“وابي سابي” الفلسفة اليابانية لحياة خالية من فخ المثالية

السعي نحو الكمال أخذ في التزايد في كلّ أشكال حياتنا، ويمكن أن تكون عواقبه على الصحة العقلية مُدمرة وخطيرة، يمكن للفلسفةِ اليابانية أن تساعدَ في تجنب ذلك، حيث تساعدنا فلسفة وابي سابي على تقدير عيوبنا من خلال قُبول أخطائنا كجزء من رحلتنا نحو التحسُن، حينها يمكننا التعامل مع الحياة بشكل أفضل وبتواضع أكبر وتقدير للذات.

أنا نوعاً ما مُنجذبٌ نحو الكماليّة، أخطط لقضاء الإجازات في مكان معين، فيقوم عقلي بإعادة التفكير واكتشاف الأخطاء الفادحة، ويتكرر ذلك بشكل دائرة وحلقة مفرغة، وفكرة أنه قد يكون هناك أخطاء مطبعية في مقالاتي تجعل مخي ينفجر في سلسلة من الانفعالات.

إن السعي وراء الكمال ليس مرادفاً للسعي وراء التميّز، وسواء كان هذا الحافز يأتي بدافع ذاتي أو مفروض من قبل شخص أعلى أو والد أو شريك، فإن تكلفته تفوق بكثير الهدف منه، فقد أظهرت الأبحاث التداعيات المحتملة للسعي وراء الكمال: القلق، والاكتئاب، والنفور الاجتماعي، وانخفاض الرضا عن الحياة، وانخفاض تقدير الذات، وصعوبات الوعي الذاتي العاطفي.

حتى مع علمي بذلك، أجد صعوبة في قبول عيوبي واحتضان أخطائي. وللأسف، أنا لست وحدي في ذلك.

التوجه نحو السعي للمثالية يتزايد بمرور الوقت، فطلاب الجامعات والعاملين في مجموعة متنوعة من المجالات لديهم هذا التوجّه كذلك، وللهروب من هذا الفخ، كنت أّطلع على فلسفة وابي سابي اليابانية، والتي لا تطلب منا سوى قبول أن لا شيء ولا أحد مثالي، وإنما تهدف أيضًا إلى كونها تأمُل، ونذهب إلى أبعد من ذلك، ونجد القيمة الفعلية للكمال.

من هو وابي سابي؟

بسبب التبادل بين الثقافات، وهو أمر مُعتاد، لا توجد ترجمة فردية لوابي سابي وكذلك، ليسَ هناك تعريف واضح في اللغة اليابانية، ولكن كما قال أندرو جويبر، مؤلف (وابي سابي: فن عدم الثبات الياباني):

“وابي سابي هي فلسفة جمالية غير ملموسة ومغطاة منذ قرون بالغموض لدرجة أنه حتى أكثر العلماء اليابانيين جموحاً سيعطونها نطاقاً واسعاً ويتمسكون بالتقاليد اليابانية في الحديث عنها باستخدام المصطلحات الشعرية.”.

تجمع الجملة حرفين كناجي (وهي نظام لغوي ياباني)، واللذان كما هو واضح: وابي (侘) وسابي (寂). تُرجمت وابي بشكل مختلف على أنها بساطة أو حزن أو هدوء، وتُرجمت سابي على أنها قديمة وأنيقة أو هادئة، أو جمال الأشياء الباهتة، بالجمع بين المعاني نجد أنها تعبر عن تقدير التواضع والجمال المعيب وعدم وجود شيء ثابت لكل الأشياء.

وعلى الرغم من أنني وصفتها بأنها فلسفة، إلاّ أنها في الحقيقة نظرة عالمية أو جمالية —شيء تشعر به وتجربه— أكثر من كونها فلسفة منظمة ومصاغة في التقاليد الغربية.

جذور هذه الفلسفة تعود لفلسفة زن البوذية، وفقًا لجويبر، وفي أوقات مختلفة من تاريخ اليابان، كانت المعابد البوذية تعاني من نقص التمويل، ومع ذلك كانت لا تزال تستقطب الضيوف بروح الكرم رغم افتقارها إلى الفن أو المفروشات عالية الجودة, حيثُ أقرن الرهبان ممتلكاتهم مع بيئة طبيعية بسيطة لإنتاج “حالة جماليّة.”.

وأضاف جونيبر: “من خلال القيام بذلك، كانوا يركزون على ما هو طبيعي، غير الدائم والمتواضع، وفي هذه الأشياء البسيطة والريفية في كثير من الأحيان، اكتشفوا الجمال الفطري الذي يمكن العثور عليه في الأنماط العشوائية الرائعة التي خلفّتها الطبيعة”.

في فترات مختلفة من التاريخ الياباني، تمكّنت المعابد البوذيّة مِن مُمارسة قوة سياسية واجتماعية كبيرة، مما منحها الثروة لبناء معابد فاخرة بشكل خيالي. كما أن الانتشار الثقافي يُعتبر غير معروف لليابان في فترة أسوكا (538-710 م) (وهي حقبة من التاريخ الياباني)، فقد لوّح الفن البوذي بأسلوب هلنستي مميز (الأسلوب الهلنستي هو فن العصر الهلنستي الذي بدأ بوفاة الإسكندر الأكبر في سنة 323 قبل الميلاد وانتهى مع غزو الرومان لليونان).

ومع ذلك، وبعد تسرّب الفلسفة البوذية في جميع أنحاء الثقافة اليابانية، ظهرت فلسفة وابي سابي التي أثرت على كل شيء من الديكور إلى العلاقات وحتى جراحة الأسنان، وهو ما يمكن التماسه بوضوح في التقاليد الفنية للبلاد.

وصوله إلى الفنون الجميلة

تَظهر هذه الفلسفة في لوحات سومي، أي أحادية اللون عبر الرسم وفق آلية معينة بحيث تقوم بإبراز بساطة العمل الفني للتأكيد على موضوعاتها الطبيعية. حتى أشجار بوساي (الأشجار القزمية) وتنسيقات زهور الإيكيبانا تتسم بالبساطة.

وبيوت الشاي شائعة الانتشار أيضاً لا تُركّز على البهرجة والزينة المبالغ بها لكي يكون التركيز فقط على الشاي بحد ذاته.

لكن التطبيق الفني الجوهري لوابي سابي هو كين تسوجي، وهي حرفة يابانية لإصلاح الفخار المكسور، بدلًا من محاولة إخفاء الكسور وجعل الفخار يبدو وكأنه جديد، يستخدم حرفيو كين تسوجي مادة عصارة الأشجار المغطاة بمسحوق الذهب أو الفضة أو البلاتين لإبراز الكسور ومناطق ترميمها. (يترجم كين تسوجي حرفيًا إلى “الترميم بالذهب” ) في بعض الأحيان يأخذون قطعاً من السيراميك المكسور ويجمعونها لصنع تحفة جديدة.

فمن خلال تسليط الضوء على هذه العيوب، يحتفل بكين تسوجي بتاريخ القطعة، حيث يُبدع في صنع شيء فريد تمامًا من تلك العيوب. فالقطعة تصبح غير قابلة للتكرار، وبالتالي لن تنكسر أي سيراميكة بالطريقة ذاتها التي تنكسر بها غيرها، وهذا يزيد قيمتها في نظر صاحبها.

الحياة مماثلة أيضًا لوابي سابي:

يمكنك أن ترى تجلي هذا لأن وابي سابي هو أكثر من مجرد فن وأواني خزفية. يمكننا إدخال هذه الفلسفة في أي جانب من جوانب حياتنا تقريبًا وبذلك يمكن أن تصبح غير مكترث بالمثالية، وبصفتنا ساعون وراء المثالية، نسعى كذلك دائماً لتحقيق الزفاف المثالي، ودرجة الاختبار المثالية، والسجل الرياضي المثالي، والمقال المثالي، والمظهر والأسلوب المثاليين. ولكن حتى لو تمكنا من تحقيق هذا الهدف النبيل -الذي في الواقع لا نستطيع- فإن الحياة وعدم الثبات يضمنان أن ذلك لن يدوم، وسوف يؤول حتماً إلى النهاية.

لن تجتاز كل اختبار كما يتم كسر السجلات الرياضية في كل وقت وستصبح المقالة قديمة، والشيء الوحيد الذي يتقدم في السن أسرع من أجسامنا هو موضة العام الماضي.

بدلًا من إضاعة الوقت والطاقة العقلية بالسعي نحو الكمال، يمكننا تغيير علاقتنا، مساعينا وأنفسنا، ويمكننا قبول إخفاقاتنا، وتقدير التصدّعات لدينا، وحتى غرس شكل من أشكال تقدير الذات القائم على التواضع والقبول.

“وابي سابي هو جمال الأشياء غير الكاملة وغير الدائمة وغير المثالية، إنه جمال الأشياء المتواضعة، إنه جمال الأشياء غير التقليدية.”.

ليونارد كورين

هذا لا يعني أن فلسفة وابي سابي تدعو لتجنب تحسين الذات أو السعي وراء التميز حيث أن التقاليد الفنية لليابان هي مؤشر واضح على أن وابي سابي ليس عذرًا للكسل، ولكن مثل حرفيّ كين تسوجي، يمكننا الاحتفال بل وإبراز الأخطاء كجزء من الرحلة وهو ما يجعلنا متفردين، بدلًا من السعي للحصول على نسخة خالية من العيوب.

وتذكر أن فخ الكمال يوقِع في كلا الاتجاهين. عندما تطلب الكمال من الفن أو الأشخاص، فإنك لن تصبح قادراً على تقدّير هذه الأشياء في حياتك إلاّ عند وصولها لمرحلة المثالية، يمكن أن يساعدك وابي سابي على الانفتاح على الآخرين والخبرات، وكذلك الاحتفال بجمالهم كما هو عليه.

السعي نحو الاستمتاع بالأشياء كما هي عليه

لا يحتاج المرء إلى أن يتبع الفلسفة البوذية لتبني مبدأ وابي سابي، إنه مغروس في كل مكان وكل ثقافة حتى لدى الغرب أيضا. يقول المثل الإيطالي-الذي نشره فولتير- “المثالية هي عدو الصلاح”، وكتب شكسبير في (الملك لير) أن “السعي نحو الكمال، كثيرًا ما يُفسد ما هو جيد.”.

ويحذر سفر الجامعة (وهو أحد أسفار العهد القديم) من الانغماس في الغرور في الحياة بدلاً من الاستمتاع بملذاتها البسيطة.

في مقابلة، أظهر فيها الفنان نيك أوفرمان نهجه في الحياة والعمل: “غالبًا ما أتبنى فلسفة عامة في حياتي تتمثل بعدم الانحياز لمبدأ مُعيّن، دون أن أقترب لأي درجة من الكمال. وأضاف: في الواقع، ما يبقينا أحياء وما يبقيني منغمساً بحيويّة هو السعي المستمر للتحسين. لذلك تخليت عن السعي وراء الكمال منذ وقت طويل، الآن أنا أستمتع بجمال الأشياء بما هي عليه.”.

كيف تتبنى مبدأ وابي سابي في حياتك؟

لا توجد منهجية واحدة كي يسير عليها الجميع، وإنما يمكنك إدخال هذه الفلسفة وهذا النمط إلى تجاربك، ومعرفة ما إذا كانت تساعدك على التغلب على سعيك المستمر نحو الكمال.

إذا أدى سعيُكَ نحو المثالية والكمال إلى التسويف، فقد تجد أن تبني وابي سابي يساعدك على البدء بشكل أسرع، أي أنك إذا كنت تقارن نفسك بشكل دائم بالآخرين، فقد يساعد مبدأ وابي سابي على تقدير إخفاقاتك بنفس السوية التي تقدّر بها نجاحاتك. وإذا كنت تشعر أنك غير جيد بما فيه الكفاية، قد تساعدك أيضاً على تجاوز هذا الإحساس (ورؤية الذهب بين الكُسور).

وكما يُشير أوفرمان: “إذا ارتكبت الأخطاء، فهذا يعني أنك تحاول، وأنك تتأرجح في محاولة تحقيق شيء ما، وإذا كنت لا ترتكب الأخطاء، فهذا يعني أنك استسلمت.”.

  • ترجمة: وداد عنتر
  • تدقيق لغوي: غفران التميمي
  • المصادر: 1