مراجعة كتاب: تاريخ شامل وشخصي عن الإدمان
في كتاب “الرغبة” كارل إريك فيشر، طبيب نفسي يدمج التاريخ والنقد الاجتماعي مع تجربته الشخصية مع التعافي.
كارل إريك فيشر فيزيائي جديد وصل إلى “بيليفيو” المستشفى العام في مانهاتن ومعروف بمساعدة أكثر حالات الأمراض العقلية تحدياً.
فيشر كان سابقاً مريض، وحُجز في جناح الاضطرابات المزدوجة بعد نوبة هستيرية تضمَّن الكحول والأديرال. لو مررت به في الردهة لربطته بنمط “الممرض جاكي”: الطبيب الذي يعاني مشكلة المخدرات.
كتاب فيشر الجديد “الرغبة: تاريخنا في التعاطي” مُفصَّل ومدروس بدقة ويثرينا بالمعلومات من زاويتين، من زاوية المتعاطي كما وصف نفسه، وايضًا كاخصائي في طب الإدمان.
بعد سنوات من خروجه من إعادة التأهيل تم إجباره على التبول في كوب امام مراقب البول.
بينما يفكر فيشر في الوضع السريالي والمرعب بدأ يتسائل حول كيف هو او أي شخص آخر يصبح أفضل.
“كنت أعلم أنَّ نظام معالجة الإدمان سيء كوني جربته بالدرجة الاولى ولكن لماذا هذا ما كان محيرًا، لماذا كان هناك نظام منفصل تمامًا لمعالجة الإدمان؟ لماذا نعالج الإدمان بشكل مختلف عن أي مرض عقلي آخر؟”.
في النهاية تظهر الرغبة كأكثر من مذكرات إدمان
وصولنا في وقت أصبحت أزمة الأفيون حاسمة وتمثِّل كلًا من التاريخ الشخصي لشخص يصارع المواد المغيرة للدماغ، والجدل لإعادة صياغة فكرة الإدمان.
قال فيشر أنّه مرض قديم دمّر حياة ملايين لا تحصى ليس فقط ممن عانوا منه بل من يمسون حياتهم ايضًا.
إنّها قصة فكرة مشوشة معقدة وجدلية جداً استعصت عن التعريف لمئات السنين.
كما كتب فيشر: “من ضمن المفاهيم الخاطئة الاعتقاد المستمر بشكل غريب أنّ الإدمان بطريقة ما يمكن إصلاحه او القضاء عليه. الهدف الأساسي يجب ألا يكون النصر أو العلاج بل رفع الأذى ومساعدة الناس ليعيشوا مع المعاناة وما بعدها.”.
يزيد النص الرئيسي للكتاب عن 300 صفحة ويُكثِف الحكايا والتفاصيل في قصص قصيرة جذابة ومنسوجة بإحكام. في المقطع الأول يقدم فيشر أحد مرضاه وهي امرأة تقرر التوقف عن الشرب، ولكن لاحقاً تمرض من شرب مستخلص الفانيليا من متجر الزاوية، ثم يقدم لنا واحدة من اوائل المراجع في الإدمان “ريغ فيدا” وهي ترنيمة سنسكريتية عن مقامر يعاني للتوقف عن اللعب بعدها ينتقل لأوغسطين (من اوائل الفلاسفة المسيحيين) ثم يذكر رشفة مشروب الشعير الأولى السحرية للكاتب وأصل الإدمان.
فيشر يضع القراء في مشاهد عاطفية ملوحاً بلقطات من ذكرياته الشخصية حتى أنك سترغب بفتح النافذة لأخذ نفس نقي بينما يحكي تجربة تدخينه السلبي في سيارة والديه بينما يتجهون الى شاطئ جرسي.
هذا المشهد يلي رواية بليغة عن معاقبة مستخدمي التبغ الأوروبيين في اواخر القرن السادس عشر، وهذه من اوائل الامثلة عن الخوف من مكافحة التدخين التي ماكن لها نغمة رهاب الأجانب، وعمليًا لم يكن لها علاقة بالأذى الطبي الفعلي.
لكن على أيّة حال إخافة الناس لم توقف الإدمان لا بوقتها ولا الآن. يذكر فيشر أنّه في القرن السابع عشر وتحت حكم السلطان مراد الرابع لم توقف عقوبة الموت الجنود من تهريب الغليون داخل اكمامهم ليسترقوا بعض النفحات.
فيشر الآن اخصائي نفسي سريري ممارس، واستاذ في جامعة كولومبيا، ويعوِّل على عدد من المنح الدراسية السابقة.
هو لا يقابل الباحثين ولا ينبش في الأرشيف ليكشف عن بعض الماضي الضائع لكن في الحكايا بعض من اكثر القصص الشائعة التي تضمن المخدرات مثل توماس دي كوينسي (كاتب رومنسي، وهي ميزة مطلوبة في أي كتاب عن الأفيون)، كحوليين مجهولين، بينيامين راش (ضمن أول من وصف الإدمان بالمرض)، سينانون (جماعة شبه دينية قادت الإطار الاستغلالي لإعادة التأهيل من المخدرات)… يستخدم فيشر كلاً من الاساليب الواضحة والغامضة.
الكتابة منعشة لكن دون أن تكون عاصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بالكحول. مثلًا يصف سامسون أوكوم (الواعظ الموهيجاني) بأنّه سابق لعصره بكثير عندما ربط بين الكحول، واضطهاد الامريكيين الاصليين في القرن الثامن عشر.
الجمع بين الزهد والمساعدة المتبادلة وهي مبادئ سبقت برنامج AA (الكحوليين المجهولين)، ومجموعات الدعم بواسطة الأقران، وقد أكد العديد من القادة الامريكيين على فاعليتها في شفاء المجتمع.
النظر للماضي ساعد فيشر ايضًا لفهم تاريخه العائلي مع الإدمان. سابقًا كان مرغمًا على إعادة التأهيل، وأُجبر على حضور جلسات المراجعة لكن لاحقا اصبح يُقدِّر هذه المجموعات، ووصفها بأنها زمالة مشتركة ودعم من اشخاص يفهمون الإدمان لأنهم ايضا مروا به.
في بعض الأحيان قد يبدو كتاب “الرغبة” مهتماً جداً بالفروق الدقيقة.
يوضح لنا فيشر أنه تجنب لغة الإدانة مثل كلمات “مدمن” او “حشّاش” كما قام بمحو المصطلحات شائعة الاستخدام غير الطبية، والتي تضع تعاطي المخدرات الترويجي خارج السياق الطبي المنصوص عليه.
يناقش فيشر أن التعريف مضلل تاريخيًا لأن الاستخدام الفعال للسموم قد سبق الطب الحديث بوقت طويل.
عمومًا هذه النقاط الهامة تقوّي حجته الأساسية التي تنطلق من الإجماع المتزايد أنَّ الإدمان لا ينشأ من فشل اخلاقي وهو اكثر من مجرد مرض عقلي.
فيشر يعيد تعريف الإدمان بأنّه ليس مجرد مادة تقوم بفعلها في الدماغ.
كتب فيشر: “التعريفات الضيقة للإدمان كمرض أو ظاهرة بيولوجية منفصلة تفشل في جمع الجوانب المتعددة الابعاد له (مثلا الروحية والنفسية والاجتماعية).
الاستجابة العلاجية تفشل بمقاربة التعافي كعملية تغيير ايجابي مستمر وليس فقط غياب المرض. “.
يكمل نقاشه بأنَّ الأكثر أهمية، أنّ استخدام المخدر ليس مرادف للإدمان والتجريم ليس طريقة عقلانية لتقليل أذى المخدرات. في الواقع إنّه غالباً يقود بشكل رئيسي لهذه الاضرار.
الحجة مقنعة. رغم الحرب الفاشلة بشكل كارثي على المخدرات عملت الولايات المتحدة بشكل اساسي بأسلوب عقابي. لا يجب أن يكون بهذا الاسلوب: استخدام المخدرات لا يجب أن يكون مميت لهذه الدرجة.
بينما البعض يرى العلاج كخطوة في الاتجاه الصحيح يُجادل فيشر بأنّ النهج العلاجي يجب أن يأخذ التركيز بعيداً عن القوى القمعية للظلم العنصري والجماعي التي شكلت النظام العلاجي للناس من الإدمان.
ليس واضحاً تماما ماذا ستفيد إعادة الصياغة وإعادة التعريف للإدمان لكن فيشر يقول بأنه سيعطي الأولوية للآداب، والمناهج التي تميز تعاطي المخدرات والإدمان كحقائق في الحياة وتركز على ممارسات تقلل الأذى.
يمكن لتاريخ طويل لمصطلح وعقود مستمرة من الفكر المحظور وآخر الأبحاث أن تنهار جميعها إذا لم تكن مدعومة بتجربة فيشر. لن أقول الكثير عما حدث داخل منزله في الطابق الخامس في نيويورك بعد أن فحص نفسه للخروج من المستشفى للمرة الأولى بدون المشورة الطبية. لاحقاً أدرك فيشر أن عقوبته في ذلك الوقت لم تكن الاعتيادية: كسريري يرى فيشر كيف أنّ الاشخاص المدانين من قبل النظام القانوني الجزائي يحرمون من الادوية المنقذة للحياة، كما يعلم أنّه كان يمكن أن ينتهي به الأمر مرميًا في السجن، أو مقتولًا بالرصاص لو لم يكن رجلًا ابيض يعيش في حي راقي في مانهاتن.
في النهاية خط الرد السريع ليس إلزاميًا تمامًا ولا الأدوات العمليّة لتضييق الفجوة بين الاشخاص الذين يحتاجون المساعدة والاستجابة لهم أينما كانوا. وربما هذا افضل جزء في “الرغبة” ففيشر لا يدعي أنّه يملك حلًا للإدمان، بل بعيد تمامًا عن ذلك ففي كتابه نرى استجابة اعتيادية لمعاناة الإنسان ورغبته في التحرر.
هو صارم من دون أن يكون واعظًا. هو لا يشرب لكنّه يعلم أن التوقف عن الشرب ليس للجميع.
في أحد الأقسام يحكي لنا فيشر عن انغماسه في الأدبيات العلمية عن الإدمان رغم التحذيرات من الهيئات.
“المستشارون في مركز إعادة التأهيل حذروني بأنّه من الخطير جدًا التعمق في علم الإدمان لكن رغم ذلك شعرت بالانجذاب لمعرفة المزيد.
لقد أردت أن أرى كيف أن البحث يمكن أن يفيدني في فهم من انا، ومن قد أصبح. “.
إذا كان كتاب فيشر يحث على شيء فهذا الشيء هو ما تفتقر له المحاضرات عن المخدرات، إنه الفضول.
- ترجمة: ياسمين درويش
- تدقيق لغوي: سفوك حجي
- المصادر: 1