نبذة عن حياة فيلسوف العصور الوسطى الإسلامية وطبيبها العظيم ابن سينا
كان للعالم الموسوعي الفارسي، المعروف باسم (أفيسينا) في الغرب، تأثيرٌ كبيرٌ على دراسة المرض وعلم الفلك والمنطق، وقد ولد أبو علي الحسين بن عبد الله البلخي عام 980 م لعائلة فارسية بالقرب من مدينة بخارى في أوزبكستان في العصر الحديث، وأصبح أحد أعظم العقول في عصره، مما أثر بشكل كبير في الثقافة المستقبلية في مجالات متنوعة، كالطب والفلسفة وعلم الفلك.
يُعرف هذا العلّامة باسم ابن سينا في العالم الإسلامي وأفيسينا بين العلماء الغربيين، وهو مرادف لفترة في التاريخ الإسلامي يُشار إليها على نطاق واسع ومثير للجدل باسم (العصر الذهبي الإسلامي).
كان لعمل الباحث الفارسي وقعٌ بعيد المدى على كل من العالم الإسلامي ولاحقًا في أوروبا، وسط انتقادات ودفاعات لنظرياته في العصر الحديث.
كان تأثير ابن سينا عظيمًا، خاصةً على الخيال الأوروبي، حيث ظهر جنبًا إلى جنب مع الفيلسوف الأندلسي ابن رشد أو كما يُدعى في الغرب (أفيروس) والمحارب المسلم الشهير صلاح الدين الأيوبي في من سمّاهم الشاعر والفيلسوف دانتي ( الوثنيين الفاضلين) في روايته جحيم دانتي ( الجزء الأول من ملحمته الشهيرة الكوميديا الإلهية)، محتلين دوائر الجحيم الأولى جنبًا إلى جنب مع غير المسيحيين الآخرين، مثل أفلاطون وسقراط وفيرجيل.
كما يُنسب إليه الفضل في الحفاظ على أفكار الفيلسوف اليوناني أرسطو والبناء عليها، والذي تشكل أفكاره حجر الأساس للمنهج العلمي الحديث.
أَما بالنسبة لأصحاب النهضة الإسلامية، فيُعد ابن سينا مثالاً على الازدهار الفكري الذي حدث خلال القرون الأولى للإسلام، وأسهم في دحض فكرة أنّ الدين يشكل عائقًا أمام الفكر العلمي والفلسفي.
من هو ابن سينا؟
ولد ابن سينا في القرن العاشر في قرية أفشانة، والتي كانت تحكمها مثل الكثير من قرى آسيا الوسطى في ذلك الوقت الإمبراطورية السامانية، وهي دولة مسلمة سنية من أصل إيراني.
تميزت هذه الفترة بانهيار السلطة المركزية للخلافة العباسية ومقرها بغداد ونشوء كيانات إسلامية مستقلة، لكن على الرغم من عدم الاستقرار السياسي النسبي للمنطقة، إلا أنّ الأجواء الودية فكريًا التي عززها العباسيون في العالم الإسلامي ربطت منحهم الدراسية بشدة بدراسة الدين، وفي هذا السياق نشأ ابن سينا على يد أب تبنى المذهب الشيعي الإسماعيلي.
في حين أنّ ابن سينا الشاب لم يسر على خطى والده الدينية، وذلك باختياره للمذهب الحنفي السني، فمن المرجح أنّ حواراته مع أصحاب المذهب الإسماعيلي كانت استنباطية أثناء تطوره الفكري الديني والدنيوي.
ففي حديثه عن تواصله مع الإسماعيليين كتب ابن سينا في سيرته الذاتية: «كنت أود أن أستمع إليهم وأفهم ما يقولون لكن روحي لن تتقبل ما يُقال، وبدأوا في استدعائي للحديث المستمر عن الفلسفة والهندسة والحساب الهندي».
كان تعليم ابن سينا، على غرار المفكرين الإسلاميين الآخرين في تلك الفترة، مزيجًا من الموضوعات الدينية والدنيوية، مثل الرياضيات والطب والفلسفة. ففي سن العاشرة كان قد حفظ القرآن، وفي منتصف سن المراهقة اكتسب شهرته الطبية.
كرس الشاب ابن سينا المسلم المتدين، قدرًا كبيرًا من الوقت لدراسة النصوص الإسلامية والفلسفة اليونانية، ساعيًا لتقريبهما من خلال إثبات وجود الله باستخدام المنطق والعقل، بدلاً من الإيمان الأعمى.
أما في سن الثانية والثلاثين، عُيّن العالِم وزيرًا للدولة البويهية بعد علاج أميرها شمس الدولة. لكن بمجرد وفاة الملك، رفض ابن سينا عرضًا قدمه ابنه وخليفته لمواصلة الدور.
ما كان سبب الشهرة؟
كان من أبرز مساهمات ابن سينا طبيًّا كتابه القانون في الطب، وهو موسوعة تضم المعرفة الطبية التي حصل عليها من القدماء والنتائج الأكثر معاصرة للعلماء المسلمين.
تُرجم الكتاب إلى اللاتينية خلال القرن الثاني عشر، ومن هناك استُخدم بوصفه نصًا مرجعيًا في الجامعات الأوروبية جميعها حتى منتصف القرن السابع عشر.
فبالإضافة إلى وصف 600 علاج محتمل للأمراض الشائعة، وصف ابن سينا أيضًا تشريح أجزاء الجسم، مثل العين والقلب، كان عالمُ نباتٍ ماهر، إذ يعلم أيضًا تأثير النباتات والجذور في جسم الإنسان.
ومن مساهماته الطبية الرئيسية التأكيد على أهمية الحجر الصحي للحد من انتشار المرض، بحجة أن فترة 40 يومًا من العزلة الذاتية ضرورية لمنع العدوى من التأثير في الآخرين.
أما بعيدًا عن الطب، فقد شملت أعماله المهمة كتاب الشفاء، الذي قُسّم إلى أربعة أقسام تناولت مجموعة من الموضوعات، مثل الرياضيات والميتافيزيقا والعلوم الطبيعية والمنطق.
إذ تضمنت أعماله العلمية حججًا مفادها أن للضوء سرعة محددة، ووصفًا لكيفية انتقال الصوت عبر الهواء، ونظرية حول الحركة ودراسات نفسية حول العلاقة بين العقل والجسم والقدرة على الإدراك.
وفي شكل من أشكال الطب النفسي ما قبل الحديث، وصف الطبيب أيضًا كيف أن للأمراض النفسية مثل الاكتئاب والقلق تأثيرًا في الجسم.
وشملت مجالات الاهتمام الأخرى الظواهر الطبيعية، مثل الزلازل وتشكّل السحب، إذ قال فيما يتعلق بالزلازل أنها هزات نتجت عن حركة الأرض والنشاط الذي يحدث في طبقاتها.
أما عن دوره كعالم فلك، لاحظ ابن سينا كوكب الزهرة مقابل قرص الشمس وتمكن من استنتاج أن الكوكب أقرب إلى الأرض من الشمس، ووجد أيضًا أن المستعر الأعظم SN 1006، الذي كان يمكن ملاحظته لمدة ثلاثة أشهر في مطلع الألفية الأولى بعد الميلاد، كان (مؤقتًا) ألمع جسم في السماء، يتفوق على كوكب الزهرة ويمكن ملاحظته حتى أثناء النهار.
يُنسب للعالم أيضًا الفضل في اختراع جهاز لرصد إحداثيات النجوم ولتحديد إن النجوم كانت ذاتية الإضاءة.
ماذا كانت فلسفته؟
كانت مساهمة ابن سينا الرئيسية في الفلسفة هي تطوير شكله الخاص من المنطق الأرسطي واستخدام العقلانية والعقل لتأسيس وجود الله.
ظهرت أعماله حول المنطق في تسعة كتب تشكل جزءًا من كتاب الشفاء، وفي هذه الكتب دافع عن فائدة المنطق، وأشار إلى الأخطاء المتصورة في الأعمال السابقة حول هذا الموضوع، ولقد كتب أن المنطق مهم في تحديد صحة الحجج وتطور المعرفة، وأنّ الهدف من المنطق هو إثبات الحقيقة.
أثناء انتقاده لسلفه اليوناني أرسطو ، اعتقد الموسوعي الفارسي أيضًا أن البشر لديهم ثلاثة أنواع من الروح: النفس النباتية والحيوانية والعقلانية، يربط الأول والثاني البشر بالأرض، والنفسية العقلانية تربط الناس بالله.
أما حول وجود الله، فقد نشر ابن سينا (برهان الصدّيقين)، حيث طرح حجة لـ (الوجود الحتمي). وأوضح أنّ كل شيء خارج هذا الوجود الضروري مرهون بوجود شيء آخر، وهذا هو سبب وجوده. لذلك، على سبيل المثال، يتوقف وجود الشخص على وجود والديه، اللذين يتوقف وجودهما على وجود والديهما، وما إلى ذلك.
عندما يُنظر في مجموع كل الأشياء العرضية الموجودة، قرر ابن سينا أنّ المجموع يظل عرضيًا، لأنه يتطلب سببًا غير عرضي خارج نفسه، والذي حدده على أنّه الله.
لكن انتقد ابن رشد هذا المنطق لاحقًا لاعتماده على الميتافيزيقيا بدلاً من قوانين الطبيعة التي يمكن إثباتها.
ماذا قال عن حواس الانسان؟
كان أحد أهداف حياة ابن سينا هو فهم حواس الإنسان بدقة وإثبات أن هناك ما هو أكثر مما كان يفهمه معاصروه. لقد اقترح أن لدينا جميعًا حواسًا داخلية تكمل حواسنا الخارجية المعترف بها على نطاق واسع، مثل البصر والشم والسمع والتذوق واللمس.
كان ابن سينا مؤمنًا قويًا بالحدس، وكان يعتقد أنّ الفطرة السليمة هي الحس الداخلي ونسب بعض وظائف الروح إلى هذا. لذلك، يمكن فهم فعل إصدار الحكم وتكوينه على أنّه فعل من أفعال الروح في نظرته إلى العالم.
كان الخيال المتخلف إحساسًا داخليًا آخر يسمح للبشر بتذكر المعلومات التي جمعوها من خلال الفطرة السليمة. يخزن هذا الحس الداخلي شكل الأشياء في أذهاننا، مما يمكّن الناس من الرجوع إلى تلك المعلومات والتعرف على الأشياء من حولهم.
قال ابن سينا أن بنية خيال الحيوانات هو الإحساس، وهو يسمح للحيوانات بتعلم ما يجب عليهم تجنبه أو البحث عنه في محيطهم الطبيعي. وبالمثل، يسمح الخيال البشري المركب للبشر بمعرفة ما يجب أن نسعى إليه ونتجنبه من حولنا.
أطلق ابن سينا على القدرة على إصدار أحكام عن البيئة المحيطة مصطلح ( القوة التقديرية)، إذ قال إنّها تسمح لنا بتحديد ما هو خطير أو مفيد لنا، على سبيل المثال، الخوف من شيء ما.
أخيرًا، ذكر ابن سينا أنّ ذاكرتنا مسؤولة عن تخزين جميع المعلومات التي طورتها حواسنا الأخرى، وأن المعالجة هي القدرة على استخدام جميع المعلومات بأعلى قدرات حواسنا الداخلية.
ولا ننسى ذكر أنه إلى جانب العلم، امتدت تأثيرات ابن سينا إلى مجال الموسيقى والأدب والطبيعة.
توفي ابن سينا في حزيران عام 1037 عن عمر يناهز 58 عامًا بعد معاناة طويلة مع المغص. ودُفن في مدينة حمدان الإيرانية حيث حُوِّل قبره إلى ضريح.
يضم المتحف التابع للضريح مجموعة كبيرة من القطع الأثرية، بما في ذلك العملات المعدنية والفخارية التي تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، بالإضافة إلى مكتبة تحتوي على آلاف الكتب. ويُعد البرج المغزلي المستوحى من برج كافوس العائد للعصر الزيارياني من أكثر السمات شهرة للضريح.
ولا يزال يحتفى بأعمال ابن سينا حتى اليوم على نطاق واسع، ففي أنقرة عاصمة تركيا، سُميت مستشفى ابن سينا الجامعي باسمه.
- ترجمة: عبير زبون
- تدقيق علمي ولغوي: نور عباس
- المصادر: 1