كيف يمكن إعادة إيقاظ سِمات النباتات الكامنة لإطلاق العنان للزراعة الخالية من الأسمدة

تعد النباتات من أكثر المستكشفين جرأة على وجه الأرض. فمنذ ما يقرب من 460 مليون سنة، بدأت النباتات الأولى بمغادرة البحيرات والأنهار وظهرت على اليابسة، حيث كان سطح الأرض بأغلبيتهِ عبارة عن صخور عارية في ذلك الوقت. وكان على هؤلاء الروّاد التغلب على تحدياتٍ غير عادية أثناء انتقالهم من أسلوب حياتهم المائي. إذ أَن المحاصيل التي تزرع اليوم لإطعام الإنسان تكافح للتكيفِ مع الظروف الحالية المتطرفة الجديدة التي تطرأ على المناخ. ولكن هناك طريقة لمساعدة هذه المحاصيل: هي إعادة إيقاظ قدرتهم القديمة على الصمود.

تحتاج جميع النباتات إلى 17 عنصرًا غذائيًا للبقاءِ على قيدِ الحياة. وأهمها النيتروجين والفوسفات والبوتاسيوم. لكن إِن كانت الكمّيات محدودة لأي من هذه العناصر؛ فإن ذلك من شأنه أَن يُعيق نمو النبات؛ لذلك، قام البَشّر منذُ آلاف السنين بزراعةِ المحاصيل الزراعية؛ لزيادة الإنتاج والتأكد من حصولِ النباتات على كمياتٍ كافية من العناصر الغذائية التي تحتاجها. وجمع الأسلاف البراز البَشّري ووزعهُ على التربةِ في الحقول؛ لتخصيبها. كما تقاتلوا على الأراضي المُغطاة بذرق الطيور (براز الطيور) الغني بالعناصر الغذائية. وفي الآونة الأخيرة، أنشأ البَشّر تجارة عالمية في الأسمدةِ النيتروجينية الاصطناعية، حيث تشابك التقدم في الحضارة الإنسانية مع استخدام المغذيات النباتية في الزراعة.

ربما عزَّزت هذه الممارسات التي قام بها الإنسان من إنتاج الغذاء، ولكنها جعلت المحاصيل تصبح كسولة.

علاقات قديمة

للبقاءِ على قيدِ الحياة على سطح الأرض؛ كان على النباتات أَن تتبنى حلولًّا تطورية بارعة. وإِحدى تلك الطُرق التي طورتها كانت إقامة علاقة تكافلية (مفيدة للطرفين) مع فطريات التربة المعروفة ب (الميكوريزا الشجرية) والتي عملت مثل الجذور البدائية؛ لمساعدة هذه النباتات الصغيرة على الوصول إلى العناصر الغذائية في التربة. وفي المقابل، تلَّقت تلك الفطريات الطاقة المطلوبة التي أَمَّنَتها النباتات من خلالِ عمليةِ التمثيل الضوئي.

لقد أَدَّت ممارسات الإنسان الزراعية إلى قمع هذهِ العلاقات التكافلية. وبدلًا من ذلك، نعتمد اليوم على الأسمدةِ الكيماوية لزراعة الأغذية. تلك الأسمدة هي المسؤولة عن انبعاثات الغازات الدفيئة والتلوث الزراعي والتي لا يستطيع المزارعون أصحاب الأراضي الصغيرة تحمّل تكاليفها إلى حدٍ كبير، خاصة أًنهم يزرعون ثلث الإمدادات الغذائية العالمية. مع ذلك -وبعيدًا عن كونها تاريخًا قديمًا- فإنهُ من المعتقد أَن هذه العلاقات الميكروبية التكافلية لا تزال ذات صلة بكيفية إنتاج الغذاء اليوم.

في نهايةِ المطاف، لقد طوَّرت النباتات جذورها منذ حوالي 350 إلى 400 مليون سنة، لكنها استمرت في الاستفادة من هذه العلاقة الفطرية للمساعدة في امتصاص العناصر الغذائية من الأرض والتربة. ثم، منذ حوالي 100 مليون سنة، طورت بعض النباتات -ما نعرفه الآن باسم عائلة البقوليات، بما في ذلك الفاصوليا والبازلاء والعدس- علاقة مع بكتيريا موجودة في التربة. تصيب هذه البكتيريا، التي تسمّى (ريزوبيا) جذور البقوليات وتستخدم إنزيمًا؛ لتحليل النيتروجين من الهواء إلى مادة يمكن للنبات الوصول إليها. ولا تزال النباتات البرّية تستخدم هذه الارتباطات البدائية؛ للحصول على هذه العناصر الغذائية المهمة.

إِن السِمات التي تحتاجها النباتات لتفعيل تلك العلاقات التكافلية، تكمن في الغالب إما في حالة سبات، وإما قليلة الاستغلال في أنظمة إنتاج الغذاء في العالم.

أبحاث واعدة

يعمل العلماء حاليًا على فهم كيفية تفاعل النباتات مع هذه الكائنات الحيّة الدقيقة في التربة؛ حتى يتم التمكن من إعادة تنشيطها. إذ يجب زيادة إنتاج الغذاء؛ لإطعام العدد المتزايد من سكان العالم. ومع ذلك، فهو غير مستدام في شكله الحالي، حيث يعتمد حوالي نصف سكان العالم على الأسمدة لإنتاج الغذاء. لقد أنتجت سلسلة توريد النيتروجين الاصطناعي وحدها ما يقدر بنحو 10% من انبعاثات الغازات الدفيئة الزراعية في عام 2018 وهي غالبًا ما تكون بعيدة عن متناول المزارعين أصحاب الأراضي الصغيرة في أفريقيا، والذين يعملون في بعض الأراضي الأكثر استنزافًا في العالم.

لقد أظهرت الأبحاث الحديثة في جينات النباتات شيء له آثار عميقة: إذ تمتلك محاصيل الحبوب نفس المسار الجيني القديم الذي تمتلكه البقوليات، والذي يسمح لها بالتفاعل مع البكتيريا المثبتة للنيتروجين. فعندما طورت البقوليات القدرة على الارتباط بالبكتيريا المثبتة للنيتروجين قبل 100 مليون سنة، استخدمت العديد من العمليات الموجودة بالفعل في بيولوجيتها؛ للتفاعل مع فطريات الميكوريزا الشجرية. أما الحبوب فقد فاتتها هذه الخدعة التطورية إذ انحرفت بالفعل -من الناحية التطورية- عن البقوليات. والخبر السّار هو أَن الأبحاث الأولية تُشير إلى أنهُ من الممكن نقل خصائص البقوليات الفريدة في تثبيت النيتروجين إلى محاصيل غذائية أُخرى.

على مدّى السنوات القليلة الماضية، زاد الباحثون من فهمنا لكيفية تفاعل النباتات مع الكائنات الحيّة الدقيقة المفيدة بشكلٍ كبير. إذ أصبح بالإمكان -على الأقل وفي المختبر- تشجيع محاصيل الحبوب على التفاعل بشكلٍ أكثر استباقية مع الفطريات المفيدة، وذلك ضمن ظروف تحاكي حقلًا عالي التخصيب، والبدء في إعادة تلخيص العمليات الضرورية التي نراها في البقوليات؛ لاستيعابِ البكتيريا المثبتة للنيتروجين. بمعنى آخر: يقوم الباحثون بإعادة تدريب النباتات؛ للبحثِ عن الكائنات الحيّة الدقيقة المفيدة.

تعتبر هذه الاكتشافات حيوية لتطوير الحبوب التي يمكنها تثبيت النيتروجين دون مساعدة الإنسان، والوصول إلى العناصر الغذائية الأساسية الأُخرى؛ من خلالِ التفاعل مع الفطريات. وبما أَننا نعلم الآن أَن جميع النباتات لديها الآلية الأساسية التي استخدمتها البقوليات فقط -حتى الآن- للسماحِ بالتفاعل مع البكتيريا المفيدة، أَصبح من الممكن جعل المحاصيل تتفاعل بشكلٍ أكثر استباقية وإنتاجية مع الفطريات والبكتيريا المفيدة. كما أَننا لسنا بحاجة للبدء من الصفر لهندسة الحبوب لتكون أكثر استقلالية. ومع ذلك، لن يكون الأمر سهلًا؛ فهناك العديد من العمليات المعقدة المرتبطة بنقلِ هذه القدرة على تثبيت النيتروجين إلى الحبوب، والتي تشمل تطوير الوظيفة للتعرف على البكتيريا المفيدة.

على الرغم من أَن الأبحاث لا تزال في مرحلة الاكتشاف المبكر، إلّا أَنها تشير إلى أنهُ قد يكون من الممكن زراعة المحاصيل دون استخدام كمياتٍ كبيرة من الأسمدةِ الكيماوية في المستقبل. وهذا من شأنهُ أَن يُفيد المزارعين أصحاب الأراضي الصغيرة في البلدان منخفضة الدخل والذين يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى الأسمدة، كما يمكن أَن يخفض وبشكلٍ كبير ومطلوب التلوث الزراعي وانبعاثات الغازات الدفيئة. بالإضافة إلى أَنها تُبشّر بإمكانية الحد من تأثيرِ الصدمات الناتجة عن نقص الأسمدة وارتفاع الأسعار.

على الرغم من أَن علاقات النباتات تحت الأرض مع الكائنات الحيّة الدقيقة غير مرئية إلى حد كبير، إلّا أَنها قد تحمل مفاتيح الإنجازات الكبرى في مستقبل الزراعة.

  • ترجمة: عبير ياسين
  • تدقيق علمي ولغوي: فاطمة قائد
  • المصادر: 1