الفيلسوف ديفيد هيوم: هل السبب والنتيجة يتقاطران دائماً؟

كيف يؤدي ارتياب الفيلسوف ديفيد هيوم في مبدأ السببية إلى تطوير مفهوم “العلاقة الحتميّة” ؟

27 يونيو 2023، بقلم لوك ديون، الحاصل على بكالوريوس في الفلسفة واللاهوت.

لماذا نتصور وجود علاقة حتمية بين الأسباب والنتائج؟ هل ببساطة لأنّها علاقة جلية وغير قابلة للكسر؟ سيكون لدينا أسئلة من منظورٍ مختلفٍ تماماً إذا فكرنا بنهج هيوم الذي كان متشككاً في هذا الجانب من تفسير الحقائق الإضافية للسببية.

هذا الارتياب يثير بالمقابل سؤالاً آخراً: لماذا نجد صعوبةً في قبول فكرة غياب علاقة “حقيقية” بين هذه الأشياء، لو كان هذا الغياب صحيحاً في المقام الأول؟ ماهي العلاقة بين الأسباب والنتائج من منظور يحتوي في طياته المزيد من التشكك؟ نأمل أن تورد هذه المقالة ردود هيوم على هذه الأسئلة، حيث سنناقش شكوكه حول مبدأ السببية، ونحدد أساس هذا الارتياب قبل التمحور حول توصيفه “للعلاقة الحتمية” بين السبب والنتيجة، ثم نختتم هذه المقالة بمناقشة نقدية لفكرة “القوّة المؤثرة” في نظرية هيوم حول العقل.

-الجوانب الإيجابية والسلبية لفلسفة ديفيد هيوم:

لفهم دور العلاقة الحتمية في فلسفة هيوم، علينا أن نفهم التمييز التالي: الفرق بين العناصر السلبية والإيجابية لفكر هيوم، أي الفرق بين جوانب فلسفته المتشككة بلا ريب، وبين العناصر التي تسعى إلى شرح سبب ماهية الأشياء بدلاً من شرحِ سببٍ بعدها عمّا تبدو عليه.

وتجدر الإشارة إلى أنّه لا ينبغي بالضرورة اعتبار هذه الأشياء مرتبطة بشكل منهجي، فلا يبدأ هيوم ب “مرحلة سلبية” محددة بوضوح ثم ينتقل إلى “مرحلته الإيجابية”، بل تندرج هذه الأشياء تحت فئات تفسيرية يمكننا من خلالها فهم بعض العناصر المتعارضة في فكر هيوم.

تجدر الإشارة أخيراً إلى أنّ العناصر المشككة في عمل هيوم قد جعلت فلسفته عرضةً لتفسيرات عدّة لفترة طويلة جداً؛ فهي أساس سمعته الفلسفية، ولهذا أدّى هذا التركيز المفرط على الجانب السلبي لفلسفة هيوم بالعديد من الناس إلى إهمال قدر كبير وأكثر أهمية في فكره.

نظرة ديفيد هيوم حول السببية:

بعد ذكر ما تقدم، يجدر توضيح العناصر السلبية لفلسفة هيوم التي تكمن وراء المفهوم الإيجابي “للعلاقة الحتمية”. أحد أهم أقسام فلسفة هيوم هو عدم إيمانه بمبدأ السببية. هنا اقتباس مشهور من تساؤل هيوم حول الفهم البشري:

“عندما أرى، على سبيل المثال، كرة البلياردو تتحرك في خط مستقيم نحو كرة أخرى، وعندما أفترض أنّ الحركة في الكرة الثانية قد تصادفت نتيجة تلامس الكرتين وتدافعهما، هل يمكنني ألّا أتصور أنّ مائة حدث مختلف على طاولة البلياردو قد تبع أيضاً السبب نفسه؟ كل هذه الفرضيات مجتمعة ويمكن تصورها.”.

قد يكون لديك دافع لنعت هيوم بالأحمق، وذلك لقدرتك على رسم اصطدام كرة بأخرى واقعياً، وقياسه بطريقة دقيقة للغاية، حيث أنّ النتائج الواردة من تصادم الكرات ببعضهم (عندما يتم اعتبار جميع العناصر والمتغيرات ذات الصلة) ليست عرضة للتغيير من حالة إلى أخرى، ومع ذلك، مازالت تلك النتائج تعطي هيوم نقطة لصالحه. إنّه لا يقترح قطعاً أنّ أيّ شيء قد يحدث بالفعل لكرة البلياردو (عندما يتم فهم هذا الطرح بطريقة عملية إلى حد ما)، بل يقول أنّه على الرغم من العلاقة المترابطة بين كرة تضرب أخرى والتّأثير على الكرة التي ضربتها، فإنّ هذه العلاقة السببية ليس لها أساس عقلاني متين.

فإن سلمنا بهذا الكلام، فإنّه يقصد أنّه يمكننا دائماً تصور الكرة التي يتم ضربها، طافيةً في الهواء تدريجياً أو ثابتةً تماماً أو أيّ شيء آخر.

الأساس العقلاني للسببية:

النقطة المهمة، كما يقول هيوم هو مايلي: “ليس لدى أيّ شيء، في حدّ ذاته، ما يعطينا سبباً لإستخلاص إستنتاج يختلف عن ذلك الشّيء، حتى بعد ملاحظة الاقتران المتكرر أو المستمر للأشياء، فإنه ليس لدينا سبباً لاستخلاص استنتاجات متعلقة بأشياء تختلف عمّا لدينا خبرة مسبقة بها”.

في هذه المرحلة، دعونا نترك جانباً أي تحفظات لنا -إن وجدت- حول نظرة هيوم لمبدأ السببية. يتبقى على هيوم الآن أن يبين كيفية تشكل اعتقادنا بتعاقب الأحداث في ظل عدم وجود أساس عقلاني لهذا التّعاقب. في الواقع، إحدى طرق فهم عمل هيوم ككل تكون من خلال شرح سبب اعتناقنا لمعتقداتنا على الرغم من عدم وجود أساس عقلاني لها (وفي الواقع، على الرغم من غياب المنطق أمام تلك المعتقدات).

هناك، كما يدّعي هيوم، “اتحاد في الخيال” بين الحدث السابق (أ) والحدث اللاحق (ب) عندما يكون هناك ارتباط مستمر بين أ وب. بالنظر أنّ هذا الأمر لا يمثل المنطق الذي يقوم عليه الانتقال بين الأحداث، فإنّنا وبكلّ بساطة نجد أن (ب) يتبع في أذهاننا حيث يوجد (أ). يعتقد هيوم أن هذا تلقائي وغير انعكاسي، حيث قال:

“الطبيعة، من خلال ضرورة مطلقة وغير قابلة للضبط، قررت لنا أن نطلق الأحكام وكذلك أن نتنفس ونشعر؛ فلا يمكننا رؤية أشياء معينة في ضوء أقوى وأكمل -بسبب ارتباطها المعتاد بانطباعاتنا الحالية- ماقد يعيقنا عن التفكير في رؤية مختلفة طالما أننا مستيقظون، ولايمكننا رؤية الأجسام المحيطة بنا عندما نوجه أعيننا نحوهم في ضوء الشمس القوي”.

وهذا هو صلب فكرة “العلاقة الحتمية”. من الواضح أنّ هناك حالات معيّنة تبدو فيها هذه الصورة دقيقة؛ فعندما يكون المرء على حافة المنحدر الصخري، لا يلزم التفكير لمعرفة لماذا لا ينبغي للمرء أن يتخطى الحافّة.

الطريقة التجريبيّة:

قيل أنّه لا يكفي أن يقول هيوم أن فكرة (ب) تنشأ في تتابع بعد فكرة (أ)، فقد كتب باري ستراود “عندما نحصل على انطباع عن (أ)، فإنّنا لا نحصل فقط على فكرة (ب)، نحن في الواقع نعتقد أن (ب) سيحدث. هذا هو الاستنتاج الذي يريد هيوم شرحه. كل ما تمّ شرحه حتى الآن هو سبب ظهور فكرة (ب) في العقل”.

في الواقع، كما يؤكد ستراود “تفسير هيوم الإضافي لكيفية تبلور الاعتقاد الفعلي هو في المقام الأول تفسير لكيفية إختلاف الاعتقاد بشيء ما عن مجرد امتلاك فكرة عنه.”.

كيف استطاع هيوم في نهاية المطاف التمييز بين التمسك بإعتقاد وبين مجرد وجود فكرة؟ تمتلك فلسفة هيوم في جوهرها مشروعاً مباشراً، وواعياً ذاتيّاً، ومعلناً بوضوح -ألا وهو تطبيق الطريقة التجريبية للعلوم الطبيعية على الطبيعة البشرية. لذلك، عند مواجهة مشكلة، غالباً ما يتراجع هيوم عن الطريقة المُتّبعة في المشروع ككل. هنا، يريد أن يتعامل مع المسألة التي تشكل الاعتقاد “على أنها قضية في الفلسفة الطبيعية، والتي يجب أن نحددها من خلال التجربة والملاحظة.”.

-عنصر القوّة المؤثرة، نظرة ديفيد هيوم حول مبدأ الاعتقاد:

يرغب هيوم بالادعاء بأن ما يميز الاعتقاد هو وجود قوة مؤثرة تدعمه، فيقول: “لقد قمت بتأسيسها عن طيب خاطر كمقولة عامّة في علم الطبيعة البشرية؛ عندما يتبلور أيّ انطباع أمامنا، فإنه لا ينقل العقل إلى مثل هذه الأفكار المرتبطة به فحسب، بل يوصل لهذه الأفكار أيضا حصة من رجاحة العقل وحيويته”.

ومع ذلك، فقد تعثّر هيوم هنا، خاصة فيما يتعلق بالتزامه المنهجي في ملاحظة كيفية تبلور المعتقدات بشكل طبيعي. نحن ندرك أنّه ارتكب خطأ في المثال التالي الذي يقدمه بدعوى الدفاع عن مفهوم الاعتقاد:

“إذا جلس شخص ما لقراءة كتاب على أنه قصة حب قديمة، وجلس شخص آخر لقراءة كتاب تاريخ موثق، فإنهم يتلقون نفس الأفكار بوضوح، وبنفس الترتيب؛ لا يعيق الشك في أحد القراء كما لايعيق الاعتقاد الراسخ في القارئ الآخر عن الحصول على نفس الانطباع نحو المؤلف. كلمات ذلك المؤلف ستنتج نفس الأفكار في كليهما على الرغم أن بيّنته ليس لها نفس التأثير عليهما، وعليه نرى ان الذي قرأ كتاب التّاريخ لديه مفهوم أكثر حيوية لجميع الحوادث.”.

هذه الجملة الأخيرة هي التي تصفح عن ضعف نظرية هيوم. فقد نكون أكثر ابتهاجاً وتعلقاً بالروايات؛ في الواقع، قد نجد أن لدينا تصوراً أوضح بكثير للشخصيات في الرواية ممّا لدينا عن الشخصيات التاريخية في كتاب التاريخ الجاف.

يبدو أن كل هذا يخدم الدفاع عن عنصر مركزي آخر في فلسفة هيوم، أي نظريته في العقل. يرغب هيوم بالادعاء بأن كل ما يدور في أذهاننا يمكن فهمه على أنه انطباع (تصوّر مباشر)، أو فكرة (بصمة تصور أو تجميع لها)، أو ارتباط بين أفكار مختلفة. ومع ذلك، أقول مرة أخرى بعد قول ستراود بما يخصّ هيوم: “لا يبدو أن فكرة الاعتقاد تتناسب مع أي من هذه الفئات الثلاث. كان هيوم مجبراً -بسبب” سمعة المنطق المشوّهة “في ذلك الوقت- على تعديل مبدأ الاعتقاد بطريقة تبدو، على الأقل، صعبة الفهم.”.

كتب هذا المقال السيد لوك ديون، الحاصل على بكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة أكسفورد، وتشمل اهتماماته الرئيسية تاريخ الفلسفة، وميتافيزيقيا العقل، والنظرية الاجتماعيّة.

  • ترجمة: وجيه الشبعان
  • تدقيق لغوي: سفوك حجي
  • المصادر: 1