الشمس السوداء: أسراب الزرازير المهاجرة

يستضيفُ متنزهُ بحرِ وادن الوطنيِّ The Wadden Sea National Park، في السّاحلِ الغربيِّ للدنمارك، أحد أشوق وأجمح عروضِ الطّيورِ البهلوانيّةِ الطّبيعيّةِ في العالم، وذلك في أواخرِ شهرِ أيلول وأوائل تشرينَ الأوّل، عندَ غروبِ شمسِ. حيث تحتشدُ أعدادٌ هائلةٌ من طيورِ الزّرزورِ المهاجرةِ لتؤدّيَ عروضًا متناسقةً كلاعبات الباليه، تعرَفُ -بشكلٍ مشؤومٍ- بظاهرةِ الشّمسِ السّوداء Sort Sol in Danish، إذ تُظلِمُ غيومٌ من أسرابِ طيورِ الزّرزورِ الهائلةِ المتغيّرةِ الشّكلِ السّماءَ وتحجبُ الشّمسَ مؤقّتًا.

الزّرازيرُ الأوروبيّةُ Sturnus vulgaris آكلاتٌ انتهازية ذاتِ قابليَّةٍ كبيرةٍ للتّكيُّفِ في المناخاتِ والمناطقِ المختلفةِ. على الرغم من ذلك فإن أعدادَها تناقصت بنسبة 60% في الدّنمارك منذُ عامِ 1976، بفعلِ التّغيُّراتِ الحاصلةِ في استخدامِ الأراضي.

لكنّك لن تتمكّنَ من ملاحظة هذا التّناقصِ في الأعدادِ حينَ تحتشدُ أسرابُها في متنزهِ بحرِ وادن، لأنها تصلَ إلى قرابة المليونِ من الطّيورِ السّوداءَ اللّماعةِ الصّغيرةِ، وتستعرض نحو خمسٍ وأربعينَ دقيقةً. ورغمَ أنّها تقومُ بالتجمّعِ في فصلِ الربيعِ أيضًا، فإن عرضها أقل عددًا وجمالًا. تعلل آن غودينوف Anne Goodenough، الأستاذة في علمِ البيئةِ التّطبيقيّ في جامعةِ غلاوسيس شتاير Gloucestershire، هذا بالقول إنَّ الانخفاضَ المفاجئ في درجةِ الحرارةِ يسبِّبُ هجرةً أشمل وأعجل لطيورِ الزّرزور. أما في الربيع فإن الهجرة أكثر تدريجية وتشتتًا، فلا يتجمع ذاك العدد من الطيور في أماكن الرحيل. لذا لا عجبَ أنْ هجرة الخريفِ [في بداية انخفاض الحرارة] من أشهر المَشاهدِ الطبيعيّةِ وأفتنها في الدنمارك، وتجذبُ ما قد يبلغ مائةِ ألفِ زائر، يشاهدون طيور الزرزور التي، بعدَ عدّةَ أيّامٍ من الرّقصِ، تغادرُ أهوارَ بحرِ وادن في سَرْبٍ ضخمٍ يتجه جنوبًا لقضاء الشّتاءِ.

حدث الشمس السوداء مذهل حجمًا وفعلًا؛ إنه يرسم لوحة بديعة في خريف بحر وادن، ويعرف أيضًا بالحفيف murmuration (نسبة لصوت الرفرفة المتناغمة لأجنحة الطيور). ويجدر الذكر أن هذه الظاهرة لا تقتصر على هذا المكان، بل تحدث في النصف الشمالي للكرة الأرضية، وحيث تحاولُ الطّيورُ الجارحةُ -كالعقبِان والصّقورِ- افتراسَ مجموعاتِ الزّرزورِ المهاجرةَ أو الباقية.

شكّلَ التّزامنُ الموحّدُ لهبوطِ واندفاعِ أسرابِ الزّرزورِ صدمةً جعلتْ عالمَ الأنثروبولوجيا الشهير إيدموند سيلوس Edmund Selous يفترضُ -في ثلاثينياتِ القرنِ الماضي- أنّ تلكَ العروضَ الغريبةَ للطيورِ ناتجةٌ عن التّخاطر. وعلى الرغمَ من فشلِ هذا الافتراضِ في جذبِ انتباهِ العلماءِ، بقيت الكثيرُ من المعلوماتِ عن حفيف الزرازير وحركةِ الأسرابِ عامّةً غامضةً حتَّى يومنا هذا. ومن المتفّقِ عليهِ عامّةً أنَّ ما تصنَعُهُ طيورُ الزّرزورِ من حفيف يمنحها فوائدَ للبقاءِ، ويهب لها أفضلية نجاة وتكاثر بالمفهوم الدّاروينيِّ. لكن ما تزالُ الأسبابُ والفوائدُ الدقيقة لذلك الحفيف محطَّ جدلٍ، وغيرَ مفهومةٍ كليًا حتى اليوم.

مع ذلك فإن من الخطأ القولُ إنَّ العلماءَ لم يحاولوا فكَّ شفرةِ تلكَ العروضِ الهوائيّةِ. ففي عامِ 1987، أنشأَ عالمُ الحاسوبِ كرايج رينولد Craig Reynolds محاكاةً تُضاهي رقصاتِ الطّيورِ تلك. وتعقّدت دراسةُ الطيّورِ أكثرَ مع تطوّرِ تقنيّاتِ الحاسوبِ، فتمكّنت مجموعةٌ من العلماءِ الإيطاليين عام 2008 من الّربطِ المباشرِ لنماذجٍ ثلاثيّةِ الأبعادِ لطيورٍ زرزورٍ فرديّةٍ مع سلوكِ مجموعةٍ مصوّرةٍ منها في أثناءَ قيامها بالحفيف. وفي عام 2015، تناولت تشارلوت هيمرلجيك Charlotte Hemelrijk، من مركزِ علمِ البيئةِ والدّراساتِ التطوّريةِ في هولندا، وبإسهابٍ نماذجَ حاسوبيّةً مبدئيّةً لفحصِ ذبذباتٍ معيّنةٍ في سلوكِ السّربِ.

ونظرًا لأنَ هواةَ العلمِ يمثّلون أداةً واعدةً للتّخطيطِ ومراقبةِ سلوكِ طيورِ الزّرزورِ، فقد تعاونت غودينوف منذ 2014 حتى 2016 مع زملائها الأكاديميين الآخرين في جامعةِ غلاوسيس شتاير والجمعية الملكية للعلوم، وساهموا في تطويعِ مراقبي طيورٍ من كلِّ أنحاءِ العالم، والذين سلّموا تقاريرًا من ثلاثٍ وعشرينَ دولةً غطّت ما يقاربُ ثلاثَة ألافِ حالةٍ من الحفيف. وساعدتِ البياناتُ النّاتجةُ على رسمِ صورةٍ عالميّةٍ أكثرِ تفصيلًا للظّروفِ المؤثّرةِ في سلوكِ السّربِ. وعلى نقيضِ الدّراساتِ الأكاديميّةِ السّابقةِ، التي غالبًا ما ركّزت على ميكانيكا الطّيورِ الحيويّة، فإنّ البياناتِ المتفرّقةَ الدّقيقةَ التي جمعها المتطوّعون أظهرت ثباتَ سلوكِ السّربِ عبر المناطقِ والبيئاتِ المختلفةِ. استخدمت غودينوف وزملاؤها بياناتِ المتطوّعين لإجراءِ اختباراتٍ عمليّةٍ لمعرفةِ السببِ الأرجح للحفيف، واستنتجوا أنّها آليّةَ دفاعٍية من المفترسات.

ما زالَ العلم ُحولَ سلوكِ أسرابِ الطّيورِ في تطوّرُ، لكن ليس على المرء فهمِ الدّاعي البيولوجيِّ ليعجب بمشهد الحفيف البديع المتشكّلِ في أماكنَ كبحرِ وادن.

يقدّمُ متنزهُ بحر وادن الوطنيِّ، وهو أحدُ مواقعِ منظّمةِ اليونيسكو للإرثِ العالميّ وأضخمُ هورٍ ساحليٍّ هادئٍ في العالَم، مأدبةً ممتدةٍ من الدّيدان والدعسوقاتِ الشهيّةِ للزّرزور حينَ يهاجرُ جنوبًا إلى أراضي التكاثرِ الصيفيّةِ في الدّولِ الاسكندنافيّةِ الشّماليّة. ومن الطّبيعيِّ أن تجذبَ هذهِ التّجمّعاتُ الضّخمةُ الطّيورَ المفترسةَ كالصّقورِ. وتجدُ أسرابُ الزرزورِ، كغيرها من المخلوقاتِ، القوّةَ في التّجمّعِ مع بعضها، ويُعرَفُ هذا بالتّأثيرِ المانعِ، إذ تتناقصُ فرصةُ استهدافِ طيرٍ بمفردهِ بشكلٍ كبير حين يجتمعُ مع غيرهِ فتشتّتُ الأعدادُ الضّخمةُ للأهدافِ المتبدّلةِ بسرعةٍ المفترسَ وتربكهُ.

هذا وتوجدُ فوائدُ أخرى لتجمّعِ الطّيورِ وفقَ ما أورَدَه ماريو بيسيندوريف Mario Pesendorfer الباحثُ المساعدُ في مركزِ سميثسونيان للطيورِ المهاجرةِ. يقولُ بيسيندوريف: «يقومُ الحفيف مقامَ كائن فائق الاستشعار. فإذا ما رُصِدَ مفترسٌ في أحد أطرافِ السّربِ، تناقلت الأعضاء في السّربِ تلكَ المعلومةَ بسرعةٍ مما يتيح للطائرِ المحلّقِ في الطّرفِ الآخر -والذي قد يكونُ على بعدِ عشراتِ الأمتارِ- التّصرّفِ على أساسِ تلكَ المعلومةِ».

تحدثُ ظاهرةُ الشّمسِ السّوداءِ حينَ تتضافرُ غيومُ الزّرازيرِ لتُنشِئَ أشكالًا انسيابيّةً معقّدةً تنقسمُ وتتحوّلُ وتعيدُ تشكيلَ نفسِها باستمرار. وممّا يثيرُ الاهتمامَ أنّ الطّيورَ لا تصدمُ بعضَها البعضَ أثناءَ تغييرها لحركاتها، فتبدو للنّاظرينَ إليها من الأسفل كمن يؤدّي رقصاتٍ بخطى حذرةٍ جميلةٍ.

يتناغمُ فنُّ أداءِ طيورِ الزّرزورِ بالفعلِ، لكنَّ ذلك لا يُعزى إلى التّخاطرِ كما افترضَ سيلوس قبلًا، بدلًا من ذلك يقلّدُ كلُّ طير زرزور سلوكَ جيرانَهُ السّتةَ أو السّبعة الأقربَ إليه.

تخفضُ طيورُ الزّرزورِ أجنحتَها ذاتِ شكلِ ˅ حينَ تشعرُ بخطرٍ محتملٍ ثمَّ تبدّلُ اتجاهاتها فجأةً كسربِ أسماكٍ يتقافزُ هنا وهناك.

وتؤدّي التغييراتُ المفاجئةُ التي يقومُ بها سربُ الطّيورِ لاتّجاهاتهِ والتبدّلاتُ في ميلِ أفرادِ طيورهِ إلى تشكّلِ فرقةٍ داكنةٍ تتمايلُ عبر الارتفاعاتِ المتتاليةِ لكتلةِ الزّرازيرِ الضّخمةِ، مضيفةً بذلك مشهدَ افتتاحٍ مدهشٍ لعرضٍ ساحرٍ. تقول غويدينوف إنه بالإضافة إلى الحجم الضخم لحفيف الشمس السوداء، ونظامها ومنظرها، هناك عامل مميز آخر لها، هو أن موضع الأفراد فيها في تقلب دائم.

بينما تنتجُ هكذا عروضٌ عن مجموعاتِ طيور تقضي الشِّتاءَ في مواقعٍ ثابتةٍ، تصلُ الطيورُ إلى بحرِ وادن وتغادرُ صانعةً عروضًا متنوّعةً لسلوكِ الطّيور. ومتعة هذه المناظر لا تقتصر على الدنماركيين، ذلكَ لأنَّ طيورَ الزّرزورِ موجودة في دول أخرى لا سيما الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكية. فقد جلبَ محبّو الطائرِ الفيكتوريِّ طيورَ الزّرزورِ الأوروبيّةِ إلى الولاياتِ المتّحدةِ عام 1897. ورغمَ أنّهم لم يقدّموا سوى مائةَ طائرٍ منها، فإن تلكَ الطّيورَ استطاعتِ التّفوّقَ على الطّيورِ الأصليّةِ في المنطقةِ حتّى أصبحَ عددها الحالي يقارب المائتي مليونِ طائرٍ في كلِّ أنحاءِ البلادَ.

يمكنُ عد المتنزهاتِ العامّةِ وملاجئَ الحياةِ البريّةِ (أو أيَّ بقعةٍ ذاتِ طعامٍ وفيرٍ) مكانًا ملائمًا لمشاهدةِ الحفيف. ومن أشهرِ الأمكنةِ التي يخصُّها مراقبو الطيورِ بالزّيارةِ، حديقةُ السنترال بارك في نيويورك -التي شهدت قبلًا أوّلَ إطلاقٍ لطيورِ الزّرزورِ في الولاياتِ المتّحدةِ- وملجأُ الحياةِ البريّةِ الوطنيِّ بوسكو ديل آباتشي في نيو ميكسيكو New Mexico’s Bosque del Apache National Wildlife Refuge.

ويتأخّرُ وقوعُ هذهِ الظّاهرةِ في الولاياتِ المتّحدة أكثر من الشّمالِ الأوروبيِّ مع هجرةِ الطّيورِ من آخرِ تشرينَ الثّاني (نوفمبر) حتّى أوائلِ كانون الأوّلِ (ديسيمبر)، ولصفاءِ الطّقسِ وهدوئه وبرودَتِهُ دورٌ في حجم الحفيف. إذ يُفتَرَضُ أنَّ الطّقسَ المنعشَ قد يقودُ الطّيورَ إلى التّجمّعِ مع بعضها لتتشاركَ الدّفءَ، فيما يمنعُها الطّقسُ الباردُ أو الماطرُ من ذلك بفعلِ الطّاقةِ الإضافية المطلوبة للمحافظة على شكلها.

يقترحُ بيسيندوريف أنَ لمشاهدةِ حفيف الطّيورِ شخصيًّا بالغُ الأثرِ فيمن يُشاهده: «يمكن أن تأسر المراقبةُ البصريّةُ والسّمعيّةُ للحفيف مشاعرِ الفرد… يتحدّى مستوى وقوّةُ الحفيف الحدودَ بينَ الفرد والمجموعةِ، وجعلني هذا أتأملُّ دوريَ على الأقلِّ في المجتمعِ الانسانيِّ».

  • ترجمة: ريما إبراهيم
  • المصادر: 1