نصوص قديمة من بلاد ما بين النهرين: متى ولماذا تبادل البَشّر القُبلات لأول مرّة؟

يُولد البَشّر بغرائز البكاء والابتسام، ولكن ليس بغرائز للتقبيل.

في الماضي كان لدى أسلافنا فكرة ملامسة أفواههم معًا ووصفها بالرومانسية. وعلى الرغم من أَننا قد لا نعرف من الذي أوجد القُبلة الأولى، إلّا أَن السجلات القديمة حول هذه الفصول المُغرية تساعدنا على تكوين فكرة متى بدأ الناس بضمّ الشفاه.

أول دليل مقبول لدينا على ذلك هو النصّ الديني المكتوب في الهند في 1500 قبل الميلاد. لم تكن هناك كلمة رسمية للتقبيل في ذلك الوقت، إلا أنّ عبارات مثل: “العشاق يضعون الفم في الفم” تعني أكثر من مجرد علاقات أفلاطونية (علاقات غير رومانسية يغيب فيها الإنجذاب الجسدي).

في الواقع، تُشير مجموعة نصوص مكتوبة من بلاد ما بين النهرين القديمة (العراق وسوريا حاليًا) تمّ التغاضي عنها، أنّ الناس كانوا يُقبّلون أكثر في الماضي.

نقلًا عن هذه النصوص، يجادل مؤلفوا مقال جديد نُشر اليوم في مجلة Science بأن التقبيل الرومانسي حدث قبل 1000 عام ممّا توقعه المؤرخون لأول مرة. وعندما أصبح التقبيل أكثر شيوعًا، كشفت السجلات الطبية القديمة عن انتشار واسع النطاق للفيروسات التي تنتشر من خلال ملامسة الشفاه.

تقول شيريل كيرشينباوم مؤلفة كتاب “علم التقبيل”

The Science of Kissing

“نظرًا لما نعرفه عن تاريخ التقبيل لدى البَشّر وعدد لا يُحصى من السلوكيات المشابهة للتقبيل التي لوحظت في جميع أنحاء مملكة الحيوان، فأنا لست مندهشة من هذه النتائج”.

“سواء أكان رومانسيًا أم لا، فإن التقبيل يؤثر على أجسادنا وأدمغتنا بعدة طرق هادفة من خلال توجيه عواطفنا وقراراتنا”.

تصف الألواح الطينية التي خَلَّفها سكان بلاد ما بين النهرين القدماء في 2500 قبل الميلاد نوعين من التقبيل: الأول كان قُبلة الوالدين الودّية، إذ كان الناس يُقبّلون أقدام شيوخهم أو الأرض; كدليل على الإحترام أو الخضوع.

والثاني هو قُبلة الشفاه بنبرة أكثر إثارة وحميمية. ومع ذلك، كانت هناك بعض العادات الثقافية عندما يتعلق الأمر بهذا النوع من التقبيل. إذ كان التقبيل الرومانسي فعلًا مخصصًا للمتزوجين في بلاد ما بين النهرين، وكان التقبيل بين غير المتزوجين من المحرمات; حيث يُنظر إليه على أَنه استسلام للإغراء الجنسي.

وأُعتُقِدَ أَن الأشخاص الذين لا يجدر بهم أن يكونوا نشطين جنسيًا (مثل الكاهنات) يفقدون قدرتهم على التحدث إذا قَبّلوا شخصًا ما.

يوضّح المؤلف ترويلز بانك أربول عالم الآشوريات (وهو شخص يدرس لغة وحضارة بلاد ما بين النهرين القديمة) في جامعة كوبنهاغن: “تُشير الحاجة لوضع مثل هذه المعايير إلى أنّ التقبيل الرومانسي كان يُمارس في المجتمع ككل”.

بسبب ازدياد ممارسة التقبيل على الشفاه، وصفت النصوص الطبيّة القديمة الأمراض التي تشبه أعراضها الإلتهابات الفيروسية وتنتشر عن طريق الاتصال الفموي. لاحظ المؤلفون أن هذا يتوافق مع تحليل الحمض النووي المأخوذ من بقايا بشرية قديمة للكشف عن فيروسات مثل: فيروس الهربس البسيط وفيروس إبشتاين بار وفيروس بارفو البشري.

إذ تنتقل الفيروسات الثلاثة عبر اللعاب.

أحد الأمثلة على ذلك، هو مرض أطلق عليه سكان بلاد ما بين النهرين القدماء “بوشانو” تتضمن العدوى ظهور بثرات في منطقة الفم أو حولها. ويشير اسم المرض أيضًا إلى أن الشخص المصاب قد تكون له رائحة كريهة. بينما يقول أربول: “إن مرض بوشانو يشترك في العديد من الأعراض مع الهربس، فإنه يحذر الناس من وضع أي افتراضات، كما هو الحال مع جميع مفاهيم الأمراض القديمة، فإنها لا تتطابق مع أي أمراض حديثة ويجب على المرء أن يكون حذرًا للغاية عند تطبيق هذه التعريفات الحديثة; فمن المحتمل أن يكون مفهوم مرض مثل بوشانو قد اشتمل على العديد من الأمراض الحديثة”.

من المحتمل أن سكان بلاد ما بين النهرين لم يعتقدوا أَن الأمراض المُعدية تنتشر عن طريق التقبيل; لأَنها لم تُدرج في أي مكان في النصوص الطبية. ومع ذلك، كان لديهم بعض الأفكار المؤثرة دينيًا حول التلوث مما دفع ببعض الإجراءات لتجنب انتشار المرض.

على سبيل المثال: تصف رسالة من حوالي عام 1775 قبل الميلاد امرأة من حريم القصر مصابة بآفات في جميع أنحاء جسدها، وعلى افتراض أنها معدية، تَجنب الناس الشرب من أي أكواب تشربها أو النوم في سريرها أو الجلوس على كرسيها.

تُظهر النتائج أن هذا الشكل من التقبيل لم ينشأ في مكان واحد. تعلّمت بلاد ما بين النهرين والهند والمجتمعات الأخرى بشكلٍ منفصل الربط بين التقبيل على الشفاه والرومانسية. يقول أربول: “من الممكن أن تكون هناك مناطق أخرى تعلمت أيضًا عن التقبيل ولكنها لم تكن تمتلك أدوات الكتابة لتسجيل هذا السلوك”.

يؤسس هذا لسؤال حول مدى انتشار التقبيل الجنسي في العالم القديم.

يبدو بعض الخبراء أقل اقتناعًا بأن التقبيل كان سلوكًا عالميًا. إذ يشير ويليام جانكوياك (أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة نيفادا لاس فيجاس) إلى أن السجلات المكتوبة حول التقبيل تظهر غالبًا في المجتمعات المعقدة، وبشكلٍ أقل من ذلك في الأشخاص الذين يعيشون في مجموعات صغيرة للبحث عن الطعام.

ومن الصعب أَيضًا معرفة ما إذا كان التقبيل الرومانسي يُمارس في أكثر من فئة واحدة أم يقتصر على مجموعات النخبة في الحضارات القديمة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لعوامل أخرى مثل العيش في المناطق الإستوائية مقابل المناطق الباردة، أن يؤثر على رغبة الناس بتبادل القبل.

لا يزال هناك طريق طويل لنقطعه في فهم التاريخ القديم للتقبيل. لكن الدراسة أوضحت شيئًا واحدًا وهو أن المُعانقة التي مارسها أسلافنا ربما تكون السبب في أن مرض الهربس الفموي والأمراض الأخرى المنقولة عن طريق القبلة، هي مشكلة عالمية اليوم.

  • ترجمة: نغم تركية
  • تدقيق علمي ولغوي: فاطمة قائد
  • المصادر: 1