اكتشاف أقدم دليل على وجود البشر في أوروبا

تعيد الأدوات الحجرية التي عُثر عليها مدفونةً في أعماق رواسب محجر كوروليفو في أوكرانيا كتابةَ تاريخ الهجرة البشرية.

إذ تبدو قطع الصخور المتواضعة أدواتٍ استخدمها الإنسان المنتصب- السلف المباشر لنا- وتكشف التواريخ الجديدة كونها تمثّل أقدم دليل على استيطان البشر في القارة الأوروبية.

يقول عالم الآثار “آندي هيريس” من جامعة لا تروب في أستراليا: «كان يُعتقد في السابق أن الأسلاف الأوائل لم يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة في خطوط العرض الباردة والشمالية من دون استخدام النار أو تكنولوجيا الأدوات الحجرية المعقدة».

ويضيف: «ومع ذلك، لقد وجدنا هنا دليلاً على أن الإنسان المنتصب عاش في أقصى الشمال في هذه الفترة الزمنية المبكرة مما وُثّق سابقًا».

يمثّل تأريخ تطور البشرية وانتشارها في جميع أنحاء العالم لغزًا يصعب تجميعه، وعلى الرغم من ذلك بدأت في السنوات الأخيرة تظهر بعض الأدلة على أنها لم تكن قصة خطية بسيطة نشأت في مهد واحد وفي جزء واحد من العالم؛ إذ تشير العديد من الأدلة الحديثة إلى أن الإنسان العاقل ربما كان يتحرك عبر أوروبا في وقت أبكر بكثير مما كنا نعتقد سابقًا.

مما يعني أن التاريخ البشري يبدو أكثر تعقيدًا، وأن فهمنا له تتخلّله بعض الثغرات الخطيرة.

تعتمد نماذجنا إلى حد كبير على الأدوات الحجرية، لأنها إلى جانب بعض آثار العظام الهزيلة وبعض القطع الأثرية القوية الأخرىمن بين الآثار القليلة القادرة على البقاء عبر العصور. ومع ذلك، لا تأتي القطع الأثرية الحجرية ممهورة بتاريخ الإنتاج، مما يترك الباحثين يعتمدون على القرائن المحيطة لتحديد عمرها ومكانتها في التاريخ.

يعد موقع كوروليفو الأثري موقعًا مذهلًا؛ إذ يصل عمقه إلى 14 مترًا (46 قدمًا) من الطبقات التي تراكمت على مرّ الزمن، ونُقّبت منه آلاف القطع الأثرية، التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وقد عرف الموقع ما لا يقل عن سبع فترات منفصلة من الاستيطان البشري، عبر ما لا يقل عن تسع ثقافات من العصر الحجري القديم حتى حوالي 30,000 سنة مضت.

ولكن لا توجد بقايا بيولوجية في الموقع، بل هناك حجر فقط، وهو ما يستبعد الطريقة التقليدية المعتادة لتأريخ الكربون المشعّ لأي مواد عضوية قريبة، وعلى مدى العقود التي تلت اكتشاف الأدوات، لم يتمكن الباحثون إلا من تخمين أعمارها.

ولحسن الحظ، سمحت التطورات الحديثة أخيرًا بالتأريخ الدقيق للصخور المدفونة، وهذا ما توصل إليه فريق بقيادة عالم الآثار “رومان جاربا” من الأكاديمية التشيكية للعلوم.

يقول جاربا: «للإجابة عن الأسئلة التي يطرحها علماء الآثار والأنثروبولوجيا، نحتاج إلى استخدام أساليب الفيزياء النووية والجيوفيزياء».

تسمى التقنية التي استخدمت «تأريخ دفن النويدات الكونية»، وهي تستفيد من حقيقة تعرّض المواد المكشوفة على السطح للأشعة الكونية، ومن خلال مقارنة اضمحلال نوى ذرية معينة، من الممكن قياس مقدار الوقت الذي انقضى منذ آخر مرة رأى فيها الجسم السماء.

يوضح جاربا: «في موقع كوروليفو، قسنا على وجه التحديد تركيزات النويدات الكونية البريليوم 10 والألمنيوم 26، والتي لها نصف عمر مختلف؛ إذ تتراكم هذه النويدات في حبيبات الكوارتز عندما تكون الصخرة على السطح بسبب الإشعاع الكوني القادم من الفضاء، لكنها تبدأ في الاضمحلال عندما تصبح مدفونة في الأرض، وتختلف النسبة بين الاثنين باختلاف مدة دفن الكتل تحت سطح الأرض، الأمر الذي يسمح لنا بحساب أعمارها منذ دفنها».

كما استخدم الفريق نماذجهم الرياضية الخاصة لتحديد عمر الطبقات الرسوبية، وهي المرة الأولى التي تُستخدم فيها هذه الطريقة للتأريخ الأثري، بالنسبة لأقدم الأدوات في التجميع، كان أقرب عمر توصلوا إليه باستخدام هذه الطريقة هو 1.42 مليون سنة.

لقد أتاح تأريخ القطع الأثرية للباحثين سدّ بعض الثغرات في تاريخ الهجرة البشرية؛ إذ تُظهر أبحاثهم أن الإنسان المنتصب كان موجودًا في أوروبا قبل 1.4 مليون سنة، بعد أن هاجر عبر آسيا قبل 1.8 مليون سنة. ويعود تاريخ أقدم أحفورة معروفة للإنسان المنتصب إلى ما قبل مليوني سنة، حيث عُثر عليها على شكل شظايا في كهف في جنوب أفريقيا وقد جُمِعت معًا بعناية.

يقول الباحثون إنه من الواضح أنه لا يزال هناك الكثير من الأشياء التي لا نعرفها، لكن تعد هذه خطوة أولى في الاتجاه الصحيح.

يقول هيريس: «يبقى أن نرى ما إذا كان هذا جزءًا من استيطانٍ أوسع نطاقًا وغير مكتشف بعد لأوروبا في ذلك الوقت».

  • ترجمة: عبير ياسين
  • المصادر: 1