حين تُنضج الغربة الذات: كيف تعيدنا الهجرة إلى أعماقنا

اليوم، ومع اصطباغ عالمنا بصبغة العولمة، تتزايد تطلعات الكثيرين للإقامة والعمل والدراسة خارج أوطانهم، ولا تخلو هذه النزعة من المحاسن؛ وفقًا لأبحاث في العلوم الاجتماعية، فإن خوض غمار تجارب ذات طابع عالمي يصقل الإبداع ويُحجِّم التحيُّز ضمن الجماعات ويضمن النجاح المهني.

وللوقوف على الآثار النفسية الناجمة عن الغُربة، بدأنا دراسة حقيقة وكيفية التغيير الذي تحدثه التجارب العالمية على إدراك الفرد لذاته. وصببنا تركيزنا على (معرفة الذات)؛ التي تعبر عن مدى فهم الفرد لنفسه فهمًا يُظهر يقينه التام، ويعكس انسجامه الذاتي ورسوخه على مر الأيام. تنجم عن معرفة الذات فوائد جمَّة، مثل التمتع بالصحة النفسية، والتغلب على الضغوطات، وتحسن الأداء الوظيفي، غير أننا لم نزل نفتقر لأبحاث تخولنا قطف ثمارها.

وفيما خلصت معظم الدراسات أن المرور بتجارب عابرة، كتغيير العمل أو الانفصال العاطفي، من شأنها أن تُقلص معرفة الذات. بيد أن معظمنا تغرَّبَ في مرحلة ما من حياته، ومما لا شك فيه أننا جنينا نتيجة لذلك فهمًا أعمق لذواتنا. لذا، تساءلنا عما إذا كانت الغُربة ضربًا فريدًا من التجارب الانتقالية المعززة لمعرفة الذات.

الغُربة ملازمة لمعرفة الذات
اختبرنا صحة فرضيتنا القائلة بأن الغُربة تزكي معرفة الذات عبر ست دراسات ضمت (1874) مشاركًا. تطوع في الدراسة الأولى (296) عضوًا عبر شبكة الإنترنت، تغرَّب نصفهم مدةً لا تقل عن ثلاثة أشهر، في حين مكث النصف الآخر في أوطانهم. واستكمل جميع المشاركين مقياسًا ثابتًا بيَّن معرفتهم لذواتهم عبر طرح أسئلة تظهر مدى الموافقة لديهم، مثل “عمومًا، أعرف تمامًا من أنا وما دوري”، وأيضًا “قلَّما استشعر الصراع بين مختلف سمات شخصيتي”. فتبين لنا أن المغتربين يعرفون ذواتهم أكثر من المقيمين في أوطانهم.

مقياس معرفة الذات
لعل أحد أبرز التأويلات المحتملة لهذه النتيجة أن المغتربين قطعوا شوطًا كبيرًا ليتعرفوا على ذواتهم مقارنة بغيرهم ممن لم يختاروا عبور هذا الطريق بعد. ولاستبعاد هذا التأويل، أجرينا دراسة ثانية قارنَّا فيها بين (136) مغتربًا مع (125) فردًا يستعدون للسفر سواء عبر فرص عمل أو دراسة لكنهم لم يسافروا بعد. كما حاولنا ضبط عدة معايير ديموغرافية ونفسية، كالعمر والجنس والحالة الاجتماعية والوضع الاجتماعي الاقتصادي وسمات الشخصية. ومجددًا، تبين ارتفاع مستويات معرفة الذات لدى المغتربين مقارنةً بمن لم يسافروا بعد، لكنهم عازمون على اتخاذ هذه الخطوة خلال العام القادم.

ما العلاقة بين التفكر بالذات والاغتراب؟
أردنا فيما بعد تحديد سبب النمو المعرفي للذات الناجم عن الاغتراب. ووجدنا في الدراسة التي شرحناها آنفًا دليلًا يؤكد أن تفكر المرء في معرفته لذاته -أي تأمله فيما إذا كان كل فِرقٍ من هويته يحدد هويته الحقيقية أم أنه يعكس نشأته الثقافية فحسب- يُعتبر عاملًا أساسيًا في علاقة الغُربة بمعرفة الذات. لذلك، أنشأنا مقياسًا جديدًا للتفكر أظهرت بياناته أن المغتربين أكثر انهماكًا في التفكر من الذين لم يبرحوا أوطانهم قط. فَلِمَ يتعاظم التفكر بالذات في الغربة؟
من الراجح أنه حال الاستقرار في الأوطان يُحاط الأفراد بآخرين يشابهونهم في سلوكياتهم، فلا تجتاحهم تساؤلات عما إذا كانت سلوكياتهم تعكس قيمهم الأصلية أم قيم الثقافة المتجذرة فيهم. بالمقابل، توضح بياناتنا أن المغتربين سيضطرون -عَقب اصطدامهم بقيم ومعايير ثقافية جديدة- للالتحام المتواتر مع قيمهم ومعتقداتهم الأصيلة، وحينئذٍ إما ينسلخون عنها وإما يَعَضُّون عليها بالنواجذ.

في دراسة أخرى، استخدمنا تصميمًا تجريبيًا لنقدم دليلًا سببيًا على الارتباط بين الاغتراب ومعرفة الذات. انتقينا (116) مشاركًا عبر الإنترنت، جميعهم سبق لهم أن تغرَّبوا عن أوطانهم، ووزعناهم عشوائيًا ضمن حالتين تجريبيتين. في الحالة الأولى، طلبنا من المشاركين أن يفكروا في تجربة غربتهم، وطلبنا من المتطوعين في الحالة الثانية التفكير في تجربة استقرارهم في أوطانهم. وأثبتت هذه الطريقة فعاليتها وموثوقيتها في محاكاة التفكر في الغربة مقارنةً بالوطن.
بينت النتائج أن المشاركين الذين تفكروا في تغربهم أكثر معرفة بذواتهم مقارنةً بالذين تفكروا في الاستقرار في أوطانهم. علاوة على ذلك، وعلى نحو مشابهٍ للدراسة السابقة، تمايز الفريقان نظرًا لأن المتطوعين الذين كتبوا عن اغترابهم استحضروا أفكارًا توحي بعلو إدراكهم لذواتهم.

خلاصة الغُربة في عمق الخبرة المكتسبة، لا اتساعها
في دراسات لاحقة، وسَّعنا دائرة المشاركين وانتقينا طلاب ماجستير إدارة الأعمال ممن مضى على تغربهم ما يقارب الثلاث سنوات. أتاحت لنا العينات إجراء تمحيص دقيق للعلاقة بين الغُربة ومعرفة الذات. وصببنا جُلَّ تركيزنا لنعرف ما إذا كان عمق الخبرة الدولية (المدة الإجمالية للاغتراب) أو اتساعها (عدد الدول المُقام فيها) ينمي المعرفة بالذات.
وتوقعنا أن عمق الخبرة يضاهي اتساعها، فكلما طالت مدة غربة الفرد، زادت فرص انهماكه في التفكر الذاتي. بالمقابل، خمَّنا أن اكتساب هذه الخبرة من بلد أو عدة بلدان أجنبية أقل شأنًا. وقد أكدت دراسة شارك فيها (559) طالب ماجستير إدارة أعمال صحة توقعاتنا، إذ بينت أن عمق تجربة الغُربة، لا اتساعها يتنبأ بمعرفة أعمق للذات.

معرفة الذات تفضي إلى نتائج متطابقة
ما أثر هذه النتائج على عالم الشركات؟ تبين إحدى النتائج المحتملة أن معرفة الذات تُولِّد توافقًا أعلى بين رؤية الأفراد لأنفسهم ورؤية الآخرين لهم، وكلتاهما تُقاس عبر أنظمة تقييم شاملة. وقد أتسع نطاق الاعتماد على هذه الأنظمة، فتبنتها (90%) من المنظمات الكبيرة تقريبًا، فيما تُعزى التقييمات الخاطئة لمجموعة نتائج سلبية تتعلق بالعمل.
في دراسة أخرى، قارنَّا مدى تطابق التقييم الذاتي ل (544) طالب ماجستير إدارة أعمال مع تقييم زملائهم لهم في الدراسة والعمل وفقًا لعدة أبعاد اجتماعية وسمات شخصية. ويشير ارتفاع مستوى التطابق إلى التشابه بين نظرة الطلاب لأنفسهم ونظرة الآخرين لهم. ويقترن التطابق مع معرفة الذات من حيث أن الفرد يُقدِّم نفسه للآخرين بصورة أوضح وأكثر انسجامًا إذا ما فهمها فهمًا تامًا في المقام الأول. وعلى ضوء نتائج الدراسة السابقة، تبين أن عمق تجربة الاغتراب، لا اتساعها يُرجح كفة التطابق بين تقييم الذات وتقييم الغير.

ماذا عن أثره على القرارات المهنية؟
سلَّطت دراساتنا الضوء كذلك على الإدارة المهنية. وفقًا للدراسات وفي خضم عالمنا المهني المعقد، فمن المؤكد أن معظم الأفراد -في مرحلة ما- سيتعرضون لتحديات أثناء اتخاذ قرارات مهنية هامة. فمثلًا، أبرز العقبات التي تعرض لها طلاب ماجستير إدارة الأعمال، تحديد المسار المهني بعد التخرج. فمن المنطقي أن معرفة الذات تسمح لأنسب الخيارات المهنية المتوافقة مع نقاط قوة الفرد وقيمه أن تطفو على السطح، فيتولَّد عنها الثقة والوضوح في اتخاذ القرارات المهنية.
واستطلعنا عبر دراسة ختامية انعكاسات العلاقة بين الاغتراب وعمق المعرفة بالذات على الخطط المهنية للمدراء المستقبليين. ومجدداً أفاد استطلاع لآراء عينة من (98) طالبًا دوليًا في ماجستير إدارة الأعمال، أن عمق تجربة الاغتراب لا اتساعها، يُفضي لمعرفة أعمق بالذات. وفيما بعد، تُرجمت معرفتهم العميقة بذواتهم إلى وضوح أكبر في خططهم بعد التخرج؛ فالذين تغرَّبوا لفترة أطول كانت رؤيتهم لمسارات حياتهم المهنية بعد برنامج ماجستير إدارة الأعمال أوضح.

الخلاصة والتوجهات المستقبلية
على وجه العموم، توصّلنا لأدلة برهنت حتمية أثر الغُربة على معرفة الذات وفقًا لكوكبة متنوعة من المشاركين الذين قطنوا بلدانًا متباعدة (مجموعة الإنترنت وطلاب ماجستير إدارة الأعمال)، والوسائل (الارتباطية والتجريبية)، ومقاييس معرفة الذات (تقارير ذاتية وتقييمات شاملة). ومن بين الإخطارات المحتملة، تتجلى إمكانية أن يتعدَّى أثر الغُربة معرفة الأفراد بذواتهم ليسلك منحىً معاكسًا يحثهم على التغرُّب. ولا بد لإجراء أدق الاختبارات السببية المبرهنة على حججنا، الاختيار العشوائي للمغتربين أو القاطنين في أوطانهم، ثم تعقب مستويات معرفتهم لذواتهم. ولا عجب أن يخرج هذا النوع من التصميم عن نطاق إمكاناتنا في الدراسات النوعية الآنفة.

ولعل أبرز التوصيات للأبحاث المستقبلية دراسة أسباب عجز الغُربة عن تمكين الأفراد من معرفة ذواتهم. ولعل أبرز العقبات التي يتعرض لها المغتربون في مستهل غربتهم “الصدمة الثقافية”: وهي عبارة عن القلق الناجم عن فقدان جميع علامات ورموز التواصل الاجتماعي المتعارف عليها. وفي حال تعذرت السيطرة على هذا القلق، ستصبح الغُربة مصدر إقصاء وإرباك يعيق نمو معرفة الفرد لذاته ويحرمه من جني ثمارها.

ومع ذلك، فإن الغالبية يتخطون هذه المرحلة. وإلى أن يعتادوا على محيطهم الثقافي الجديد، ستغدو تجاربهم أشبه بتجارب الراحل (مايكل كريشتون) الذي جسد روح بحثنا في كتابه (أسفار) بقوله:
سافرت لأقصى المعمورة باحثًا عن ذاتي
ونلت جواهرها المكنونة لما فارقت ملذَّاتي.

  • ترجمة: آلاء نوفلي
  • المصادر: 1