عندما أعلن موسوليني الحرب على المعكرونة الإيطالية

في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أقدم الدكتاتور الفاشي بينيتو موسوليني على فعل لم يحاول أي سياسي إيطالي آخر قبله أو بعده أن يقدم عليه، ألا وهو: حظر المعكرونة. وللوهلة الأولى، قد يبدو أن هذه الحملة الدون-كيخوتية العجيبة انطلقت من دافع الاهتمام بالصحة العامة، فالمصلحة الإيطالية -كما ادعت القيادة الفاشية في المؤتمرات، وفي كتب الطهي أيضاً- تقتضي أن يتناول المواطنون الإيطاليون كمية أقل من الكربوهيدرات ويكثروا من البروتين.

ولكن الحقيقة أن هذا السعي للتخلص من أكثر المواد الغذائية شهرةً واستهلاكاً في إيطاليا كان مدفوعاً بعوامل اقتصادية. فمع فتور العلاقات الدولية وتزايد احتمالية نشوب حرب أوروبية أخرى، آملت الحكومة في جعل الزراعة الإيطالية أكثر استقلالية عن طريق الحد من استيراد المكون الرئيسي للمعكرونة وهو الدقيق.

وفي حين تبدو المعركة ضد المعكرونة غير منطقية وساذجة مقارنة بغيرها من الأحداث التي وقعت أثناء حكم موسوليني إلا أن ما خفي -في هذه الفترة من القرن العشرين- كان أعظم. فعن طريق سيطرته على الإنتاج الغذائي وعادات الأكل في إيطاليا، ضمن الدوتشي موسوليني أن يستشعر رعاياه وجوده في كل مكان، حتى على طاولة العشاء.

لو أنك ذهبت إلى أي مطعم إيطالي، فإنك سوف تدرك فوراً إلى أي شيء انتهى هذا القرار. فعلى الرغم من محاولات الفاشيين الجادة، فإنهم لم يتمكنوا من إجبار الإيطاليين على التخلي عن وجبتهم الاعتيادية المفضلة. والأسوأ من ذلك، أن خطتهم للترويج لنظام غذائي صحي غني بالعناصر المغذية، تسببت في معاناة الكثير من السكان من سوء التغذية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المعكرونة أو الباستا بجميع أشكالها وأحجامها رمزاً للانتماء الحزبي والقومي المناهض للفاشية.

المعكرونة والعبودية:

تتمحور فكرة الدكتاتورية الفاشية حول صورة المجتمع المكتفي ذاتياً، والمعتمد على اقتصاد مغلق، ايّ الذي لا يحتاج إلى الاعتماد على التجارة مع الثقافات الأخرى للاستمرار والبقاء صامداً. لذلك شجّع بينيتو موسوليني -فور وصوله إلى السلطة- إنتاج واستهلاك مجموعة متنوعة من المنتجات المزروعة محلياً، بما في ذلك الحمضيات والطماطم والنبيذ وزيت الزيتون، وأيضاً الأرز.

لقد كان من المفترض أن يحل الأرز -الذي كان يزرع منذ فترة طويلة في المناطق الشمالية من لومباردي، وبيدمونت، وفينيتو- محل المعكرونة والخبز اللذين يصنعان من الدقيق المستورد من تركيا بتكاليف مرتفعة. إذ أدى عدم الاستقرار المالي والعقوبات الأجنبية التي فُرِضت على إيطاليا، نتيجة لغزو إثيوبيا عام 1935، إلى زيادة حاجتها إلى مصدر غذائي محلي يمكن الاعتماد عليه.

ومع ذلك، فقد كان قرار استخدام الأرز بدلًا من المعكرونة من القرارات التي يسهل الحديث عنها لكن يصعب تنفيذها. ففي المناطق الجنوبية من البلاد، حيث كانت المطابخ مكدسة بالشعيرية، والراتاتوني، والفوسيلي، أعادت مذكرات موسوليني بشأن الأرز إلى أذهان المواطنين ذكريات غير مرحب بها تعود للحرب العالمية الأولى، عندما أُجبر الإيطاليون على العيش على حصص غذائية ضئيلة. وكان الأرز عديم الطعم والمذاق وأكثر ملائمة للكلاب من البشر.

ولمواجهة المعارضة، أطلق الحزب الفاشي حملة دعائية لإقناع من يصعب إرضاؤهم بشأن الأكل في جنوب إيطاليا بأن المعكرونة سيئة بينما الأرز جيد. وفي كتاب طهي مؤثر صدر عام 1932، أشار فليبو توماسو مارينيتي، وهو مؤلف مشارك للبيان الفاشي، إلى أن تناول المعكرونة قد يسبب الشعور بالخمول والاكتئاب بشكل جزئي نظراً لأنه يتم ابتلاعها بدلاً من مضغها.

وبالطبع هذه الصفات لا تصنع جنوداً جديرين بالمعارك على استعداد للموت من أجل وطنهم. وذكر في مقدمة الكتاب أن “هذا الشغف الكبير بالباستا هو نقطة ضعف إيطالية، علماً بأن لدينا مئات الأسباب لسحقها وتكسيرها”. فالمعكرونة هي “كعب أخيل” بالنسبة إلى إيطاليا و”شكل من أشكال العبودية” يجب على إيطاليا التخلص منه إذا كانت ترغب في استعادة مكانة روما القديمة وهيبتها المفقودة منذ زمن طويل.

لم يعرف المواطن الإيطالي العادي كيف يستفيد من هذا الكتاب، الذي تنوعت وصفاته ما بين وصفات غير مألوفة؛ بداية من مخلل الفلفل الحار مع جبن البارميزان، مروراً بوصفات غير متاحة في إيطاليا كسمك التونة مع الفول السوداني الياباني وصولًا إلى الوصفات شديدة الغرابة مثل وصفة السلامي المطبوخ في القهوة وماء الكولونيا. تجدر الإشارة إلى أن روسيا الستالينية قد شهدت هي الأخرى انتشار كتب الطبخ الغريبة وغير العملية.

وفي الوقت نفسه الذي كان فيه كُتّاب مثل مارينيتي يسيئون إلى المعكرونة، كانت المؤسسات التي تشكلت حديثًا مثل Ente Nazionale Risi أو (مجلس الأرز المحلي) تعمل على تغيير نظرة الرأي العام بشأن الأرز. فبناء على توجيهات هذا المجلس وزعت الشاحنات أكياس الأرز في الأرياف مع الريستاري وهي كتيبات طهي لا تحتوي على وصفات فحسب، بل تبريرات وتفسيرات تجيب عن سؤال واحد: لماذا يعد تناول الأرز عملاً وطنياً؟

فعن طريق اتباع التعليمات الموجودة بهذه الكتب، لن تتحسن صحة الإيطاليين فحسب، بل صحة الدولة ككل. فالرجال الأصحاء يصبحون جنوداً أقوياء، والنساء الصحيحات يصبحن أمهات قويات، ينجبن بدورهن المزيد من الجنود والأمهات. علاوة على ذلك، أُذِيعَ إعلان بعنوان “تناول الأرز” في عام 1933، وكان يدور حول طفل أشقر ممتلئ الجسم يجلس على كيس أرز مفتوح.

بيلا تشاو

تضمنت خلفية هذا الإعلان صورة للموندين، وهنّ المزارعات اللاتي يعملن في حقول الأرز في شمال إيطاليا. حيث تم تصويرهن بطريقة شاعرية في دعايات الدولة كرمز للرجولة والخصوبة، لكنهن على أرض الواقع تعرضن لظروف عمل قاسية إلى درجة أنهن كن يعانين بشكل روتيني من الإجهاض واضطرابات الدورة الشهرية. ووفقاً لمقال نشر في مجلة سلايس Slice، فإن الموندين رحبن “بمشكلاتهن الإنجابية لأن آخر ما كن يتمنونه في هذا الوقت غير المستقر هو فم آخر يحتجن لإطعامه”.

وبصفتهن ضحايا ثورة موسوليني الثقافية والمطبخية، قامت حركة “الموندين” بغناء الأغنية الحزبية الشعبية المناهضة للفاشية بيلا تشاو، ونظمت الإضرابات العمالية وآوت أعداء النازيين تحت الاحتلال الألماني. ألهمت شجاعة الموندين عناصر أخرى من المجتمع الإيطالي رفع الصوت والوقوف ضد الدوتشي. فأعلن عمدة نابولي المشهورة بمعكرونتها “أن الملائكة في الفردوس لا يأكلون سوى الفيرميسيلي والبومودورو”، بينما سخرت صحيفة لا سيتيمانا La Settimana Modenese من مارينيتي وكتابه وقالت إنهما تجاوزا وقت الطهي المناسب واهترأَ أكثر من اللازم.

هناك أدلة على أن الاحتجاجات أجبرت موسوليني على السماح بزراعة القمح وتصنيع المعكرونة في وسط وشمال إيطاليا في فترة الثلاثينيات. ومع ذلك، فإن محاولة الحزب الفاشي الفاشلة استخدام الأرز المزروع محلياً بدلاً من الدقيق المستورد أدت إلى نقص كبير في الغذاء خلال العقد الذي سبق الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن الحرب نفسها.

إذا كان هناك ما يحسب لهذا القرار، فإن الحرب على المعكرونة قد ساعدت في جعلها أكثر شعبية مما كانت عليه بالفعل. في برنامجه البحث عن إيطاليا Searching for Italy، التقى الممثل الأمريكي الإيطالي ستانلي توتشي بالعديد من الطهاة الذين أخبروه كيف نجا المطبخ الإيطالي المحلي من عصر موسوليني وحظى بالكثير من التقدير لذلك. وحتى يومنا هذا، يجد الإيطاليون المعاصرون في المعكرونة ما هو أكثر من مجرد طعام، إنها جزء من تراثهم لم تستطع الفاشية تدميره.

  • ترجمة: رنا عبد الرحمن
  • تدقيق لغوي: سفوك حجي
  • المصادر: 1