
مفتاح عبقرية المراهق: كيف يعيد التفكير المتسامي تشكيل الدماغ لمستقبل أفضل؟
قد يسهم نهجٌ تعليمي في نضج أذهان المراهقين بطرق تفتح لهم آفاقًا تعزز رؤيتهم للحياة وتجاربهم فيها؛ إذ يُحفّزهم على تجاوز حدود الواقع الآني.
تحمل المراهقة في طياتها عشقًا جارفًا، أو خجلًا مفرطًا لا يُحتمل، أو شغفًا متّقدًا بقضية ما، وأحيانًا تعني كل ذلك معًا. أما بالنسبة لي، فقد سَاقَني فضولي المتقد تجاه الطبيعة إلى موقف طريف، حينما عثرت جدتي على كيسٍ من عيون الأبقار في الثلاجة، ساعدني والدي في جمعها من المسلخ بغرض تشريحها.
لم أقصد إزعاج أحد، بل تملكتني الرغبة لاكتشاف أسرار البصر والرؤية. وكأي مراهق آخر في هذه المرحلة، اجتاحتني رغبة جامحة لفهم ما وراء الظواهر ولماذا تسير الأمور على هذا النحو، وكيف يمكن أو ينبغي لها أن تختلف. وبعد انقضاء فترة اهتمامي بتشريح العيون، اعتنقت الإنسانية تلك العاطفة السامية، وأرتديت حول عنقي رمز السلام البالغ قطره أربع بوصات. وبدأت أنا وأختي في كتابة وأداء أغاني فولكلورية (وقد بلغت من المبالغة مبلغها) والتي حاولنا من خلالها التعبير عن استيائنا من الظلم الذي يعصف بالعالم على كل من الصعيد العالمي والمحلي والتاريخي.
صرت في سنوات مراهقتي كمن يسبح وسط أمواج المحيط المتلاطمة، إن جاز التعبير، أرقب المشهد، أنصت، أتساءل، وأصارع لفهم زخم المشاعر والأفكار والثقافات التي تملأ عالمي وتتسلل إليَّ. من نحن في جوهرنا؟ ومن أنا في خضم ذاك التيار الجارف؟ اليوم بعد خمسة وثلاثين عامًا، ما زلت مفتونةً بهذه الأسئلة وبالصراع الذي يخوضه المراهقون في سعيهم لفك شيفرة ما يشهدونه ويختبرونه.
وحينما طرحت سؤالي على مراهقين من أحياء لوس أنجلوس الحضرية عن الأسباب التي تدفع بعض الأشخاص إلى ارتكاب الجرائم العنيفة في منطقتهم، تلقيت منهم تلك الردود:
«تجتاحهم مشاعر متأججة، ويسيطر عليهم طوفان من الغضب إلى حد يفقدهم السيطرة، فيرتكبون جرائم القتل كرد فعل غريزي. إذ يتصرفون بشراسة مبالغ فيها».
«لكل إنسان قصة تشكّل ماضيه، وخيارات تترك بصمتها عليه، وتجارب ترسم ملامح مستقبله؛ فما يمرّ به المرء بالأمس يترك بصمةً تشكّل سلوكه بالغد».
يكمن الفارق بين الاقتباسين في دقته، لكنه يحمل دلالات جوهرية على تطور العقل. فالأول يسلط الضوء على الدافع المباشر لارتكاب الجريمة؛ إذ يعد نمط تفكير تحليلي ضروري للحفاظ على السلامة الشخصية والتكيف مع الظروف المتغيرة. في المقابل، يُظهر الثاني إدراكًا أعمق للأطر التاريخية والثقافية والاجتماعية التي تشكل سلوكيات الأفراد وتؤثر فيها.
لم أجد مراهقًا تعاملت معه، إلا وامتلك القدرة على التحليق في دروب الزمن ذهنيًا والتأمل في الماضي والمستقبل. بغض النظر عن مستوى ذكائه أو وضعه الاجتماعي والاقتصادي. ومن خلال الإصغاء العميق لتأملات المراهقين ومراقبة نشاط أدمغتهم أثناء استلقائهم داخل جهاز التصوير العصبي، توصلت مع زملائي إلى أن القدرة على التنقل بين أنماط التفكير المختلفة، من اللحظة الراهنة إلى الماضي والمستقبل وما سواهما كما ورد في الاقتباسات، تساهم فعليًا في بناء عقولهم. وتنشط شبكات الدماغ وتخفت وفق نمط ديناميكي معقد، في آلية أظهرت بياناتنا أنها تعزز تطورها وتعمّق ترابطها، وذلك حينما ينطلق العقل في فضاءات التفكير العميق واسع الأفق والمشحون بالعاطفة، والذي نطلق عليه التفكير المتسامي لتحليقه بعيدًا متجاوزًا حدود اللحظة الراهنة.
يمثل هذا النضج الفكري الناشئ بوابة للمراهقين نحو فهم أعمق لذاتهم وللآخرين، بدءًا من العائلة والأصدقاء وصولًا إلى المجتمع ككل، كما يفتح أمامهم آفاقًا لتخيّل مكانتهم في العالم. ومع مرور الزمن، يصبح هذا التفكير المتسامي ركيزة أساسية تعزز قدرتهم على الصمود في وجه المحن، ويهيّئهم لمسار يفضي إلى حياة مفعمة بالرضا، سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو الاجتماعي. إذ تقدم أبحاثنا تفسيرًا حول سبب كون المراهقين من أكثر أفراد المجتمع بصيرة ومثالية (ومن ناحية أخرى، وأحيانًا أكثرهم انعزالًا عن الآخرين وانشغالًا بذواتهم)، ويظهر أن تعزيز نموهم بالفعل يتطلب من الآباء والمدارس والمجتمعات توجيه اهتمامهم نحو كيفية تفكير الأطفال بدلاً من التركيز على معارفهم فقط.
عندما بدأت رحلتي في دراسة علم الأعصاب في منتصف الألفية الجديدة، اعتقد الباحثون أن المراهقة تتسم بنقصٍ جوهري في نضج الدماغ. فقد أظهرت دراسات التصوير العصبي أن مراكز الاستجابة العاطفية التلقائية في الدماغ، مثل اللوزة الدماغية، تنمو مبكرًا، بينما لا تبلغ القشرة الجبهية نضجها الكامل إلا عند بلوغ منتصف العشرينات، وجدير بالذكر أنها المعنية بالتفكير العقلاني المتزن واتخاذ القرارات الحكيمة. فقد أسفرت تلك النتائج عن تحول في نظرة علماء الأعصاب، مثل (بي جي كيسي) من جامعة كولومبيا، الذين أشاروا إلى أن المراهقين ليسوا أقل دراية وافتقارًا للمعرفة فحسب مقارنة بالبالغين، بل يعانون أيضًا من تقلبات عاطفية تجعلهم أقل قدرة على تحمل تبعات أفعالهم. ووصف عالم الأعصاب روبرت م. سابولسكي، من جامعة ستانفورد، دماغ المراهقين بدوامة مستعرة، تدور بلا توقف وتكاد تخرج عن مسارها في كتابه (السلوك) الصادر عام 2017. وأشار إلى أن تحول المراهقين إلى بالغين ناضجين يتطلب أكثر من مجرد اكتساب المعرفة والمهارات؛ بل يتطلب أيضًا تطوير القدرة على كبح جماح نزعاتهم المتهورة وتهذيب مشاعرهم الجياشة وانفعالاتهم المتأججة.
اكتشفت أن شغف المراهقين يعد أحد المحركات الرئيسية لنضجهم الفكري حينما بلغت الثالثة والعشرين من العمر وعملت كمدرسة لمادة العلوم في مدرسة ثانوية حكومية جنوب بوسطن. إذ لم يكن اهتمامي بالطبيعة مجرد اكتشاف لظواهرها، بل شمل أيضًا فهم كيف تولد الثقافة من رحم الطبيعة. فتلك الرحلة الثقافية التي عشتها مع عائلات في فرنسا وروسيا وأيرلندا وكينيا، منحَتني فرصة تعلم لغاتهم وتعرفت عن كثب على تفاصيل حياتهم اليومية. وتخصصت في الأدب الفرنسي بالجامعة بعد عودتي إلى الولايات المتحدة، فحينذاك واصلت تعميق معرفتي العلمية عبر كل دورة علمية سنحت لي الفرصة للالتحاق بها. وتملكني شغف صناعة الأشياء والحرف اليدوية، لكن بعد إصابتي بجرح في يدي وترك عملي كمتدربة في مهنة النجارة، استطعت بطريقة ما إقناع مجلس التعليم في ماساتشوستس بأن يمنحني الفرصة لتدريس العلوم للصف السابع.
ضمت المدرسة التي درّست فيها تنوعًا ثقافيًا هائلًا، إذ يتحدث الطلاب 81 لغة. ويعد معظمهم من المهاجرين واللاجئين الذين جاؤوا إلى فصلي كغزلان تراقب ضوء المصابيح بفضولٍ متقد. وبلغوا من العمر الثالثة عشر، وقد أضاء ذاك الفضول المتقد تباين ملامحهم وعاداتهم.
في إحدى الحصص، وبعد عرض مقطع فيديو عن تطور الإنسان يُظهر كيف عاش أسلاف البشر الأوائل في شرق إفريقيا، رفعت طالبة سوداء يدها بتردد، وسأطلق عليها اسم مارِيلا. وتعد مارِيلا من الطالبات المتميزات، لكن بدا الارتباك واضحًا في عينيها، وكأنها تحث نفسها لطرح السؤال، بينما زملاؤها يرمقونها بنظرات مشجعة. وأخيرًا، قالت بصوت متردد: «أستاذة إموردينو، لماذا حين ندرس تطور الإنسان، نجد دائمًا هذه الكائنات في إفريقيا ببشرة داكنة؟ لماذا دائمًا يبدو أنهم مثل الأشخاص السود؟».
فأردفت بدوري قائلة: «ذلك لأنهم يعيشون بالقرب من خط الاستواء، كما أن الشمس هناك قاسية جدًا. وإذا لم يكن لديك كمية كافية من الميلانين لحماية بشرتك، سوف تلفَحَ حرارة الشمس بشرتك، وقد تصابين بسرطان الجلد».
عَمَّ صمت رهيب في القاعة، بعدئذ تحول إلى نقاش حيوي متقد طغى على الصف لعدة أشهر. فاستخدم الطلاب ما تعلموه في العلوم على محاولاتهم لفهم ذواتهم في هذا العالم. وذاك ما جعلني مفتونة، ونبش الفضول عقلي، لماذا فسروا الدرس بطريقة شخصية وعاطفية إلى هذا الحد؟ ولماذا بدأ العديد من الطلاب يظهرون شغفًا جديدًا بالعلوم، حتى بعد أن تلاشى الاضطراب السائد في الصف؟
التفكير العميق والقوي عاطفيًا المسمى ب(التفكير المتسامي) قد يسهم حرفيًا في بناء العقول:
خضتُ غمار دراسة علم الأعصاب الإدراكي التطوري على مقاعد المدرسة المسائية، ولم تلبث أن قادتني إلى الدراسات العليا بجامعة هارفارد عام 1997. إذ اكتشفتُ أن عالم النفس جان بياجيه، الذي بدأ حياته كعالم طبيعة، قد أشار في ثلاثينيات القرن الماضي إلى أن الأطفال، مع بلوغهم الحادية عشرة أو الثانية عشرة، يشرعون في التفكير المجرد والتأمل في قضايا أخلاقية معقدة ورسم سيناريوهات معقدة في أذهانهم. وبعد ذلك بعقدين من الزمن، ليشير إلى أن المراهقين يشرعون في رحلة البحث عن الذات بإعادة النظر في معتقداتهم وقيمهم، في محاولة لاكتشاف ذواتهم ومكانهم في هذا العالم. وتعد مرحلة المراهقة فترة تنشأ فيها قدرات التفكير المجرد، التي تتضافر مع الحساسية الاجتماعية المفرطة والميل نحو العواطف الجياشة، مما يمكّن المراهقين من استنتاج المبادئ العامة أو الدروس الخفية من تجارب حياتهم وأحداثها. وقد بدا أن المراهقين يشعرون بضرورة البحث عن هذه الروابط العميقة ومعانيها، كما لاحظتُ ذلك في صفوفي في بوسطن، وكما وصف العديد من العلماء مثل ريتشارد ليرنر من جامعة تافتس، وويليام ديمون من جامعة ستانفورد، وكيرت و. فيشر من جامعة هارفارد.
وبعد تخرجي عام 2005، حالفني حظ عظيم بأن أبدأ زمالة ما بعد الدكتوراه تحت إشراف عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو، االذي انتقل آنذاك إلى جامعة جنوب كاليفورنيا برفقة زميلته وشريكة حياته هانا داماسيو. وعلى امتداد عقود من الأبحاث السريرية، طرح الزوجان داماسيو رؤية ثورية حينذاك؛ العواطف لا تعيق صفاء الذهن، بل تعد القوة التي تغذّيه؛ إذ تمنحه التوازن، والقدرة على التكيف مع الظروف والوعي الأخلاقي.
ويعد المريض الذي يُعرف باسم «إي في آر» مثالًا حيًا لتلك الرؤية العميقة. كان رجل أعمال ناجحًا وذكيًا، يعيش حياة زوجية سعيدة ويهتم بتنشئة أسرته نشأة حسنة، لكن بعدما أجرى عملية جراحية لاستئصال ورم في الدماغ، تغيّرت مجريات حياته تغييرًا جذريًا. استهدفت العملية إزالة أجزاء من السطح السفلي للفص الجبهي في دماغه، فوق عينيه مباشرة، فوق وحول عينيه؛ ما جعل قراراته تصبح غير مدروسة. وعاد إلى العمل ليواجه سلسلة من الإخفاقات التجارية التي انتهت بالإفلاس المتوقع. كما بدأت علاقاته الشخصية تنهار، فبدأ في إهانة من يحبهم، وبدا قاسيًا حيال آلامهم، ولا يبدي أي ندم على أفعاله، بل بدا غير مكترث لألمهم. وانتهى به المطاف إلى الطلاق من زوجته، ثم تزوج مرة أخرى، لكنه طلقها بسرعة.
من خلال دراسات دقيقة مليئة بالأفكار العميقة، أثبت داماسيو وفريقه أنه بالرغم من أن معدل ذكاء «إي في آر» ظل مرتفعًا بعد الجراحة، إلا أن دماغه كان يعاني من خلل يجعل من المستحيل عليه أن يستخدم ذكاءه بطريقة أخلاقية أو مثمرة. وبدأ في اتخاذ قرارات غير منطقية لأي شخص عاقل وبدأ يظهر سلوكًا معاديًا للمجتمع. والأكثر إثارة للدهشة عجزه عن التعلم من أخطائه. ويعتبر «إي في آر» مدركًا تمامًا للصواب ولديه الذكريات اللازمة لإرشاده، لكنه لم يكن يهتم بعواقب قراراته. وقد أدرك داماسيو وزملاؤه أن مشاعر «إي في آر» لم تكن تسهم في توجيه تفكيره وتخطيطه بالشكل السليم، مما أثر سلبًا على علاقاته الاجتماعية.
في أول يوم لي في جامعة جنوب كاليفورنيا، جاءني أنطونيو إلى المكتب. وأتذكر أنه صَرَّحَ لي أثناء احتسائنا لفنجان الإسبريسو الإيطالي قائلاً: «أود دراسة المشاعر الاجتماعية، وإدراك كيف يشعر الدماغ بالمشاعر مثل الرحمة والإعجاب بالفضيلة والازدراء؛ إذ تعد المشاعر التي تشكل اللبنة الأساسية للأخلاق البشرية، والإبداع والثقافة والفنون. فتعتبر المشاعر بصمة التكيف الثقافي والتعليم. ولم يسبق لأحد أن خاض في هذا المجال. أيثير ذلك فضولك؟»
ويعد ذاك اليوم إيذانًا ببداية رحلة طويلة، رحلة نسجت خيوطها من الأفكار التي اكتسبتها من مساعيي في مرحلة المراهقة، وأسفاري، وعلاقتي مع طلابي في الصف السابع، وإرشادات أساتذتي في هارفارد، وعائلة داماسيوس وزملائي الآخرين، وفي نهاية المطاف، طلابي وعملي معهم؛ لتقودني تلك الرحلة إلى أفق جديد لفهم العقل المراهق.
في تلك الحقبة، فتحت تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) آفاقًا جديدة أمام علماء الأعصاب، إذ مكّنتهم من تتبّع المناطق التي تنشط أو تخمد وفقًا للحالات الذهنية المختلفة، وذلك بفضل قدرتها على رسم خريطة دقيقة لتدفّق الدم في الدماغ. ولم يعد الأمر يقتصر على رصد آثار المشاعر الأساسية كرهاب المرتفعات أو الاشمئزاز من الطعام الفاسد، بل بات بالإمكان أيضًا تتبّع المشاعر (الاجتماعية)، تلك التي ترتبط بالفرد، وبالأفكار والرموز الثقافية، وبالعالم الاجتماعي المحيط.
وتعد إحدى المفاجآت التي أزاحت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) عنها الستار أن الدماغ لا يعرف الراحة، حتى في لحظات سكون الجسد داخل الماسح الضوئي. فقد كشفت الأبحاث أن بعض مناطقه الأساسية تواصل نشاطها بتناغم دقيق، والأكثر إثارة أن تلك المناطق تُعدّ من بين الأنسجة الأكثر استهلاكًا للطاقة في الجسم، إذ تمتص كميات من الجلوكوز والأكسجين، متجاوزة حتى احتياجات العضلات. فما سر هذا النشاط المستمر رغم غياب أي نشاط ظاهري؟ الجواب ببساطة أن التفكير التأملي الحر ليس ترفًا، بل ضرورة لا غنى عنها لعمل العقل.
في عام 2001، وصف عالِم الأعصاب (ماركوس إي. رايكل) في كلية الطب بجامعة واشنطن في سانت لويس وزملاؤه شبكة الوضع الافتراضي (DMN) بأنها مجموعة من المناطق التي تقع أساسًا في مركز الدماغ، والتي نعلم الآن أنها أساسية في تحديد إحساس الفرد بذاته. إذ تنشط شبكة DMN حينما يسمح الأفراد لعقولهم بالتجول أو الانغماس في أحلام اليقظة، أو استرجاع لحظات ذات مغزى من الماضي أو السعى لفهم قضية معقدة. وقد أظهرت العديد من الدراسات منذ ذلك الحين أن شبكة DMN أيضًا تسهم في الشعور بالعطف، والامتنان، والإعجاب، والدهشة، كما تعزز قدرتنا على إطلاق العنان للخيال والإبداع. فحينما لا نركز على العالم الخارجي، فإننا لا نكون في حالة خمول، بل نغرق في خلق القصص والمعتقدات والمستقبلات المتخيلة، نسافر عبر الزمن والآفاق لاستنباط الأفكار واستخلاص المعنى من تجاربنا.
تخفت شبكة (DMN) أثناء الانخراط في أنشطة تتطلب تركيزًا موجّهًا نحو هدف محدد، كملء استمارة ضريبية أو التقاط الكرة، حيث يتولى حينها الشبكة التنفيذية للتحكم (ECN) زمام الأمور، مما يساعد على الحفاظ على الانتباه وإنجاز المهمة بكفاءة. ومع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، اكتشف كلٌّ من (ويليام دبليو. سيلي) من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، و(لوسينا أودين) من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وغيرهما شبكة ثالثة تُعرف بـشبكة الانتباه البارزة (SN). وتعمل هذه الشبكة على ربط المناطق المسئولة عن استشعار الحالات الداخلية للجسم، فتنبهك مثلًا عندما تشعر بآلام في معدتك. كما تلعب دورًا أساسيًا في استثارة المشاعر التي قد تطرأ عند مواجهة محفزات مفاجئة، سواء عند رؤية أفعى تعترض طريقك، أو عند سماع أغنية محببة لديك، أو عندما تدرك أنك ارتكبت خطأ في مسألة رياضية كنت تعمل على حلها.
وبعد سلسلة من التجارب والأخطاء، استقر اختياري على نموذج تجريبي بسيط للغاية لكن محوري. فقد عرضنا على المشاركين قصصًا قصيرة على غرار الأفلام الوثائقية، أولاً في مقابلة خاصة، ثم كررناها مرة أخرى أثناء استلقائهم في جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). ومن خلال مقارنة استجاباتهم النفسية أثناء مناقشة مشاعرهم مع أنماط النشاط العصبي التي التي رصدها الجهاز، بدأنا في ربط مشاعرهم وطُرق تفكيرهم بالعالم مع الآليات العصبية الحيوية الكامنة وراءها. إذ توصلنا إلى اكتشاف بالغ الأهمية في ورقتنا البحثية الأولى، التي نُشرت في عام 2009.
وحينما أخبرنا المشاركون من داخل جهاز الرنين المغناطيسي أنهم شعروا بتأثر عميق من القصص الواقعية التي شاركناها معهم، لاحظنا نشاطًا في جذع الدماغ، الذي يعمل بعيدًا عن الوعي الإدراكي ولكنه ضروري للوعي وآليات البقاء الفسيولوجية مثل معدل ضربات القلب. كما لاحظنا تنشيطًا في القشرة الحسية الداخلية، وتعد مناطق ضمن شبكة (SN) التي تستشعر الإشارات الجسدية الداخلية، مثلما يحدث عندما ينبض قلبك جراء التمرين أو الحب أو الخوف، وكذلك في القشرة الحزامية الأمامية، التي تعد مركزًا هامًا للتواصل العصبي ولها دور محوري في العاطفة، التحفيز، والتعلم. ورافق ذلك نشاطًا في القشرة الخلفية االوسطى لشبكة DMN، والتي تعد مناطق واسعة في منتصف الجزء الخلفي من الرأس تتعلق بحالات الوعي، مثلما يحدث عندما ينتقل شخص من التخدير الخفيف إلى العميق.
باختصار، أثبتنا ما افترضه داماسيوس وآخرون سابقًا أن المشاعر الاجتماعية مثل الإعجاب والرحمة تستعين بالكثير من نفس الأنظمة الدماغية التي تبقينا على قيد الحياة، والجدير بالذكر أنها تتطلب استنتاجات معقدة حول تجارب الآخرين، نواياهم، معتقداتهم، قيمهم، قصصهم، تاريخهم ومستقبلاتهم المتصورة. ولا تستشعر شبكة (SN) الإشارات الجسدية فحسب، بل تعد أيضًا أساسية للمشاعر بكل أنواعها، بما في ذلك مشاعر القدرات الشخصية. فتجعل ما تفكر فيه يبدو ذا صلة، مبهجًا، جميلًا، مؤلمًا، منفّرًا، مثيرًا للاهتمام أو عاجلًا. وتمنحك شرارة من النشاط حينما تلاحظ شيئًا يهمك. كما تساهم في اتخاذ القرارات والإدراك لتحفيز الانتقال بين أنماط التفكير المختلفة من خلال وزن صلة المعلومات وأهميتها.
وأصبحنا الآن على دراية بأن الطفرة الهرمونية المرتبطة بمرحلة البلوغ لا تقتصر على تصعيد المشاعر بل تغمر الأفكار والتجارب بمعانٍ عميقة، كما أنها تفتح باب فترة حاسمة من القابلية للتغيير في الشبكات الدماغية، بما في ذلك شبكة (DMN)، وشبكة (ECN)، وشبكة (SN). إذ يستجيب المراهقون بقوة مع المحفزات الاجتماعية وغيرها، مما يدفع الشبكات العصبية الرئيسية إلى إعادة التنظيم استجابةً للتجارب. وتتيح تلك الفترة الممتدة من تطور الدماغ لنا التكيف بفعالية مع تنوع هائل من البيئات المادية والاجتماعية؛ من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، ومن مجموعات الصيادين وجامعي الثمار البدائية إلى المدن التي يقطنها ملايين البشر. إذ تعد جزء أساسي من كينونتنا البشرية.
على مدار سنوات من التجارب والنظريات، شرعت في دراسة كيفية عمل المشاعر الاجتماعية المعقدة في الدماغ، وفي نهاية المطاف أسست مختبري الخاص في عام 2014. من خلال سلسلة من الدراسات التي أجريناها في بكين ولوس أنجلوس، وثقت أنا وطالبتي شياو-في يانغ (لا تربطني بها صلة قرابة) كيفية تأثير الثقافة على العمليات الدماغية التي من خلالها يختبر الناس المشاعر الاجتماعية مثل الإعجاب والرحمة، ومع داربي ساكسبي، التي كانت آنذاك باحثة ما بعد الدكتوراه، أظهرنا أن استجابات الدماغ للمشاعر الاجتماعية تتفاوت بين الأفراد، وأن طرق حديثهم في المقابلة يمكنه التنبؤ بكيفية معالجة أدمغتهم لهذه المشاعر.
لقد جعلني العمل مع المراهقين المحليين ومجموعة من الطلاب الجامعيين المتميزين أتساءل كيف يمكن أن يتمازج ذاك الخليط المعقد من الهرمونات والقدرات الجديدة للتفكير المجرد الاجتماعي والعاطفي في أدمغة المراهقين. ولقد أظهرنا من خلال أبحاثنا أن معالجة المشاعر تتفاوت من شخص لآخر، ويشكلها السياق الثقافي، مما أشار إلى أن الأفراد يتعلمون جزئيًا على الأقل كيفية خوض التجارب العاطفية المعقدة، بوسعنا أن نرصد هذا التعلم من خلال المقابلات تترافق مع التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. ومع طالِبتي ريبيكا غوتليب، وشياو-في يانغ وآخرين، أطلقنا مشروعًا طموحًا لدراسة كيف ترتبط طرق المراهقين في إضفاء المعنى على الأشياء بالآليات الدماغية، وكيف يمكن لهذه الأنماط الفكرية أن تؤثر في أدمغتهم مع مرور الزمن.
تفكير المراهقين المتسامي يفتح آفاقًا جديدة لتفاعل أكثر تناغمًا بين الشبكات العصبية الرئيسية:
في عام 2012، جند فريقي 65 طالبًا تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عامًا من المدارس الثانوية العامة التي تخدم مجتمعات حضرية متنوعة ومنخفضة الدخل في لوس أنجلوس، للمشاركة في دراسة طويلة الأمد حول التفكير وتطور الدماغ. لقد استنتجنا أن هؤلاء الشباب أكثر عرضة لمواجهة تحديات معقدة، مما قد يتيح لهم قدرة استثنائية على ملاحظة تعقيدات محيطهم الاجتماعي. وعرضنا عليهم مقاطع فيديو لقصص حقيقية عن مراهقين من جميع أنحاء العالم، ثم أجرينا معهم مقابلات حول ردود أفعالهم. كما قمنا بإجراء ثلاث أنواع من الفحوصات الدماغية في اليوم نفسه، ثم كررنا الفحوصات بعد عامين، مع متابعة متواصلة من خلال استبيانات عبر الإنترنت ومكالمات هاتفية على مدار ثلاث سنوات، حينما بدأ معظمهم في دخول العقد الثالث من حياتهم.
تحدث جميع المراهقين، ولو بإيجاز، عن الصورة الأشمل، أي العِبر التي استخلصوها من القصة، خاصة إذا لامست شيئًا في سرائرهم. على سبيل المثال، عرضتُ على إيسيلا، إحدى المشاركات، مقطع فيديو ل (ملالا يوسفزاي) حينما بلغت من العمر الثانية عشرة، تصرّ بعزيمة لا تلين على مواصلة تعليمها رغم حظر طالبان. فسألتُ إيسيلا عن شعورها عند مشاهدة الفيديو، فجاء ردها كالآتي:
«أمم… هذه القصة تجعلني أشعر بالأسى، كم تحلم بأن تصبح طبيبة وتواصل تعليمها، لكن الأمر يحزنها؛ لأنها تدرك أن طريقها سيكون شاقًا للغاية».
أومأت برأسي، وبعد لحظات من الصمت، أردفت إيسيلا:
«وما يثير دهشتي حقًا هو مدى قوة تأثير هذه القصة، أعني.. جعلتني أتوقف لأتأمل رحلتي التعليمية، وكيف أطمح إلى الالتحاق بالجامعة، وعلى أمل أن أصبح عالمة يومًا ما. لكن ما يلامسني حقًا هو إدراكي أن هناك من لا يحظون بهذه الفرصة، فرصة المضي قدمًا في حياتهم، وإكمال تعليمهم، وتحقيق أحلامهم. هذا… ببساطة، ظلم لا ينبغي أن يكون».
توقفت إيسيلا مجددًا لتغرق في أفكارها، وتجولت نظراتها من صورة ملالا على شاشة الحاسوب أمامها والشجرة التي تتمايل خارج النافذة بجوار مكتبي، وبعدئذ عادت لتنظر إليّ واستأنفت حديثها:
«آه… كلما تعمّقت في التفكير، ازداد شعوري بالحزن… إنه لأمر مؤلم أن هناك أماكن في العالم يُحرم فيها الناس من حقهم في التعلّم، حيث تُفرض عليهم قيود تكبلهم وتعيق تقدمهم. لكن في الوقت ذاته، قصتها تبعث فيّ الإلهام لأبذل جهدًا أكبر، ربما لأتمكن يومًا ما من منع حدوث مثل هذه الأمور والمساهمة في تغيير هذا الواقع. إذ ينبغي أن يحظى الجميع في كل مكان بفرصة عادلة… أعني، لكل إنسان الحق في أن يحيا بحرية ويصنع مستقبله كما يشاء».
بعد أن تفاعلت إيسيلا بتعاطف مع التفاصيل الملموسة لوضع ملالا، تخطّت هذه التفاصيل لتغوص في التأملات والتداعيات الشخصية والأخلاقية التي طرحتها القصة. فقد وجدنا أن جميع المراهقين قادرون على التفكير بمنظور متسامٍ، ولكن البعض، مثل إيسيلا، تفوق في هذا الفكر بشكل لافت وامتلك قدرة أعمق على الغوص في جوهر المعاني واستخلاص الدلالات الأوسع. وعقب انتهاء المقابلة، طلبنا من كل طالب الاسترخاء داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لمدة عشر دقائق تقريبًا، مما أتاح لنا فرصة تقييم التفاعل بين شبكات الدماغ لديهم. كما أجرينا تصوير الانتشار للعضلات الشادة، الذي مكّننا من تتبع التغيرات في مسارات الألياف البيضاء في الدماغ، وهي القنوات التي تتيح تواصل المناطق البعيدة داخل الدماغ. وأخيرًا، التقطنا صورًا عالية الدقة لبنية الدماغ، مما ساعدنا في تحليل حجم مناطقه المختلفة بدقة.
لو شبّهنا الدماغ بدولة نابضة بالحياة، فإن التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) يرصد حيوية كل مدينة ومدى التفاعل والتنقل بين أرجائها، بينما يكشف تصوير الانتشار للعضلات الشادة عن جودة الطرق التي تربط بين هذه المدن، في حين تُظهر الصور الهيكلية عالية الدقة مدى صلابة البنية التحتية لكل مدينة على حدة. وعند جمع هذه العناصر معًا، تكوّنت لدينا رؤية متكاملة لمسار التحولات الدماغية عبر الزمن، واكتشفنا أن ميل المراهقين إلى التفكير المتسامي خلال المقابلة الأولى كان مؤشرًا واضحًا على تلك التغيرات.
تعد القصص التي سردناها للمراهقين نابضة بالحياة آسرة وتترك أثرًا لا يُمحى، لكن السؤال الأهم: إلى أي مدى حفّزتهم هذه القصص على الغوص في أعماق المعاني التي انطوت عليها؟ لاحظنا أنه كلما تعمّقوا في التساؤلات الكبرى وسعوا إلى تفكيك رموزها، زادت درجة التناغم بين شبكة (ECN) وشبكة (DMN) خلال العامين اللذين فصلا بين جلسات تصوير (fMRI). ويلمح الاكتشاف إلى أن نزعتهم نحو التفكير المتسامي قد يعتبر المفتاح لتعزيز كفاءة التواصل بين تلك الشبكات الرئيسية بمرور الوقت.
في حالات اضطرابات المزاج قد يفقد الذهن شيئًا من مرونته؛ إذ يجد صعوبة في الانتقال بين أنماط التفكير المتباينة:
بينما مضت إيسيلا والمراهقون الآخرون في حياتهم، حملوا معهم نزعتهم الفكرية وظلّت ترافقهم، يكرّسون الوقت والجهد للتأمل فيما يرونه، ويشعرون به ويتعلمونه؛ مما عزّز الروابط بين شبكات أدمغتهم. وعلاوة على ذلك، فإن التفكير المتسامي يعني أيضًا تعزيزًا أكبر لمتانة مسارات الألياف العصبية التي تربط شبكات الدماغ خلال العامين اللذين فصلا بين مسحي الدماغ الأول والثاني.
وما يثير الاهتمام أن التفكير المتسامي الذي أبداه المراهقون خلال المقابلة الأولى لم يكن مجرد تأمل عابر، بل بدا وكأنه درع يحمي مناطق أساسية في الدماغ من الترقق التدريجي للقشرة الدماغية مع التقدم في العمر، خاصة في بؤر الشبكات داخل الجهاز العصبي والفصوص الجبهية. وقد سبق أن وثّقت دراسة بارزة أجراها (جاي جيد) بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو عام 1999 هذا النمط من التغيرات، عند مقارنة تطور الدماغ لدى أشخاص تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة والعشرين. ولطالما يُعتقد أن ترقق القشرة الدماغية مؤشرٌ على كفاءة أعلى للدماغ، حيث يتم الاستغناء عن الدوائر العصبية غير المستخدمة. وكشفت الدراسات الحديثة أن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ يرتبط تباطؤ الترقق بانخفاض التوتر وارتفاع معدل الذكاء. والأكثر إثارة للدهشة أن التفكير المتسامي، لدى ما يقارب نصف المراهقين في دراستنا، لم يُبطئ هذه العملية فحسب، بل كان مؤشرًا على زيادة حجم القشرة الدماغية، وكأن أدمغتهم قاومت التقليم العصبي بنمو يفوق المعدل الطبيعي.
وكلما غاص المراهقون في تأمل أعمق لقصص الحياة؛ بحثًا عن حكمتها الخفية ومعانيها الكبرى، شهدت أدمغتهم تطورًا ملحوظًا على مدار العامين التاليين. لا يكتفي التفكير المتسامي برفع مستوى التواصل بين شبكة (DMN) وشبكة (ECN)، مما يُبطئ تآكل المادة الرمادية، بل ويعيد تشكيل الدماغ بطرق غير متوقعة. ومن اللافت أن هذا التحول العصبي لم يكن مجرد تغير بيولوجي، بل كان مرآة لنضوج الهوية، يقاس بمدى تعمّق المراهق في فهم ذاته وقيمه، تمامًا كما أشار (إريكسون) في دراسته حول تشكّل الهوية. على النقيض من ذلك، فإن المراهقين الذين ينساقون مع التيار دون أن يسعوا لخوض تجاربهم الخاصة غالبًا ما يعانون ضبابية في هويتهم. والمفارقة الأبرز أن هذه النتائج لم ترتبط بمعدلات الذكاء التي قمنا بقياسها، ولا بالمستوى التعليمي للوالدين أو الوضع المالي للأسرة، كما أنها لم تتأثر بالجنس أو الانتماء العرقي.
مع تقدمهم في العمر، وبعد مرور خمسة أعوام على لقائهم الأول وإجراء مسح الدماغ، أبدى الشباب الذين امتلكوا ميلاً أعمق للتفكير المتسامي ونمواً ذهنياً ملحوظاً شعورًا أكبر بالرضا عن حياتهم؛ إذ عبّروا عن سعادتهم بالشخص الذي أصبحوا عليه. فقد كشفنا عن حقيقة جوهرية: ميل المراهق إلى تأمل المعاني العميقة والتفكر في جوهر الوجود ليس مجرد عادة فكرية، بل قوة خفية قادرة على إعادة تشكيل دماغه وإرساء أسس رفاهيته.
تتوافق نتائجنا مع أحدث الأبحاث في مجال الصحة النفسية للمراهقين، إذ تشير الدراسات السريرية الجارية إلى أن الشبكات العصبية التي يعززها التفكير المتسامي تلعب دورًا محوريًا في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، كشفت دراسة حديثة أجرتها (كاترينا ستاموليس) من جامعة هارفارد أن المراهقين الذين لديهم دوائر دماغية أقل ترابطًا، كانوا أكثر هشاشة أمام الضغوط العاطفية التي خلّفتها الجائحة. وفي دراسة أخرى اعتمدت على بيانات شاملة وطويلة الأمد، كشفت (باتريشيا كول) من جامعة واشنطن بأن الضغط النفسي الذي فرضته الجائحة أدى إلى تسريع وتيرة ترقق القشرة الدماغية لدى المراهقين. ورغم تعقيد العلاقة بين هذه النتائج ونتائجنا وتعدد أبعادها، فإنها تشير عمومًا إلى أن التفكير المتسامي يعزز أنماطًا من النمو الهيكلي في القشرة الدماغية، ويعزز الترابط بين الشبكات العصبية، مما يجعله حصنًا نفسيًا يعزز القدرة على التكيف والصمود.
قد تكمن المشكلة الأساسية لدى المصابين باضطرابات المزاج في عجز العقل عن الانتقال بسلاسة بين أنماط التفكير المختلفة، مما يؤدي إلى تصلب ذهني يفاقم حالتهم النفسية. وتُشكل هذه الفكرة حجر الأساس في نظرية «التكامل العقلي» التي طرحها الطبيب النفسي (دان سيغل) قبل أكثر من ربع قرن لفهم آليات الصحة النفسية، كما أنها تُحاكي نموذج «الشبكة الثلاثية» لوظائف الدماغ في الطب النفسي الذي وضعه (فينود مينون)، والذي يسلط الضوء على التفاعل الديناميكي بين ثلاث شبكات رئيسية في الدماغ: شبكة (SN)، وشبكة (DMN)، وشبكة (ECN). فقد يُستنزف الذهن في في مواجهة التحديات، منشغلًا بالمهام أو التهديدات، حتى يقع في أسر نمط تفكير صارم؛ فينغمس في دوامة من القلق والانشغال القهري، كما يحدث في اضطرابات القلق، أو يستسلم للوضع الافتراضي، حيث يغرق في اجترار الأفكار دون قدرة على اتخاذ خطوات فعالة، إذ يُشير إلى الاكتئاب. أما على النقيض، فأولئك الذين يمتلكون المرونة الذهنية للانتقال بين الشبكات العصبية بسلاسة، وفقًا لما تقتضيه اللحظة، يصبحون أكثر قدرة على التركيز، واستيعاب مشاعر الآخرين، ونسج علاقات أكثر عمقًا، مما يمنح حياتهم توازنًا أكثر وثراءً نفسيًا.
طلبنا من المراهقين خلال وجودهم في المختبر أن يشاركوا تجاربهم حول أي أعمال عنف شهدوها أو سمعوا عنها في مجتمعهم، ثم أجرينا مقابلات معهم لاستكشاف رؤيتهم لأسباب هذه الظواهر الاجتماعية وسبل الحد منها. وكما أظهرت دراسات الدماغ التي تناولت تأثير المعارك على الجنود العائدين والمصابين باضطراب ما بعد الصدمة، كشف بحثنا عن ارتباط بين التعرض للعنف وبين ترقق إحدى المناطق الحيوية في شبكة (SN)، ألا وهي القشرة الحزامية الأمامية الوسطى (ACC)، التي تؤدي دورًا محوريًا في معالجة الألم، والتحفيز، وتطوير مهارات التعلم. إلا أن ما يدعو للتفاؤل هو اكتشافنا أن المراهقين الذين وسّعوا أفق تفكيرهم ليتأملوا الأبعاد التاريخية والثقافية والاجتماعية للجرائم التي شهدوها، بدلًا من إلقاء اللوم فقط على السلوك السيئ للأفراد المتورطين في لحظتها، أي أولئك الذين تعاملوا مع هذه القضية المجتمعية بنظرة متسامية أظهروا نوعًا من الحماية العصبية. فكلما تعمّقوا في التفكير المتسامي، قلّ ترقق القشرة الحزامية الأمامية الوسطى (ACC) لديهم.
وفي نهاية المطاف، نعتقد أن التفكير المتسامي بالنسبة إلى عقل المراهق ودماغه بمثابة الرياضة للجسد؛ فمع أن معظم الناس قادرون على ممارسة الرياضة، إلا أن الفائدة لا يجنيها إلا من يواظب عليها. ونرى أن المراهقين الذين أظهروا ميلاً أعمق لهذا النمط من التفكير خلال مقابلاتنا يعيشون يومهم بقدر أكبر من التأمل والفضول في حياتهم اليومية، مستغلين انفعالاتهم القوية كوقود لهذا النوع من التفكير، بدلًا من الانقياد وراء تفكير سطحي وانفعالي. وتؤكد دراستنا على الدور المحوري الذي يلعبه المراهقون في تشكيل أدمغتهم بأنفسهم، عندما يسعون إلى استكشاف المعاني الأعمق للعالم الاجتماعي من حولهم.
ما الذي يعنيه هذا لمجتمعنا؟ في خضمّ انشغال مدارسنا بما يعرفه الطلاب وما يمكنهم تحقيقه، وفيما يكرّس الآباء جهدهم لضمان نجاح أبنائهم في هذا النظام التعليمي القائم على النتائج، قد تغفل المنظومة أمرًا بالغ الأهمية. لا شك أن المراهقين بحاجة إلى محتوى غني وهادف ليثروا معارفهم، وأن اجتهادهم في الدراسة يعد مفتاحًا لفرصهم المستقبلية. لكن دراستنا، إلى جانب أبحاث متزايدة في هذا المجال، تشير إلى أن جوهر اهتمامنا يجب أن ينصبّ على الطريقة التي يفكر بها المراهقون ويشعرون بها، وليس فقط على ما يتعلمونه أو ينجزونه. فما جدوى معرفة علم الجبر، إن لم تكن أداةً عملية في حساباتك المالية؟ وهل يغنيك الاطلاع على تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية إن لم يكن لديك وعي عميق بأخلاقياتها ودوافعها، وتأثيرها المستمر في بنية المجتمع الحديث؟ وما فائدة دراسة العلوم إن لم تكن سلاحًا في مواجهة التضليل والتمييز بين الحقائق العلمية من المغالطات عند مواجهة الجائحة ؟
في ضوء هذه الاكتشافات، أرى بوضوح كيف شكّلت طفولتي شخصيتي. رغم انتماء والديّ للمدينة، فضّلا أن ينشآ أبناءهما في أحضان الطبيعة، في قلب غابات ولاية كونيتيكت. هناك، حوّلنا بقعة اقتلعت الأشجار منها عاصفة إلى مرعى لحيواناتنا، واستثمرنا تلك الأشجار المتساقطة في بناء حظيرة وأسوار. نشأت أركض بين الأشجار مع إخوتي وأصدقائي وكلابنا، أمتطي الخيول وأعلم الأطفال الآخرين ركوبها، أساعد نعجة على الولادة وأشرّح مشيمتها، ولم أرَ مفتاح منزل قط حتى وطأت قدماي الجامعة. و لطالما وجدت صعوبة في التوفيق بين انضباط المدرسة وحرية الاستكشاف التي نعمّت بها في المنزل. لكنني الآن كشخص بالغ حين أعود بذاكرتي، أرى بوضوح كيف منحتني تلك المساحة لاستكشاف اهتماماتي القدرة على الموازنة بين التفكير المركّز والتفكير غير المحدود، وأشعلت داخلي جذوة السعي وراء فضولي بلا هوادة.
في عام 2019، أسستُ مركز العلوم العصبية الوجدانية والتطوير والتعليم (CANDLE) بجامعة جنوب كاليفورنيا، واضعةً نُصب عيني التركيز على هذه القضايا. إذ يهتم فريقنا بشكل خاص بفضول المراهقين واستعدادهم للنظر في وجهات نظر متعددة، واستكشاف الأفكار العميقة، والتفكير في التداعيات الواسعة. كما نبحث في الطرق التي يمكن للمعلمين والمدارس أن تدعم بها هذه العمليات. فالمراهقون متعطشون للغوص في محتوى غني ومعقد، يحمل بين طياته أفكارًا كبرى وقضايا وجدانية تثير فيهم الشغف والسعي وراء المعرفة. ويمكن للتصاميم المبتكرة للمدارس وأساليب التدريس الحديثة أن تحفّز الطلاب على اختيار مقررات دراسية مفتوحة وقائمة على المشاريع، مما يتيح لهم توظيف اهتماماتهم لتوسيع آفاقهم نحو معارف ومفاهيم ومهارات وأسئلة جديدة. وتدعم هذه المدارس طلابها بتشجيعهم على استيعاب كل ما يكتشفونه من خلال الكتابة، وحل المشكلات، والحوار، والتأمل.
على سبيل المثال، في مدارس نيويورك التي تتبنى نهج التقييم القائم على الأداء، تُختتم الفصول الدراسية بعروض يقدم فيها الطلاب ما تعلموه أمام لجان من المعلمين والمقيّمين وزملائهم. وبدلًا من التركيز على الاختبارات التقليدية، يهدف هذا النهج إلى ترسيخ أهمية المحتوى الأكاديمي في أذهان الطلاب، مما يحفزهم على التنقل بسلاسة بين التركيز المكثف على المهارات والمعلومات، والتأمل العميق الذي يربط ما يتعلمونه بالأفكار الكبرى الملهمة.
هكذا وصف أحد طلاب هذه المدارس بهذه الكلمات، الذي لم يسبق له أن اجتاز مقررًا رياضيًا من قبل، مشروعه لحل مفارقة زينون، حيث يتحرك الشخص نحو باب أمامه، مُقلِّصًا المسافة إلى نصفين مع كل خطوة، لكنه رغم ذلك لا يبلغ غايته أبدًا:
«أرغب أن أكون أول شخص في عائلتي يحصل على شهادة جامعية… (لكن) لم يخطر ببالي قط أنني قد أتمكن من بلوغ هذا المستوى في الرياضيات. ساعدتني مدرستي ليس فقط على تعلم الرياضيات، بل أيضًا على التفكير خارج الصندوق، باستخدام استراتيجيات مختلفة… لقد أمضيت شهرين في العمل على مسألة تُعرف باسم (المشي نحو الباب)… وقد قادني ذلك إلى التفكير في الحدود وفكرة الخطوط المقاربة. فكان لا بد لي من دراسة الكسور حتى أتمكن من استيعاب المشكلة التي كنت أواجهها. وخلال هذه الرحلة، انبهرت بفكرة المحدود واللانهائي، واستطعت أن أجد صلة بينهما وبين حياتي».
تأمل الأمر، لقد استطاع أن يربط مفارقة زينون بحياته الشخصية. وبفضل الدعم الذي حصل عليه لاكتساب المهارات اللازمة، شعر هذا الطالب بأنه قادر على خوض غمار مسألة رياضية معقدة، تحوّلت في نهاية المطاف إلى موضوع يستهويه شخصيًا. ربما يعود ذلك إلى أنه، أثناء تنقله بين التركيز على الجانب الرياضي (باستخدام شبكة ECN) والتأمل في الأفكار الرئسية (مستدعيًا شبكة DMN)، أيقظ نشاط شبكته SN، تلك الشبكة الدماغية التي تجعل شيئًا ما يبدو وكأنه «جزء من هويته».
وحينما ينغمس المراهقون في التفكير المتسامي، فإنهم يستدعون كل ما اكتسبوه من معارف ومهارات، ويستندون إلى مشاعرهم الجيّاشة، ليضفوا عمقًا ومعنى على عالمهم. يحررون أنفسهم من هيمنة المهام والمظاهر، ويغرقون في فضاء ذهني آمن يسمح لهم بالتجوّل بحرية بين الأفكار، ليجدوا في خضمّ ذلك المسار غايتهم. وفي ذلك الفضاء الرحب، يعيدون تشكيل ذواتهم، ويستكشفون البدائل والاحتمالات، ويصوغون منظومات أخلاقية وسرديات ستقودهم، ومعهم بقيتنا، نحو أفق أرحب.
- ترجمة: ندى ماهر قاسم
- المصادر: 1