليه هذا الاسم لأنه يشبه الكتل الجليدية المصنوعة من الصدأ الذي يغطي الآن سطحه. وبعض الطبقات الغنية بالحديد قد نمت بطول يصل إلى طول شخص بالغ. ويقول ستوكتون راش، الرئيس التنفيذي ومؤسس أوشن جيت: «الألوان مذهلة مع الصدأ – الأحمر والبرتقالي والأزرق والأخضر. ولا يُرى ذلك عادة في حطام آخر قد زرته في المياه الضحلة»، ويضيف: «عادةً لا يتوفر في أي حطام لوحة الألوان الموجودة في تيتانيك».

وما هو أبعد من مجرد كونها ملفتة، تقول فيلد: «يعد الصدأ (راستكلس) أيضًا مجمعات سكنية لمجموعة من البكتيريا. وهذا يشمل البكتيريا التي تحول الحديد إلى صدأ، بالإضافة إلى العشرات من الأنواع الأخرى أيضًا، هذه الراستكلس تشبه المجتمعات الحية»، وتقول: «إنها في تغير وتطور مستمر – تمامًا مثل كتل الجليد التي تلتصق بمنزلك والتي يمكن أن تبدأ في الذوبان ثم يمكن أن تنمو مرة أخرى».

هالوموناس تيتانيكي

أحد هذه البكتيريا هو الهالوموناس تيتانيكاي، ويقل طولها عن اثنين ميكرومتر وهي غير مرئية بالعين المجردة، وعُزل هذا المقيم الضئيل عن التيتانيك لأول مرة من هذا الصدأ الموجود على هيكل السفينة خلال رحلة استكشاف في عام 1991. ولكن لم تكُن معروفة حتى عام 2010، حين حددها فريق متعدد التخصصات من الباحثين من كندا وإسبانيا، كنوع غير معروف من قبل. منذ ذلك الحين، تضاعفت البكتيريا على نحو هائل.

هذه أخبار سيئة فيما يتعلق بالمحافظة علي حطام السفينة، نظرًا لإقبال هالوموناس تيتانيكاي على إتلافه، فبدلاً من تكوين الصدأ، مثل جيرانها، فإن هالوموناس تيتانيكاي تأكله تقريبًا. وفقًا لفيلد: «تحصل هذه البكتيريا على طاقتها من التهام الصدأ الذي أُنتجته بكتيريا أخرى أو حتى التفاعلات الكيميائية في الماء. وبذلك، تكون نفايتها الحديد المذاب – الذي يظهر لنا كما لو كان لا شيء على الإطلاق»، وتقول فيلد: «إن أجزاء من هذه السفن ستتدهور وتختفي مع مرور الوقت».

حطام تيتانيك… أسطورة حية

هناك العديد من الجوانب الأخرى لحطام تيتانيك التي لايزال الباحثون لا يفهمونها، مع أنه كما يقول راش: «واحد من أكثر الحطام زيارة في مواقع الغوص العميق».

إن أخذ عينات من أي حطام قابع في أعماق البحار – بدلًا من زيارة الموقع ببساطة- يتطلب معدات مكلفة ومتخصصة بدرجة كبيرة مثل المركبات ذات التحكم عن بعد.

تقول فيلد: «نحن نستخدم العديد من الحطام في المياه الضحلة كأنظمة نموذجية، فإذا استطعنا تطوير الوسائل لنفهم ونتنبأ أي حطام سيكون أكثر ضعفاً هشاشة، وإذا كان بإمكاننا تطوير الأساليب لحمايتها من أمور مثل التآكل البيولوجي، سيكون ذلك مفيدًا حقًا».

ومن وجهة نظرها، جمع المزيد من المعلومات هو الأمر الأهم الذي يمكن للباحثين القيام به الآن. هذا بالضبط ما تأمل أوشن جيتOceanGate في تحقيقه من خلال بعثة استطلاع تيتانيكTitanic Survey Expedition، وهي دراسة طولية متعددة السنوات تجمع بين المواطنين العلماء الذين يتوقون للمزيد من الاستكشاف مع الباحثين الذين يهدفون إلى التقاط السفينة بمزيد من التفاصيل من أي وقت مضى. في الصيف المقبل، سيقود ستيف روس، أستاذ البحث من جامعة ويلمنجتون بولاية نورث كارولينا، رحلة ثانية لاستكشاف النظام البيئي حول الحطام.

ومن الطبيعي، أن البشر ليسوا الزوار الوحيدين للسفينة. يقول نارجيوليت: «يوجد مكان واحد على السفينة، حيث رأيت ربما منذ 20 عامًا بعض القطع الصغيرة من الشعاب المرجانية بدأت في النمو، واليوم أصبحت ضخمة. تبدو وكأنها ميجافون أو شيء من هذا القبيل، وهي جميلة للغاية».

حياة الحيوانات البحرية حول تيتانيك

بالرغم من الشعور بالخراب، إلا أن المكان حول تيتانيك لايزال يعُج بالحياة. وفي العام الماضي فقط، لاحظ طاقم أوشن جيت وجود سلطعون غريب الشكل، وجراد البحر، والغرينادير – أسماك ضخمة تعيش في القاع ذات عيون منتفخة وذيول طويلة بشكل لا يصدق. [الغرينادير] حيوانات فضولية جدًا، تقترب من الغواصة، يقول نارجيوليت مبتسمًا: «في بعض الأحيان عندما كنا نبحث عن جسم ما أو جزء من السفينة، كنا نسألهم، ‘مرحبًا، هل تعرف أين هو؟ أرنا الطريق للوصول إليه’».

أصبحت السفينة وساحة الحطام المحيطة بها نوع من الشعاب المرجانية الاصطناعية، وهي ظاهرة تتكرر أيضًا تحت منصات النفط في جميع أنحاء العالم. وفقًا لفيلد، فإن هذه الهياكل الصناعية التي أنشأها الإنسان غالبًا ما تصبح ملاذًا لمجموعة متنوعة من الكائنات الحية – خاصة الصغيرة مثل الميكروبات – التي تلتصق بها. هناك تكوّن مجتمعاتها الخاصة وتسهم في دورة المغذيات في البيئة.

وذكرت فيلد: «لقد بدأنا في استخدام الحطام وأنواع أخرى من الهياكل الفولاذية عمدًا لتشكيل المرجان الاصطناعي، ونريد حقًا التأكد من قدرتنا على فهم دور الميكروبات في المساعدة على الحفاظ على جميع هذه الهياكل سليمة على المدى الطويل».

إنه نوع من الطمأنينة بالنسبة لراش، الذي لم يعد يأسف على تدمير سفينة الركاب البريطانية الشهيرة التي انزلقت تحت الأمواج: «ستظل تيتانيك موجودة لقرون، لكن لن يمكن التعرف عليها في مرحلة ما. تعلم، بمجرد أن تختفي سياج القوس، ستصبح مجرد ركام، لكنها ستكون مرجانًا اصطناعيًا بعد موتي».

  • ترجمة: ريم حلمي
  • تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
  • المصادر: 1