إنَّ لغتنا غير كافية لوصف العالم الكمومي!
صعوبة وصف عالم الكم والأوضاع غير المحددة يُمثل تحدياً لقدرتنا على التعبير عنها بواسطة الكلمات.
“وحده الله يعلم أن ما قد يبدو لنا اليوم مجرد هراء، سيكون غدًا حقيقة مثبتة”.
هذه هي الطريقة التي عبر بها عالم الرياضيات والفيلسوف العظيم ألفريد نورث وايتهيد (Alfred North Whitehead) عن إحباطه من هجمة الغرابة هذه، تلك الهجمة القادمة من فيزياء الكم (Quantum Physics) الناشئة، وقد كتب هذا النص المقتبس أعلاه في عام 1925، وذلك في الوقت الذي كانت الأمور تزداد فيه غرابة حقًا.
في ذلك الوقت، أُثبت أن الضوء عبارة عن جسيم وموجة معاً، وقدم حينها أيضاً نيلز بور (Niels Bohr) نموذجًا غريبًا للذرة أظهر كيف أن الإلكترونات عالقة في مداراتها، وأنه يمكنها فقط القفز من مدار إلى آخر إما عن طريق إصدار فوتونات من أجل الذهاب إلى مدار منخفض، أو امتصاص فوتونات للذهاب إلى مدار أعلى.
كانت الفوتونات، من جانبها، عبارة عن جزيئات ضوئية، ظنّ أينشتاين أنها موجودة في عام 1905، وقتها رقصت الإلكترونات والضوء على نغمةٍ فريدة ومميزة جدًا.
عندما قال وايتهيد العبارة المقتبسة أعلاه، كانت ثنائية الموجة والجسيم للضوء قد امتدت لتوها إلى المادة أيضًا. وفي محاولة لفهم ذرة بور هذه، اقترح لويس دي برولي (Louis De Broglie) في العام 1924، أن الإلكترونات هي أيضًا موجات وجسيمات معاً، وأنها تنضبط في مداراتها الذرية مثل الموجات الثابتة، وهو نوع من الموجات الذي نحصل عليه عند اهتزاز وتر ذو نهاية واحدة ثابتة.
إنّ كل شيء يتموج إذاً، على الرغم من أن هذا التموج للجسيمات سرعان ما يصبح أقل وضوحًا مع ازدياد حجمها. فهذه الطبيعة الموجية بالنسبة للإلكترونات مثلاً مهمة جداً، لكنها تعتبر أقل أهمية بكثير بالنسبة لجسم ذو حجم أكبر مثل كرة البيسبول.
تحرير الكم:
نشأت من الدراسة أعلاه مفهومان أساسيان في نظرية الكم، تختلف بشكل جذري عن التفكير الكلاسيكي التقليدي.
أولاً، إن الصور التي نبنيها في أذهاننا عندما نحاول تصوير الضوء أو جزيئات المادة تصبح غير ملائمة؛ لأن اللغة ذاتها تكافح لتتعامل مع الواقع الكمي، نظرًا لكونها تقتصر على التفسير اللفظي لتلك الصور الذهنية. فكما كتب الفيزيائي الألماني العظيم فيرنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg): “نودُ التحدث بطريقةٍ ما عن بنية الذرات وليس فقط عن الحقائق، لكن لا يمكننا التحدث عن الذرات باللغة العادية”.
ثانيًا، لم يعد المراقب لاعبًا سلبيًا في وصف الظواهر الطبيعية، فإذا كان الضوء والمادة يتصرفان كجسيمات أو كموجات اعتمادًا على كيفية إعدادنا للتجربة، فلا يمكن عندها فصل المراقب عما يتم رصده.
في عالم الكم، يلعب الراصد دورًا حاسمًا في تحديد الطبيعة الفيزيائية لما يتم ملاحظته. إن فكرة الحقيقة الموضوعية، والموجودة بشكل مستقل عن المراقب وهي معطى أساسي في الفيزياء الكلاسيكية، وحتى في فيزياء النظرية النسبية، هذه الحقيقة الموضوعية تغدو هنا شيئًا مفقوداً.
وهذا مثير للجدل إلى حد ما؛ حيث يظهر أن العالم، على الأقل في الأبعاد الصغيرة جدًا، يعتمد على ما نحدده نحن.
وأفضل ما قيل في هذا المجال هو ما ورد على لسان ريتشارد فاينمان (Richard Feynman):
“إن الأشياء على النطاق الصغير جدًا لا تتصرف مثل أي شيء آخر لديك خبرة مباشرة عنه. إنها لا تتصرف مثل الأمواج، ولا مثل الجسيمات، ولا مثل السحب، أو كرات البلياردو، أو مثل الأثقال المربوطة بالنوابض، أو مثل أي شيء آخر رأيته من قبل”.
بالنظر إلى الطبيعة الغريبة للعالم الكمي، فلا يمكن إحراز تقدم إلاّ من خلال مناهج جديدة ومختلفة جذرياً. وهكذا، وخلال فترة سنتين في عشرينيات القرن الماضي، اخترعت نظرية جديدة تمامًا عن الكم. كانت هذه ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics)، التي يمكن أن تصف سلوك الذرات وتحولاتها دون إقحام التصورات الفيزيائية الكلاسيكية، مثل كرات البلياردو والأنظمة الشمسية المصغرة. وفي عام 1925، أنتج هايزنبرغ “ميكانيكا المصفوفات” الرائعة، وهي طريقة جديدة تمامًا لوصف الظواهر الفيزيائية.
كان بناء هايزينبرغ (Heisenberg) هذا تحررًا رائعًا من القيود التي فرضها التصوير المستوحى من الطراز الكلاسيكي. فهو لم يتضمن جسيمات أو مدارات، بل تضمن فقط أرقاماً تصف الانتقالات الإلكترونية في الذرات. لكن لسوء الحظ، كان من الصعب إنجاز الحسابات باستعمالها، حتى لأبسط ذرة، كذرة الهيدروجين.
وهنا ظهر في الصورة عالم فيزيائي شاب لامع آخر. (وقد كان هناك الكثير منهم في تلك الأيام، كلهم في العشرينات من العمر، وكانوا جميعاً تحت وصاية نيلز بوهر Niels Bohr). حين ظهر النمساوي وولفجانج باولي (Wolfgang Pauli) وأوضح كيف يمكن استخدام ميكانيكا المصفوفات للحصول على نفس النتائج التي أعطاها نموذج بوهر لذرة الهيدروجين. بعبارة أخرى، فقد استدعى العالم الكمومي وصفاً غريب تمامًا ومختلفاً عن حدسنا اليومي.
اليقين الوحيد هو عدم اليقين
في العام 1927، أتبع هايزنبرغ ميكانيكا الجديدة هذه باختراقٍ عميق في طبيعة فيزياء الكم، مما تسبب في المزيد من إبعادها عن الفيزياء الكلاسيكية. وكان ذلك مبدأه الشهير في عدم اليقين -Uncertainty Principle-.
وهو ينص على أننا لا نستطيع معرفة قيم أزواج معينة من المتغيرات المادية (مثل الموضع والسرعة، أو الزخم) بدقة كاملة، وإذا حاولنا تحسين دقة قياس أحدهما، سيصبح الآخر غير دقيق.
ولاحظ بأن هذا القيد على الدقة لا يرجع إلى فعل الرصد بحد ذاته، كما يقال أحيانًا. وقد حاول هايزنبرغ تشكيل صورة تشرح الرياضيات الكامنة وراء مبدأ عدم اليقين هذا، فقد ادعى بأننا إذا سلطنا الضوء على كائن لمعرفة مكانه، فإن الضوء نفسه سوف يدفعه بعيدًا وسيكون موضع هذا الكائن بالتالي غير دقيق. أي أن فعل المراقبة يتداخل (Interferes) مع الكائن الذي تتم ملاحظته.
بالرغم من صحة هذا الادعاء، إلاّ أنه ليس هو الأصل والمنشأ الحقيقي لعدم اليقين الكمومي. فعدم اليقين الكمومي ينبع من بنية وطبيعة الأنظمة الكمومية ذاتها، وهو تعبير عن ازدواجية الموجة والجسيم Wave-Particle المراوغ هذا.
فكلما كان الكائن أصغر -أي كلما كان أكثر تحديداً في موقعه في الفراغ- ازداد عدم اليقين في معرفتنا لزخمه.
مرة أخرى، تكمن المشكلة هنا في أن نشرح بالكلمات سلوكاً ليس لدينا إدراك لطبيعته. ومع ذلك، فإن الرياضيات هنا واضحة للغاية وفعالة أيضًا.
إنّ كلّ شيء غامض جدًا في عالم الكائنات الصغيرة هذا، فلا يمكننا وصف الأشياء فيه باستعمال الأشكال العادية في عالمنا، كما اعتدنا أن نفعل للعالم من حولنا.
إن قيم الكميات الفيزيائية لهذه الكائنات -قيم من مثل الموضع أو الزخم أو الطاقة- لا يمكن معرفتها بدقة تتجاوز المستوى الذي تمليه علاقة هايزنبرغ السابقة الذكر.
تصبح المعرفة هنا، والتي تُفهم على أنها إمكانية الحصول على معرفة مطلقة بشيء ما، تصبح أكثر هشاشةً من التجريد في العالم الكمي. إنها، أي هذه المعرفة، تصبح مستحيلة.
ولمن يهمهم التفاصيل الرياضية، فإن عبارة Heisenberg الرياضية لموضع وزخم كائن ما هي (∆x ∆p ≥ h / 4π )، حيث ∆x وp هما الانحراف المعياري للموضع x والزخم p، وh هو ثابت بلانك. فإذا حاولت تقليل قيمة ∆x، أي أن تزيد من دقة معرفتك بموضع الكائن في الفضاء، فإنك تقلل بالتالي من معرفتك بزخمه. (في حالة الأجسام التي تتحرك ببطء مقارنة بسرعة الضوء، يكون الزخم هو فقط mv، أي الكتلة مضروبة في السرعة. ).
لقد كان عدم اليقين الكمي (Quantum uncertainty) هذا بمثابة ضربة مدمرة لأولئك الذين اعتقدوا أن العلم يمكن أن يقدم وصفًا حتميًا للعالم: الفعل A يسبب رد فعل. لم يقتنع بذلك لا بلانك Planck، ولا أينشتاين Einstein، أو دي بروي de Broglie. حتى شرودنجر أيضًا، الذي هو بطل التوصيف الموجي لفيزياء الكم.
فهل حقاً أن الطبيعة بهذه الغرابة والعبثية؟
ولكن رغم كل شيء، فقد كانت معادلة هايزنبرغ تخبر العالم بأنك حتى لو كنت تعرف كلاً من الموضع الأولي والزخم للكائن بدقة تامة، فإنك لن تكون قادرًا على التنبؤ بسلوكه المستقبلي. إذاً، كان لابد من التخلي عن مفهوم الحتمية، ذلك المفهوم الذي يشكل حجر الزاوية في النظرة الكلاسيكية لميكانيكا العالم، مثل الكواكب التي تدور حول النجوم، والأجسام التي تسقط على الأرض بشكل متوقع ومحسوب، وموجات الضوء التي تنتشر في الفضاء وتنعكس من الأسطح؛ كان لابد من التخلي عن مفهوم الحتمية هذا لصالح وصفٍ ذو طبيعةٍ احتماليةٍ للواقع.
هنا بالضبط تبدأ المتعة الحقيقية، عندما تصطدم وجهات نظر عمالقة من أمثال أينشتاين وبوهر وسط حالة جديدة من عدم اليقين بشأن طبيعة الواقع. قبل حوالي قرن من الزمان، أصبح العالم، أو على الأقل فهمنا له شيئًا آخر تمامًا. وكانت تلك الثورة الكمومية في بدايتها.
- ترجمة: لؤي الرنتيسي
- تدقيق لغوي: غفران التميمي
- المصادر: 1