هل تصلح الرواقية في أوقات الحروب؟

بينما يعيش العالم حالة من الصراع مع ثقافة هوس العمل وفوضى المناخ السياسي المثير للجدل، عادت الرواقية إلى الظهور مجددًا على الساحة كمنارة ومصدر للقوة والإلهام. ففيها تجد الحكمة العملية وأساليب بناء القدرة على التكيّف التي يتردد صداها لدى الكثيرين ممن يواجهون ضغوط الحياة.

إذ تسلط الفلسفة الرواقية الضوء على التنظيم العاطفي، وتحد من السلبية، وتنمي داخل الإنسان السمات الفاضلة. ومع ذلك، فقد تكون قدرتها محدودة عندما يتعلق الأمر بمعالجة الأزمات العصيبة والمستمرة على مدى فترات زمنية طويلة، خاصة الصدمات المعقدة، فمثل هذه المواقف تعد بمثابة تحديات وإشكاليات فريدة تختبر مدى فعالية تعاليم الرواقية.

تنطوي الصدمة المعقدة على مجموعة من التجارب التي قد تشمل سوء المعاملة المستمر، الإهمال، الأسر، الاتجار بالبشر، الإبادة الجماعية، العيش في منطقة حرب أو منطقة تعاني من اضطرابات مدنية.

وللتوضيح، سنعتمد هنا على مثال الحرب لشرح الفكرة.

الفضيلة وثنائية التحكم والسيطرة

الفضيلة هي أسمى أهداف الرواقية، متضمنة تحت مظلتها الحكمة والعدالة والشجاعة والاعتدال، ولكن أثناء الأزمات العصيبة مثل الحروب يصبح الحفاظ على الفضيلة والتمسك بها أمرًا صعبًا نتيجةً لبعض المعضلات الأخلاقية التي تنشأ حتمًا في مثل هذه الظروف.

ففي الحرب، يواجه القادة والجنود العديد من المواقف والخيارات الصعبة والمستحيلة، كالمخاطرة بحياة المدنيين أو إلحاق أضرار جانبية أثناء السعي لتحقيق الأهداف العسكرية، أو تحديد متى تُستخدم القوة المميتة مع الالتزام التام بقواعد الاشتباك.

إن تحقيق التوازن بين حماية النفس والإحساس بالتناسب أمرٌ ضروري في كل العمليات الهجومية والدفاعية، ولكن يصعب تحقيق مثل هذا التوازن.

وباعتبار الرواقية إحدى الطرق العديدة للوصول للفضيلة تعلّم المرء ‘ثنائية التحكم والسيطرة’ أي بعبارة أوضح التمييز بين ما يمكننا وما لا يمكننا السيطرة عليه، إذ تفترض الرواقية أننا سنجد السلام الداخلي والمرونة وسهولة التكيّف عندما نركز على أفكارنا وأفعالنا، ونتقبل الأحداث الخارجية.

ولا شك أن التعامل مع الأزمات بأسلوب عملي وواقعي له مزاياه، ففي أوقات الأزمات مثل الهجمات الصاروخية، يزيد ويتضاعف العبء العقلي لضمان السلامة الشخصية والعائلية بشكل كبير. ف’البراجماتية’ تساعد على التخفيف والحد من المخاطر. على سبيل المثال: (إن وضع خطة سلامة شاملة؛ تتمثل في البحث عن مأوى في إحدى المناطق الداخلية من المنزل والالتزام ب’قانون الجدارين’ الذي ينص على الاحتماء بمكان يقع خلف الجدار الاستنادي الثاني بعيدًا عن واجهة المبنى، يقلل من التعرض للمخاطر في حالة وقوع ضربة صاروخية).

إن الشعور الناتج عن هذا الأمان النفسي يمكن أن يسهل تجزئة الفوضى الخارجية والتركيز على المهام الإنتاجية.

ومع ذلك، فإن صوت صافرة إنذار الغارات الجوية غالبًا ما يؤدي إلى استجابة جسدية وفسيولوجية سريعة، مما يزيد من ضغط الدم، ويثير الذعر، وينشط آلية القتال أو الهروب في الجسم.

في مثل هذه الظروف، يشكل الحفاظ على الفهم العقلاني والسيطرة المتعقلة تحديًا كبيرًا، إذ تصبح الخطوط الفاصلة بين التأثير وانعدام السيطرة والتحكم مشوشة وغير واضحة، وفي حين أن اتخاذ تدابير السلامة قد يمنح المرء بعض الراحة، فإنه ما تزال هناك فرصةُ اختراق الصاروخ لهذه الجدران الواقية، وليس هناك حاجةٌللقول أن ذلك ليس ضمن نطاق سيطرة المرء.

حدود الرواقية

تؤكد الرواقية على المرونة العاطفية (وذلك عن طريق غرس حس اللامبالاة للحفاظ على حالة عقلانية هادئة)، وكذلك على الوعي واليقظة الذهنية (وهو مزيج من الانضباط الذاتي، والامتنان والسعي إلى الهدوء الداخلي والتأمل)، لكن الحقائق القاسية للحروب تُشكل تحديات كبيرة.

إن مبدأ ‘تذكر الموت memento mori’ الرواقي، الذي يعزز تقدير اللحظة الحالية، قد يؤدي في الواقع إلى تضخيم وزيادة الشعور بالضيق النفسي. بينما يصبح مبدأ حب القدر أو تقبل القدر ‘amor fati’ غير مقبول إلى حد ما بعد مشاهدة الفظائع أو المرور بها وتجربتها.

ومن محدودية الفلسفة الرواقية أيضًا السلبية التي قد تشجعها كوسيلة لمواجهة العنف والقمع، فأممٌ مثل أوكرانيا، التي يتعين عليها أن تدافع عن وجودها، كثيرًا ما تظل على قيد الحياة لأنها رفضت قبول مصيرها.

تجلب الحروب معاناة عميقة ومعها تأتي الحاجة إلى الاعتراف بالعواطف والمشاعر، وعلى الرغم من أن رباطة الجأش في أوقات الأزمات أمرٌ مثير للإعجاب، فإن قمع العواطف والإيجابية السامة يمكن أن يؤديا إلى تفاقم الخسائر العاطفية، مما يؤدي في النهاية إلى زيادة التوتر والقلق والخدر وصعوبة التواصل مع الآخرين مع زيادة خطر التعرض لضرر نفسي طويل الأمد، مثل الإصابة بالاكتئاب.

لذلك من الضروري إيجاد منافذ صحية لمعالجة المشاعر والتعبير عنها، والعمل من خلالها بشكل بنّاء، وتكمن المرونة العاطفية الحقيقية في قبول التحديات واحتضان النطاق الكامل للمشاعر واستخدام استراتيجيات التكيّف لتحقيق رفاهية متوازنة.

الآثار الجسدية للصدمة

على الرغم من أن الاستجابة الرواقية يمكن أن تساعد الشخص على تقبل الخطر والمخاطر التي تهدد حياته في البداية، فإن التهديدات اليومية الناجمة عن اندلاع الحروب تؤدي إلى حالة من التوتر الصدمي المزمن مما يؤثر بشكل عميق على الجهاز العصبي.

إذ تُنشّط الصدمة الجهاز الحوفي مما يؤدي إلى ما يُعرف باستجابة ‘إنذار الحريق’ وإطلاق هرمونات التوتر من أجل البقاء.

يستعيد الجهاز العصبي اللاوديّ حالة الهدوء بعد زوال الخطر عادةً، مما يسمح بأداء الوظائف الإدراكية بشكل طبيعي، لكن الصدمات المعقدة تعطل هذا التوازن وتبقي الأفراد في حالة مزمنة من وضع البقاء على قيد الحياة واليقظة المفرطة.

فالصدمة المعقدة، كما وصفها ‘بيسل فان دير كولك’ في كتابه The Body) Keeps the Score) يمكن أن تؤدي إلى أعراض دائمة مثل الصداع وتوتر وتشنج العضلات والتعب ومشكلات الجهاز الهضمي، كما يمكن للتوتر المزمن الناتج عن الصدمة أن يضر أيضًا بجهاز المناعة ويساهم في حدوث مشكلات صحية مزمنة.

التحرر من الصدمات المخزنة

نظرًا لأن الصدمة ليست مجرد تجربة إدراكية، ولكن تأثيرها يمتد إلى الجسد، ويرى ‘فان دير كولك’ أن العلاج التقليدي بالكلام قد لا يكفي للتخلص من هذه الصدمة المخزنة.

يعمل الدماغ العاطفي (اللوزة) والعقل العقلاني (قشرة الفص الجبهي) بشكل مختلف.

فاللوزة الدماغية تكتشف التهديدات بسرعة وتبدأ الاستجابة للضغط النفسي والتوتر دون وعي، لكن العلاج بالكلام يشرك العقل العقلاني، وهذا يتطلب علاجات تستهدف اللوزة الدماغية والجهاز الحوفي لمعالجة استجابات الذعر الناجمة عن الصدمة.

يمكن للعلاجات الجسدية التي تركز على الجسم أن تعلِّم جسمك أنه ليس من الضروري أن يكون مستعدًا للصدمات طوال الوقت. إذ تربط أساليب وطرق العلاج الجسدية، مثل اليوغا والعلاج النفسي الحسي الحركي والتنفس والتدليك والرقص أو العلاج بالحركة، الجسم والعقل معًا للتخلص من الصدمات ومعالجتها.

في الواقع، يعد الغناء والرقص فعّالان جدًا في السماح للناس بتجربة الشعور بالتحرر والتنفيس.

عند المواقف الأليمة والصدمات المزمنة، يعد تحقيق التوازن بين الرواقية والتحرر العاطفي أمرًا بالغ الأهمية. فهو يتطلب تحديد الوقت المناسب لممارسة الرواقية للتعامل مع اللحظات الصعبة، عندما يجب أن يهيمن المنطق والعقل، وتحديد متى يكون من الآمن التخلص من الصدمة ومعالجتها حتى تستطيع التعامل مع الضربة أو الصدمة التالية.

  • ترجمة: رانا عبد الرحمن
  • تدقيق علمي ولغوي: روان نيوف
  • المصادر: 1