ربما حان الوقت لإعادة التفكير في فكرتنا عن الإنسان النياندرتال

عالم الجينات السويدي Svante Pääbo، عن فوزه بجائزة نوبل، والده الحائز على الجائزة، والجانب المبكر الحساس له.

يقف الهيكل العظمي للإنسان النياندرتال عند باب مكتب Svante Pääbo، ويتصرف كبواب لفحص زواره، الذين ازداد عددهم بشكل كبير منذ الإعلان عن حصوله على جائزة نوبل. ممسكًا بالون حفلة أبيض في يده اليسرى وفاقدًا ذراعه الأيمن.

“للأسف، لقد كسره ابني ذات مرة” هذا ما قاله العالم بابو مع ضحكة كتومة وهو يربت على رأس الهيكل العظمي.

في يوم زيارة صحيفة Guardian، عالم الجينات السويدي كان لا يزال مترنحًا من صدمة اختياره الحائز على جائزة نوبل للطب والفيزيولوجيا في أوكتوبر.

زجاجة من الشامبانيا كانت على مكتبه مع رسالة تهنئة من أصدقائه وزملائه.

وبعد مناقشةٍ معه قد صرح في لقاءٍ نادرٍ له “إنه عبء بعض الشيء، كي نكون صادقين، كل الاهتمام الذي كنت أتلقاه. ولكنه عبءٌ ممتع، وأنا أعلم أنه لايمكنني أن أتوقع الكثير من التعاطف معه”.

وفي معهد ماكس بلانك لعلوم الإنسان التطورية في مدينة لايبزيغ شرقي ألمانيا الذي أسسه العالم السويدي منذ 25 عاماً حيث وضع حائط تسلق في البهو، وغرفة ساونا على السطح، بذل زملاؤه جهدهم لكي لا تصيب الجائزة رأسه.

“لقد أعطوني الشامبانيا وبعدها رموني في المستنقع خارجًا، هذا شيءٌ تقليدي هنا، كان الجو باردًا نوعًا ما، لكنهم كانوا لطيفين جدًا وأزالوا نظارتي وأخذوا هاتفي مسبقًا”.

لنكون عادلين، كما قال “لقد كانو مبتهجين، هذه جائزتهم بقدر ماهي جائزتي، وهذه أول مرة يحصل شيء من مجالنا على جائزة نوبل”.

للعالم بابو الفضل في إعادة كتابة تاريخ البشرية من خلال تحقيق ما كان يعتبر مستحيلًا، كتابة تسلسلات الجينوم لإنسان النياندرتال من خلال استخراج حمض نووي قديم. لقد كان من أسس علم الجينات القديم، كما أحدث ثورة في فهمنا للماضي من خلال اكتشافه أحد أشباه البشر غير المعروفين المدعوون الدينيسوفا (Denisova)، حيث يشير مصطلح أشباه البشر إلى البشر المعاصرين والمنقرضين، وكذلك أسلافنا المباشرين.

وتعيين انتقال الجينات بين إنسان النياندرتال والإنسان العاقل الذي حدث منذ حوالي 70,000 سنة.

إحدى أولى المفاجئات في بحثه كان اكتشاف أن الفروقات الجينية بين النياندرتال وكل الأُناس الحاليين (البالغ حوالي 30,000) وهو أقل بكثير من الفروقات بين أي شخصين عشوائيين في عالمنا اليوم (البالغ حوالي ثلاثة ملايين).

وقال أيضاً “مهمتنا اليوم إيجاد أي من هذه الثلاثين ألفًا هي الأكثر أهمية، لأنها هي التي تخبرنا ما الذي يجعلنا أُناساً فريدين”.

يعتقد بابو أن ما لا يقل عن نصف جينوم النياندرتال

وربما حتى من 60% إلى 70% منه يمكن إيجاده في الناس الأحياء.

“وهذا يعني أن أثر النياندرتاليين لم ينقرض بالمطلق، بل هم داخلنا”.

بدأ هوسه كنوع من الهواية، حيث شرح العالم بابو “عندما كنت طفلًا لطالما أردت أن أصبح عالم آثار وعالم مصريات. لقد قمت بتنقيبات سرية خاصة في غابات السويد حيث كنت أعيش”.

رحلة إلى مصر مع والدته، التي كان لها أثر كبير في حياته، ثبت أنها كانت حاسمة. ولكنه عندما بدأ بدراسة علم المصريات قد أدرك أن لديه “فكرة رومانسية مبالغ فيها عنها”. لذلك قد بدّل فرعه إلى الطب وحصل لاحقًا على دكتوراه في البيولوجيا الجزيئية.

“لقد أدركت أنه كانت هناك طرق مستجدة يمكنك بواسطتها استخراج الحمض النووي من الكائن الحي، مضاعفة البكتيريا ومن ثم دراستها. لقد بدت إلي أنها ليست بتلك البعد عن القيام بهذا مع المومياوات المصرية”.

لقد بدأ بالسر تجاربه في عطل نهاية الأسبوع، خائفًا من مشاركة ما كان يعتقد أنه يمكن اعتباره طموحات مجنونة مع مستشار أطروحته، الذي انتهى الأمر بكونه مشجعًا كبيرًا له عندما توصل بابو إلى نتائجه.

“لقد تبين أنه من الممكن استخراج الحمض النووي من العيينات القديمة، ولكنها كانت ملوثة بشكل كبير، بالإضافة إلى الأحياء الدقيقة وكالمصادر الأخرى للأحماض النووية”.

لذا وجّه جهوده لتطوير أساليب استخراج أكثر تعقيدًا، لتقود بعد سنوات من التجربة والخطأ إلى استخراج الأحماض النووية من النياندرتال والدينيسوفان وأشباه البشر الآخرون.

وخلف قصة النجاح العلمية هناك أيضاً واحدة من أكثر التحديات الشخصية الكبيرة. “لقد كان لوالدي عائلتين وكنا العائلة التي لم يكشف عنها وكانت العائلة الأخرى هي العائلة الرسمية. كان والدي يأتي أيام السبت يشرب القهوة أو يتناول الغداء معي ومع أمي ثم يختفي ثانيةً”.

أمه كارين التي توفيت عام 2013 كانت لتكون فخورة وتغمرها السعادة لجائزته كما قال. لقد أتت من السويد إلى أستونيا عام 1944 هاربةً من الغزو السوفييتي، متخطيةً الحواجز اللغوية والمالية لتصبح كيميائية.

حقيقة أن والده Sune Brrgström، عالم الكيمياء الحيوية، كان هو أيضاً حاصلاً على جائزة نوبل للطب والفيزيولوجيا عام 1982 لعمله على البروستاغلاندين، كان له تأثير بسيط على مسيرة بابو العلمية كما قال.

“ليس لإن والدتي التقت به خلال عملها، ولكنه كان بالأحرى افتنانها الكبير بالعلم هو الذي انتقل إلي، لقد شجعت بشكل كبير فضولي ودعمتني عندما انتقلت من الطب إلى العلوم الطبيعية. لقد كانت إلى أبعد حد التأثير الأكبر”.

عندما حصل والده على الجائزة في ستوكهولم، لقد كان

طالباً متخرجاً في مدينة أوبسالا وتابع الحفل على التلفاز.

وقد قال “كانت لديّ كنية مختلفة عنه وكان قليلٌ جداً من الناس عرفوا أننا مقربون”.

لم يكن بالأمر الكبير إخفاء سر والده المشهور عن زملائه والذي كان مؤلماً له، وتابع قائلاً “ابنه الآخر ‘الرسمي’ لم يكن يعلم شيئاً عنا. حتى أنني هددته بالبحث عن عائلته وشرح لهم كل شيء. لذلك قال والدي بأنه لا يريد أن يخبرهم ولكنه لم يصل إلى ذلك الحد”.

وقد أخبر أنه في عام 2014 عائلة والده الأخرى اكتشفت الأمر عندما توفي والده في عام 2005. وقال بابو “وكان عندها حتى عرف أخي غير الشقيق عني. ولحسن الحظ قد تحسن الأمر وأصبحنا على وفاق”.

ويقول بابو أن القوة العظمى التي قادت فضوله، بمقارنة بحثه مع بحث عالم آثار “أنه فقط تنقيباتنا كانت جينومات”.

المعلومات التي استرجعها هو وفريقه أعطتنا نقطة مرجعية جديدة لفهم التطور، والتي يحتمل بأن لها العديد من الفوائد، وقال “بالإضافة إلى أنها أتاحت قدرة أكبر على فهم ما الذي يجعلنا بشر فريدين وكيف يؤثر التطور على علم الأحياء لدينا”.

لقد كانت صدمة، اجتهاد بابو لاكتشاف أن الناس الذين ورثوا نوعًا معينًا من كروموسوم إنسان نياندرتال، كانوا أكثر عرضة بمرتين للوفاة من كوفيد-Covid إذا أصيبوا.

“بناءاً على معدلات الوفاة الرسمية لفايروس كورونا وانتشار أليل الخطر، يمكننا تقدير أن أليل النياندرتال هذا هو مسؤول عن 1.1 مليون وفاة إضافية من فايروس كورونا”. كما قال، وهذا الأليل يوجد عادةً في جنوب آسيا.

واكتشاف مفاجئ آخر يتعلق بإدراك الألم. باستخدام بيانات من البنك الحيوي التابع للمملكة المتحدة وهو أكبر قاعدة بيانات للطب الحيوي والتي تحتوي على معلومات جينية عن نصف مليون من مواطني الدولة. بابو كان قادراً على إثبات أن الأشخاص ذوي أليلات إنسان النياندرتال محددة هم آكثر عرضةً للشعور بالألم وبالتالي التقدم بالعمر بشكل أسرع. “ربما حان الوقت لنعيد التفكير في فكرتنا عن النياندرتال كأفراد متوحشين”. ويكمل مازحًا “ربما كانو حساسين بشدة”.

مشاريع بحثية واسعة النطاق تتضمن كل شيء من قابلية الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب HIV حتى مستقبلات البروجسترون وتأثيرها على الأطفال الخدج والإجهاضات. هنا ثبت أن امتلاك أليل إنسان نياندرتال يحمي من الإجهاض.

“اليوم في المجال العام هناك ثلاثة جينومات عالية الجودة لإنسان النياندرتال، ويمكنني أن أخبركم بأنه يوجد المزيد مستقبلاً”. قال العالم البالغ من العمر 67 عامًا، مضيفًا بأنه في الوقت الحالي قد وضع خططه للتقاعد جانبًا.

  • ترجمة: محمد فواز السيد
  • تدقيق لغوي: نوري الأديب
  • المصادر: 1