
لماذا يجب أن تكون منطقيًّا وعلميًّا لتغدو شخصًا صالحًا؟
· يختلف كونك علميًا أو «نصيرًا للمذهب العلمي» عن كونك عالمًا. فالعالم هو شخص يدرس العلوم، ومن يتصرف علميًا هو من يرى العلم السبيل الوحيد للمعرفة، وربما للعيش.
· أجرى موقع «بيغ ثينك» حوارًا مع عالم الفلسفة والأحياء «ماسيمو بيجوليوتشي» حول كيف أن العلمية تصف العالم بدقة، لكنها تقصر عن أن تكون دليلًا كاملًا للعيش- وهو المجال الذي تبرز فيه أهمية الفلسفة والأخلاق.
· نحتاج إلى التحلي بالمبادئ الأخلاقية، والاستدلال المنطقي، والتثقيف العلمي لاتخاذ قرارات أخلاقية سليمة، وعيش حياة رغيدة.
يخوض الأكاديميون حربًا لم تعرف الهدنة في مبانيهم التليدة المنعزلة. كانت تلك الحرب ناشبة بين الإيمان والهرطقة في أوروبا العصور الوسطى، والعقليين والتجريبيين في أوروبا عصر التنوير. وباتت اليوم ضروسًا أكثر من السابق، فهي بين العلميين ومن سواهم.
يختلف كونك علميًا، أو نصيرًا للمذهب العلمي، عن أن تكون عالمًا. لأن العالم هو المشتغل بالعلم لا أكثر، أما العلمي فهو من يرى العلم السبيل الوحيد للمعرفة، وإن تطرف رآه السبيل الوحيد للعيش. وهنا برز التساؤل الذي أشعل الحرب الحالية: ما الذي تبقى من معرفة لتخبرنا بها المجالات الأخرى غير العلمية؟ في هذه الآونة، دفع العلم ظلال المعرفة إلى أبعد حدودها؛ صرنا نعلم الآن القوى الأساسية الأربعة، وعالم ميكانيك الكم، والناقلات العصبية، وعلم التخلق، وها نحن نقترب من «نظرية كل شيء» العظيمة. فما عسى أن يقول الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، والمحللون النفسيون، وخريجو كليات الآداب؟
على الرغم من أن العلم قد تقدم كثيرًا، فإن هذه الجدالات ضاربة في القدم، فحرب العلميين وسائر المذاهب تعود إلى العصور القديمة. ولاكتشاف ذلك، حاورت عالم الفلسفة والأحياء «ماسيمو بيجوليوتشي»، مؤلف كتاب ما وراء الرواقية: دليل لعيش حياة طيبة مع الرواقيين، والمتشككين، والأبيقوريين، وغيرهم من الفلاسفة القدامى Beyond Stoicism: A Guide to the Good Life with Stoics, Skeptics, Epicureans, and Other Ancient Philosophers. فهو خير من يلقي الضوء على هذا الموضوع لأنه أكاديمي له باع في كلا المجالين.
العلوم أفضل
ثمة سؤالان يُستدعى تناولهما؛ أولهما ما إذا كانت العلوم هي الأفضل أم أنها مجرد السبيل الوحيد للمعرفة. أما السؤال الثاني، فهو: ماذا تبقى لغير العلماء أن يفعلوا؟ وها هنا رد «بيجوليوتشي» على الأول:
«حسنًا، إذا كنا نتكلم عن معرفة الأشياء عن العالم كما هو، إذن، فإن العلوم هي السبيل الوحيد للمعرفة، ولا يوجد طريق آخر غير ذلك، أو أنها على الأقل بمثابة الطريق الأمثل الذي ابتكرناه – كما تعلم – لذا، هل من بدائل؟»
أيكون الحدس؟ حسنًا، فإنه مجرد معالجة للمعلومات بفعل العقل الباطني، وفي بعض الأحيان، قد يصبح صوابًا أو خطأ. لذا، كيف يمكنني أن أعرف أنه صواب؟ حسنًا، عليَّ بالتحقق منه، فبمجرد أنك انتقلت من الحدس البسيط إلى قول «دعني أرى»، فإنك تؤمن بطريق العلم.
أتكون الفلسفة؟ حسنًا، لم تكن الفلسفة مجالاً لاكتشاف أشياء عن العالم، بل إنها مجال لفهم الصورة العامة، وللإجابة عن أسئلة تطرح عن المعنى؛ لكنها ليست لاكتشاف ما هو جديد عن العالم.
أيكون الدين؟ حسنًا، حظًّا موفقًا بهذا. يوم تقدم العقائد الدينية ما يعادل الفيزياء الأساسية أو نظرية التطور، سأُصغي. لكن أين هي من ذلك.
أيكون التصوف؟ نفس الفكرة، وأقصد أنك ستحاط بالمفاهيم الغامضة غير المفيدة عمومًا. لذا أرى العلوم السبيل الوحيد، بل الطريق الأمثل، لفهم العالم؛ ولو أن «فهم العالم ليس كل شيء».
المبادئ المدعمة بالتجربة
ثمة مسألة في الفلسفة لا تزول تسمى «المغالطة الطبيعية»؛ وهي أنه بصرف النظر عن كم الحقائق التي نطرحها عن العالم الذي لا يمكن أبدًا أن نستنبط منها «ما يجب» أو حتى بيانًا أخلاقيًا. فإذا قلت لي: «هذا سيسبب الألم»، لا يزال يتعين عليك أن تخبرني السبب في كون الألم أمرًا سيئًا. وهنا يأتي دور الفلسفة بحسب «بيجوليوتشي»، مشيرًا إلى «وجود نموذج للأخلاق يعرف بـ«الأخلاق الطبيعية» الذي كان سائدًا في اليونان القديمة وروما، إضافة إلى أن جميع مدارس الأخلاق الفاضلة كالرواقية، والتشكك، والأرسطية، والأفلاطونية تندرج في الأساس ضمن النموذج المذكور. وعلى نطاق أوسع، فإن هذا النموذج هو مجرد دراسة حول كيفية أن تحيا حياة سعيدة، كما أن الأخلاق في الواقع طريقة مستنيرة من الناحية التجريبية لتطبيق الفلسفة في هذا الصدد. فإن لم تفهم البشر بطبيعتهم أو كيف يؤدون عملهم، فعلى أي أساس ستعمل بالأخلاق؟
سأعطى لك مثالاً على ذلك؛ تخبرك العلوم أنه لا يترتب على التعذيب ازدهار البشر؛ وذلك لأن البشرية لا تتلذذ بالتعذيب ليس ذلك على النطاق المادي وحده، وإنما على النطاق النفسي الأوسع؛ لأنه يسبب العديد من أعراض ما بعد الصدمة، والسبيل الوحيد للاستجابة هو ردعه، وهذا ما لا تحتاج إلى العلم لتدركه، فمراقبة العالم كفيلة بتعليمك ذلك، لكن ما أعنيه بقولي أن «البشر لا يتلذذون بتعذيبهم» هو الحقيقة التي تَخلُص إلى عدم السماح بالتعذيب في المجتمعات الحديثة؛ لأنه لن يؤدي إلى ازدهارها».
كيف تتصرف بطريقة سليمة؟
تعد العلوم الأداة المثلى لفهم العالم؛ ونحتاج إلى فهم العالم كي نتصرف بطريقة أخلاقية، على الأقل من منطلق الأخلاق الطبيعية باليونان القديمة. وثمة سبب آخر يجعلنا العلم والمنطق أفضل أشخاصٍ وهو ما له علاقة باتخاذ القرارات. فبـالرجوع إلى القرن التاسع عشر، ألَّف عالم الرياضيات «كليفورد» كتابه المشهور وهو «أخلاقيات الاعتقاد» The Ethics of Belief حيث تناول أنه من غير الأخلاقي الاعتقاد في شيء من دون وجود مبرر للاعتقاد فيه، وهو ما قد يبدو غريبًا جدًّا بالنسبة للكثير من الأشخاص، لكن ماذا يعني هذا؟ أتعلم؟ أن الكثير من الأشخاص يعتقدون في كافة الأشياء من دون وجود مبررات لها، فهل هم كلهم يتصرفون بطريقة غير أخلاقية؟ «أجل» كما تبدو نبرة الإصرار على إجابة «كليفورد».
ويكمن السبب في أنه من المرجح أن ترتكب الأخطاء إذا لم يكن معتقدك مدعومًا بالأدلة التجريبية، وإذا كنت على علم بذلك، فإنه يعد غير أخلاقي بحسب «كليفورد»، وبالمثل ما قاله «شيشرون»؛ إذ يقول إنه لا بد من ألا تعتقد في شيء من دون أن يكون لديك حسبما يسميه الفلاسفة بـ«مبرر معرفي كافٍ»، وذكر الرواقيون أنه إذا أردت أن تحيا حياة طيبة، فإنه عليك بفهم العالم الذي تعيش فيه بأقصى قدر ممكن؛ لأنك إذا لم تفهمه، أو أسأت فهمه، ستتخذ قرارات غير سديدة، قد يكون بعضها مميتًا.
بعبارة أخرى، لا بد أن تمارس العلم -لا كمحترف، بل كإنسان يسعى إلى قدر معقول من الفهم- لتفهم العالم من حولك.
وأخيرًا، لا بد أن تستعمل المنطق والاستدلال السليم على ما تظن أنك تعرفه، إذ حتى إن كانت معارفك صحيحة، إذا أخطأت في الاستدلال عليها، فلن تستخلص النتائج الصحيحة. وعليه، كان هدف الرواقيين والشكّاكين الأكاديميين واحدًا: أن يعيش المرء حياة تستحق أن تُعاش- حياة طيبة مزدهرة. وقد رأوا السبيل إلى تلك الغاية هو فهم العالم والتفكير العميق فيه.
- ترجمة: زينب محمد الأصفر
- المصادر: 1