
لماذا نشعر بتسارع الزمن مع التقدم في السن؟
إيجاد معنى لمرور الزمن
إن تجربتنا للوقت مرنة وذاتية للغاية. ويُعدّ معالجة المعلومات أحد العوامل الرئيسية لذلك. فكلما زادت المعلومات التي يعالجها العقل، مر الوقت ببطء. ويتسارع الوقت مع التقدم في العمر لأن لدينا تجارب جديدة أقل وإدراكًا أقل وضوحًا. ولكن يمكننا إيقاف تسارع الوقت من خلال إدخال تجارب جديدة إلى حياتنا والعيش بوعي.
حضرت في الأسبوع الأول من شهر أيلول/سبتمبر 2024 مؤتمرًا ضخمًا لعلم النفس بجامعة أكسفورد، وكنت من بين حضور بلغ عدده 500 مندوب. ورغم أن المؤتمر لم يكن يتناول الزمن، إلا أنه دفعني إلى التأمل في الطرائق المختلفة التي يتفاعل بها العقل البشري مع الزمن. وخلال 4 أيام التقيت بالعديد من الأصدقاء والمعارف القدامى، وكوّنت علاقات عديدة مع أشخاص جدد. تنوعت المحاضرات وورش العمل حتى شعرت بثقل المعلومات في ذهني. وفي اليوم الأخير من المؤتمر، صادفتُ امرأةً كنتُ قد تحدثتُ معها في اليوم الأول، بعد أن شاركتُ معها في جلسة نقاشية. شعرتُ وكأنني لم أرها منذ زمن طويل، لدرجة أنني بالكاد تعرفتُ عليها. قلتُ لها: «لا أصدق أنه لم يمضِ سوى ثلاثة أيام منذ أن رأيتكِ! يبدو الأمر أشبه بثلاثة أسابيع!».
ليس هذا وحسب، بل لاحظت أيضًا تفاوتًا في مدة المحاضرات الرئيسية برغم تساويها الزمني (45 دقيقة)، والسبب على ما يبدو هو اختلاف حضور المحاضرين. فقد تباين حضورهم بين جذّاب وآخرين كانوا أقل جاذبية. كما أن بعض المواد متصلة وشيقة، وأخرى مجردة من التفاصيل وبسيطة. ونتيجةً لكل ذلك، مرّت بعض المحاضرات بسرعة لم ننتبه للوقت فيها، بينما بدت أخرى أنها أخذت وقتًا طويلًا جدًا (آمل أن يكون هذا هو الحال في محاضرتي الرئيسية!).
مفاهيم رئيسية لإدراك الوقت
ما الذي يُحدّد تجربتنا للوقت، كما في الأمثلة السابقة؟ لماذا يبدو أن الوقت يتسارع في بعض المواقف ويتباطأ في أخرى؟
تُشكّل هذه الأسئلة جوهر كتابي الجديد “تجارب تمدد الزمن”، الذي وضّحت من خلاله أن إدراك الوقت مرنٌ للغاية وذاتي.
فثمة صلةٌ وثيقةٌ بين إدراك الوقت ومعالجة المعلومات. إذ كلما زادت المعلومات التي يعالجها العقل، تباطأ مرور الوقت. لذلك، بدا أن مؤتمري استمرّ طويلًا، وذلك بسبب الكمّ الهائل من المعلومات التي تحمّل عقلي عناء معالجتها، ليس فقط المعلومات المتعلقة بالمحاضرات وورش العمل، ولكن أيضًا تلك التي تخصّ الأفراد الذين حدث وأن قابلتهم خلال المؤتمر، وحتى بيئة أكسفورد وتفاصيلها غير المألوفة (التي لم أزرها من قبل). في المقابل، عندما نبقى في بيئاتنا المعتادة، ونُكرّر التجارب المألوفة ذاتها مع الأفراد أنفسهم، يميل الوقت إلى المرور بسرعة.
تُساعد معالجة المعلومات، بطريقة غير مباشرة، في تفسير سبب تسارع الوقت في حالة التركيز وتباطئه عند الشعور بالملل. فنحن نعالج معلومات قليلة نسبيًا في حالة التركيز. إذ من الواضح أننا نعالج معلومات النشاط الذي يجذب انتباهنا (مثل محاضرة مسلية أو كتاب أو فيلم)، ولكن تعتبر هذه كمية ضئيلةً جدًا مقارنةً بحالات ذهنية أخرى. فنحن نُضيّق انتباهنا على نقطة تركيز صغيرة واحدة ونتجاهل جميع مصادر المعلومات المحتملة الأخرى في بيئتنا. والأهم من ذلك، أن عقولنا تُصبح هادئةً وخاليةً من الأفكار إلى حد كبير، إذ لا تُعالج سوى القليل جدًا من المعلومات المعرفية.
ومع ذلك، عندما يكون انتباهنا مشتتًا أو غير مُركّز، في حالات مثل الملل أو نفاد الصبر أو القلق، تتدفق كمية هائلة من المعلومات المعرفية عبر عقولنا. وكما لاحظتُ خلال بعض المحاضرات في المؤتمر، عندما لا تكون نتائجنا مُركّزة، فإنها تمتلئ بما أسميه “ثرثرة الأفكار” ؛ أفكار عن المستقبل أو الماضي، أو مقتطفات من أحاديث أو أغاني، أو أفكار عن السياسة أو المشاهير، وما إلى ذلك. وقد تمر المئات، إن لم تكن الآلاف، من هذه الأفكار عبر عقولنا في غضون دقائق. وتطيل كل تلك المعلومات المعرفية الزمن.
لماذا يمرّ الوقت بسرعة مع التقدم في السن؟
مع أن الأمر قد لا يبدو مرتبطًا بشكل مباشر، إلا أن معالجة المعلومات تُساعد أيضًا في تفسير سبب تسارع الوقت مع التقدم في السن. ففي دراسة حديثة أجريت على 918 بالغًا تحت إشراف عالمة النفس روث أوغدن، اتفق 77% من المشاركين على اعتقادهم حول عيد الميلاد وشعورهم بأنه يقترب بسرعة أكبر كل عام (كان 14% محايدين بشأن تلك المسألة، بينما عارضها 9% فقط). ومن المثير للاهتمام أن الباحثين المشاركين مع أوغدن قد طرحوا السؤال ذاته على مشاركين من الجنسية العراقية حول شهر رمضان، وكانت الإجابة مشابهة إلى حد كبير جدًا.
من الشائع أن يخبر الناس عن بطء مرور الوقت خلال الطفولة.
أنا شخصيًا، أتذكر بشكل واضح فترة إنهاء المدرسة الابتدائية (ما يُعادل المدرسة الابتدائية في الولايات المتحدة). فقد أنهيتها في سن الحادية عشرة، وكان من المقرر أن أبدأ دراستي في المرحلة الثانوية عقب ستة أسابيع، أي بعد انتهاء العطلة الصيفية. حينها بدأتُ أفكر في المرحلة الثانوية، متسائلًا كيف ستكون، وهل يجب عليّ أن أقلق بشأنها؟ لكنني في نهاية المطاف حادثت نفسي قائلًا: «حسنًا، لا جدوى من التفكير في الأمر، فالأمر لا زال في علم الغيب، والمستقبل المجهول». في حينها، بدت لي فترة الأسابيع الستة الممتدة أمامي طويلة جدًا لدرجة أنها ربما كانت تعادل ستة أشهر من حياتي كشخص بالغ.
يعود ذلك أساسًا إلى أننا نكتسب كأطفال الكثير من التجارب الجديدة، ونعالج بالتالي كمًا هائلًا من المعلومات الإدراكية. كما هو الحال عند الأطفال، إذ يتمتعون بإدراك واضح وعميق للعالم، مما يجعل محيطهم يبدو أكثر وضوحًا. في حين تقل تدريجيًا، مع التقدم في السن، التجارب الجديدة التي نكتسبها. والأهم من ذلك، أن إدراكنا للعالم يصبح أكثر تلقائية. فنصبح تدريجيًا أقل حساسيةً تجاه محيطنا. ونتيجةً لذلك، نستوعب معلومات أقل، مما يعني أن الوقت يمر أسرع، ويصبح الوقت أقل ازدحامًا بالمعلومات.
مقاومة تسارع الزمن
يمكننا مقاومة تسارع الزمن عن طريق القيام ببعض الأمور، أهمها الإدخال المستمر لكل ما هو جديد إلى حياتنا، كالسفر إلى أماكن جديدة، وتعلم هوايات إضافية لم نختبرها من قبل، كذلك التعرف على أشخاص جدد. كما قد يمكننا العيش بوعي، وربما أكثر فعالية، من إبطاء الزمن. بالإضافة إلى الاهتمام الواعي بتجاربنا اليومية من ما نراه ونسمعه ونشعر به وغير ذلك. أما على المدى البعيد، يمكننا تنمية الوعي من خلال ممارسات تأملية تُهدئ من ثرثرة عقولنا وتُضعف قوة التصنيفات المفاهيمية التي تُصفّي واقع العالم الخام (سأتناول هذه الأساليب بمزيد من التفصيل في الفصل الأخير من كتاب “تجارب تمدد الزمن” ).
تزيد كلتا الطريقتين المذكورتين من كمية المعلومات التي تعالجها عقولنا، وبالتالي تُوسّع إدراكنا للوقت. وتُظهر هذه الطرق أنه على الرغم من شيوع تجربة تسارع الوقت مع التقدم في السن، إلا أنها ليست حتمية.
- ترجمة: رجاء الغيثي
- تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
- المصادر: 1