في فيزياء الكم، حتى الإنسان يتصرف كموجة!

هل الضوء موجة أم جسيم؟ لم يكن لهذا السؤال البسيط إجابة معقدة كما هو الحال في ميكانيكا الكم. الجواب، ربما مخيف، يعتمد على كيفية طرحك للسؤال، عند تمرير شعاع من الضوء خلال شقين، يسلك الضوء هنا سلوكًا موجيًا. وعند تسليط نفس شعاع الضوء على قطعة معدنية موصلة، يسلك الضوء سلوكًا جسيميًا. إذن في ظل ظروف مناسبة يمكننا قياس السلوك الموجي أو الجسيمي للضوء مما يؤكد الطبيعة المزدوجة والغريبة جدًا للواقع.

لا تقتصر الطبيعة المزدوجة للواقع على الضوء فقط، بل لوحظ أنها تنطبق على جميع الجسيمات الكمومية: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات، وحتى المجموعات الكبيرة من الذرات. في الحقيقة، إذا تمكنا من تحديد «الطبيعة المزدوجة»، فيمكننا تحديد شكل الموجة لجسيم أو مجموعة من الجسيمات. حتى الإنسان بأكمله، في ظل الظروف المناسبة، يمكنه أن يتصرف مثل الموجة الكمومية. «بالرغم من ذلك، نتمنى لك التوفيق في قياس ذلك».

يعود الجدل حول ما إذا كان الضوء يتصرف كموجة أو جسيم إلى القرن السابع عشر، عندما اتخذ شخصان عملاقان في تاريخ الفيزياء جانبين متعارضين بشأن هذه القضية. من ناحية، طرح إسحاق نيوتن Isaac Newton نظرية «الجسيم corpuscular» للضوء، إذ يتصرف الضوء بنفس تصرف الجسيمات: تتحرك في خطوط مستقيمة، وتنكسر، وتنعكس، وتحمل زخمًا. تمكن إسحاق نيوتن من خلال هذا التفسير من التنبؤ بالعديد من الظواهر، وتمكن من أن يشرح كيف يتكون الضوء الأبيض من العديد من الألوان الاخرى.

من ناحية أخرى، فضّل كريستيان هويجنز Christiaan Huygens نظرية الموجة للضوء، مشيرًا إلى مميزات مثل التداخل والحيود، والتي تشبه في طبيعتها الموجة. ومن ناحية أخرى، فضل هويجنز نظرية الموجة للضوء، مشيرًا إلى سمات مثل التشويش والانتشار، والتي تشبه في طبيعتها الموجة. إن عمل هويجنز على الموجات لا يمكن أن يفسر بعض الظواهر التي يمكن أن تفسرها نظرية نيوتن الهيكلية، والعكس صحيح. بدأت الأمور تصبح أكثر إثارةً للاهتمام في بدايات القرن الثامن عشر، مع ذلك، بدأت التجارب الجديدة في الكشف الحقيقي عن الطرق التي كان فيها الضوء في جوهره يشبه الموجات.

إذا أخذت خزانًا مملوءًا بالماء، ومن ثم وضع حاجز مع شقين يسمحان بمرور الموجات على أحد الجانبين إلى الجانب الآخر، سوف تلاحظ أن الموجات تتداخل مع بعضها البعض. وفي بعض المواقع، ستزداد الموجات، مما يخلق موجات أكبر حجمًا. وفي مواقع أخرى، تلغي الموجات بعضها بعضًا، تاركة المياه مسطحة تمامًا. إن هذا المزيج من نمط التداخل يشكل سمة مميزة لسلوك الموجات.

لاحظ توماس يونغ لأول مرة في سلسلة من التجارب أُجريت منذ أكثر من 200 سنة، أن الضوء يُظهر نفس النمط الخاص بالموجات. في السنوات اللاحقة، بدأ العلماء بالكشف عن بعض خصائص الموجات الأكثر تناقضًا من الضوء، مثل تجربة «حيث يضيء الضوء أحادي اللون حول الكرة، مما يخلق ليس فقط نمطًا يشبه الموجة على السطح الخارجي للكرة فحسب، ولكن ذروة مركزية في منتصف الظل كذلك».

وفي وقت لاحق من القرن الثامن عشر، سمحت لنا نظرية ماكسويل عن الكهرومغناطيسية باشتقاق شكل من أشكال الإشعاع الخالي من الشحنة: موجة كهرومغناطيسية تنتقل بسرعة الضوء. وأخيرًا، كان للموجة الضوئية أساس رياضي إذ كانت ببساطة نتيجة للكهرباء والمغناطيسية، وهي نتيجة حتمية لنظرية متسقة ذاتيًا. من خلال التفكير في هذه الموجات الضوئية، تمكن أينشتاين من ابتكار وتأسيس النظرية النسبية الخاصة. كانت طبيعة الموجة من الضوء حقيقة أساسية في الكون.

لكن هذه الحقيقة لم تكن شمولية. يتصرف الضوء أيضًا كجسيم كمي بعدة طرق:

  • تُقسم طاقة الضوء إلى حزم فردية أو كمية تُسمى فوتونات، إذ يحتوي كل فوتون على كمية محددة من الطاقة.
  • يمكن للفوتونات التي تمتلك طاقة أكبر من المطلوب أن تؤين الإلكترونات في الذرات، أما الفوتونات ذات الطاقة الأقل فلا يمكنها أن تؤين الإلكترونات بغض النظر عن شدة ذلك الضوء.
  • يمكن إنشاء وإرسال فوتونات فردية، واحدًا في كل مرة، من خلال أي جهاز تجريبي يمكننا ابتكاره.

إذا أخذت فوتونًا وأطلقته على حاجز به شقان، يمكنك قياس المكان الذي يصطدم فيه هذا الفوتون على بعد مسافة كبيرة على الجانب الآخر. وإذا بدأت بإضافة فوتونات أخرى، فستبدأ برؤية نمط التداخل. إذ يظهر نفس النمط الذي ظهر عندما كان لدينا شعاع ضوء مستمر – إذ افترضنا أن العديد من الفوتونات تتداخل مع بعضها البعض- يظهر عندما نطلق الفوتونات مرة واحدة عبر هذا الجهاز. بطريقة ما، تتداخل الفوتونات الفردية مع بعضها البعض. أي هنا يسلك الضوء سلوكًا دقائقيًا.

عادةً، تستمر المحادثات حول هذه التجربة من خلال التحدث عن الإعدادات التجريبية المختلفة التي يمكن إجراؤها لمحاولة قياس أو عدم قياس الشق الذي يمر به الفوتون، أو تدمير أو الحفاظ على نمط التداخل في العملية. هذه المناقشة هي جزء حيوي من استكشاف طبيعة الطبيعة المزدوجة للكميات، لأنها تتصرف كموجات وجسيمات على حد سواء اعتمادًا على كيفية تفاعلك معها. لكن يمكننا أن نفعل شيئًا آخرًا رائعًا بنفس القدر: استبدال الفوتونات في التجربة بجزيئات ضخمة من المادة.

قد يكون تفكيرك الأولي شيئًا على غرار، «حسنًا، يمكن للفوتونات أن تعمل كموجة وكجسيم، لكن الفوتونات عبارة عن كمات إشعاعية عديمة الكتلة. لديها طول موجي، وهو ما يفسر السلوك الشبيه بالموجة، لكن لديها أيضًا قدرٌ من الطاقة، وهو ما يفسر السلوك الشبيه بالجسيمات». وبالتالي، تتوقع أن تعمل جسيمات المادة هذه دائمًا مثل الجسيمات، نظرًا لأن لها كتلة، وتحمل طاقة، وهي تعرّف حرفيًا على أنها جسيمات!

لكن في أوائل العشرينات من القرن الماضي، كانت لدى الفيزيائي لويس دي برولي Louis de Broglie فكرة مختلفة. بالنسبة للفوتونات، لاحظ أن كل كم له طاقة وزخم، مرتبطان بثابت بلانك، وسرعة الضوء، والتردد، والطول الموجي لكل فوتون. يحوي كل كم من المادة أيضًا على طاقة وزخم، ويختبر أيضًا نفس قيم ثابت بلانك وسرعة الضوء. تمكن دي برولي من خلال إعادة ترتيب المصطلحات بالطريقة نفسها التي كتبت بها للفوتونات من تحديد الطول الموجي لكل من الفوتونات وجزيئات المادة: الطول الموجي هو ببساطة ثابت بلانك مقسومًا على زخم الجسيم.

التعريفات الرياضية جيدة بالطبع، لكن الاختبار الحقيقي للأفكار المادية يأتي دائمًا من التجارب والملاحظات: عليك أن تقارن تنبؤاتك بالاختبارات الفعلية للكون نفسه. في عام 1927، أطلق كلينتون دافيسون Clinton Davisson وليستر جيرمر Lester Germer الإلكترونات على هدف إنتاج الحيود الموجي للفوتونات، ونتج عن ذلك نمط الحيود نفسه. في وقت واحد. أطلق جورج باجيه George Paget الإلكترونات على رقائق معدنية رقيقة، مما أدى أيضًا إلى إنتاج أنماطٍ متباينة. بطريقة ما، كانت الإلكترونات نفسها، تتصرف أيضًا كموجات.

كشفت التجارب اللاحقة هذا السلوك الشبيه بالموجة للعديد من أشكال المادة المختلفة، بما في ذلك الأشكال الأكثر تعقيدًا. تظهر الجسيمات المركبة مثل النيوترونات والبروتونات أيضًا سلوكًا شبيهًا بالموجة. أظهرت الذرات المحايدة، التي يمكن تبريدها إلى درجات حرارة نانوكلفن، أطوال موجات دي برولي أكبر من الميكرون: ما يقارب عشرة آلاف مرة أكبر من الذرة نفسها. حتى الجزيئات التي تحتوي على ما يصل إلى 2000 ذرة أُثبِتَ أنها تعرض خصائص تشبه الموجة.

في معظم الظروف، يكون زخم الجسيم النموذجي «أو نظام الجسيمات» كبيرًا بما يكفي بحيث يكون الطول الموجي الفعال المرتبط به أصغر من أن يُقاس. يبلغ طول موجة الغبار التي تتحرك بسرعة 1 ملم في الثانية تقريبًا ²¹-10 مترًا: أصغر بنحو 100 مرة من أصغر المقاييس التي سبرتها البشرية على الإطلاق في مصادم الهادرونات الكبير.

بالنسبة للإنسان البالغ الذي يتحرك بنفس السرعة، فإن الطول الموجي لدينا هو تقريبًا ³²-10 مترًا، أو بضع مئات المرات أكبر من مقياس بلانك: مقياس الطول الذي تتوقف عنده الفيزياء عن المعنى. مع ذلك، فحتى مع وجود كتلة هائلة وميكروسكوبية -تقريبًا 10²⁸ ذرة تُشكل إنسانًا كامل النمو- فإن الطول الموجي الكمي المرتبط بإنسان مكتمل التكوين كبير بما يكفي ليكون ذا معنى فيزيائي.

في الواقع، بالنسبة لمعظم الجسيمات الحقيقية، هناك شيئان فقط يحددان طول الموجة:

  • كتلة السكون الخاصة بك.
  • ومدى سرعتك في الحركة.

عمومًا، هذا يعني أن هناك شيئين يمكنك القيام بهما لجعل جزيئات المادة تتصرف كموجات. الأول هو أنه يمكنك تقليل كتلة الجسيمات إلى قيمة صغيرة قدر الإمكان، إذ سيكون للجسيمات ذات الكتلة الأقل أطوال موجية أكبر من دي برولي، ويسهل ملاحظتها، وبالتالي سلوكيات كمومية واسعة النطاق. لكن هناك شيء آخر يمكنك القيام به وهو تقليل سرعة الجسيمات التي تتعامل معها. تُترجم السرعات البطيئة، التي تتحقق في درجات حرارة منخفضة، إلى قيم أصغر من الزخم، مما يعني أطوال موجات دي برولي أكبر، ومرة أخرى، سلوكيات كمومية واسعة النطاق.

تفتح خاصية المادة هذه مجالًا جديدًا رائعًا من التكنولوجيا الممكنة: البصريات الذرية. في حين أن معظم التصوير الذي نجريه يتم باستخدام البصريات -أي الضوء- يمكننا استخدام حزم ذرية بطيئة الحركة لمراقبة الهياكل النانوية دون تعطيلها بالطرق التي تقوم بها الفوتونات عالية الطاقة. يوجد مجال فرعي كامل لفيزياء المادة المكثفة مخصص للذرات شديدة البرودة ودراسة سلوكها الموجي وتطبيقه.

هناك العديد من المساعي في العلوم التي تبدو مستعصية لدرجة أن معظمنا يواجه صعوبة في تصور كيف تصبح مفيدة. في عالم اليوم، هناك العديد من المساعي الأساسية -من أجل تحقيق مستويات عالية جديدة في طاقات الجسيمات؛ وإلى أعماق جديدة في الفيزياء الفلكية؛ لانخفاض جديد في درجة الحرارة- تبدو وكأنها تمارين فكرية بحتة. ومع ذلك، فإن العديد من الإنجازات التكنولوجية التي نعتبرها من المسلمات اليوم لم تكن متوقعة من قبل أولئك الذين وضعوا الأسس العلمية.

اعتقد هاينريش هيرتز Heinrich Hertz، الذي أنشأ وأرسل موجات الراديو لأول مرة، أنه كان مجرد تأكيد لنظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية. لم يتخيل أينشتاين أبدًا أن النسبية تستطيع تمكين أنظمة تحديد المواقع. لم ينظر مؤسسو ميكانيكا الكم أبدًا إلى التقدم في الحساب أو اختراع الترانزستور. ولكن اليوم، نحن على يقين تمامًا أنه كلما اقتربنا من الصفر المطلق، كلما تقدم المجال كله من البصريات الذرية والبصريات النانوية. ربما، يومًا ما، سنكون قادرين حتى على قياس التأثيرات الكمية لكائنات بشرية بأكملها.

  • ترجمة: زهراء حيدر
  • تدقيق علمي ولغوي: بهاء كاظم
  • المصادر: 1