من هو نرسيس (نرجس)؟

يُعتبر نرسيس (نرجس) واحد من أشهر الشخصيات في الأساطير اليونانية.

استمرَّ جماله عبر العصور، ويُشير اسمه إلى جنس النباتات من عائلة الأماريليس (amaryllis)، مثل النرجس والجونكيل.

تعكس شخصيَّته مصطلح (النرجسية) الذي يصفُ الشخص المهووس بذاته، وقصَّته تُعتبر مصدر إلهامٍ للعديد من الأعمال الفنية والأدبية الرائعة.

لنرسيس أصول عائلية متنوعة، يذكر الشاعر والمؤرخ اللاتيني «أوفيد-Ovid» في كتابه (التحولات) أنه ابن إله النهر سيمفيسوس (Cephissus) والحورية ليريوبي (Liriope).

ومن جهةٍ أخرى، ذكر الكاتب اليوناني «نونوس-Nonnos» من العصر اليوناني المتأخر، أنَّ والدة ناركيسوس هي آلهة القمر سيلين (Selene)، ووالده هو رفيقها البشري إنديميون (Endymion).

تستندُ النسخة اليونانية من قصة نرسيس بوضوحٍ إلى أسطورةٍ يونانيةٍ أقدم بكثير، ولا توجد أدلةٌ كافيةٌ على أصولها سوى أصل اسمه اليوناني ومكان ولادته في بويوتيا في وسط اليونان.

العقاب الإلهي

إنَّ النسخة الحيَّة والدراميَّة للشاعر والمؤرِّخ أوفيد لأسطورة نرسيس هي أكثرُ النسخ شهرةً واقتباسًا، إذ يُصوِّر أوفيد مصير الشاب الجميل نرسيس كما تنبَّأ به العرَّاف تيريسياس (Tiresias)، أنَّه سيعيشُ حياةً طويلةً ومثمرةً شريطة ألَّا يتعرَّف على نفسه.

تتحققُ هذه النبوءة وذلك بعد أن يرفض نرسيس الحورية إيكو (Echo)، فيواجه عقابًا إلهيًّا نتيجةً لذلك.

يحكي أوفيد عن كيفية اشمئزاز نرسيس من محاولات إيكو بالتقرُّب منه، والتأثير المدمِّر لذلك عليها. شعرت إيكو بالحزن الشديد بسبب الرفض القاسي من الشاب الوسيم، إلى أن بدأت بالتلاشي بشكلٍ تدريجيٍّ حتى لم يبقَ منها سوى صوتها، ومنذ ذلك الحين يمكنها فقط تكرار الكلمات القليلة الأخيرة التي يقولها الأخرون.

والحورية إيكو هي واحدةٌ من المعجبين المحبطين، ومن بينهم شابٌ كان يصلِّي بأن ينزل العقاب الإلهي على نرسيس بسبب غطرسته، ومن المؤسف لنرسيس أن تلبِّي آلهة الانتقام رامنوسيا (Rhamnusia) هذا الدعاء بسرورٍ، وتتحقق نبوءة العرَّاف تيريسياس.

في يومٍ من الأيام أثناء قيامه بالصيد وشعوره بالعطش، انحنى نرسيس ليشرب من بركة ماءٍ، وفجأة حدَّقَ في انعكاس وجهه في الماء، وانجذبَ إلى الشخص الجميل الذي ينظر إليه من سطح الماء، ولكن تم رفضه من قبل هذا الشخص الذي يرغب به، حيث أنه يختفي باستمرار في كل مرة يحاول فيها الوصول إليه.

وقع في حب شخصٍ لن يبادله أبدًا هذا الشعور نفسه، وكما حدث لإيكو فقد بدأ بالتلاشي تدريجيًا.

قصة عظيمة

قصة نرسيس هي قصةٌ عظيمةٌ علَّمت اليونانيين والرومان عن قوة الآلهة القاسية والمُطلقة في حياتهم، والعدالة الصارمة التي يفرضونها على البشر، كما تُجسِّد اعتقادًا معروفًا حول الشكوك المحيطة بالأشخاص الجميلين.

كان الناس في العصور القديمة حذرين للغاية عندما يتعلَّق الأمر بالمخاطر المحتملة المرتبطة بالجمال، إذ كانوا يعتقدون أنَّ الجمال من الممكن أن يُثير الغيرة من الآلهة والبشر على حدٍّ سواء، ويُخفي الشرور وراء الأوجه الساحرة.

تدورُ قصة نرسيس حول فكرة أن الجمال لديه القدرة على الإيذاء والجرح، وتعبِّر عن المخاوف القديمة بأنَّ الوجه الجميل لا يتناسبُ مع القلب الطيب.

مثلما هو الحال مع العديد من القصص الموجودة في كتاب (التحولات)، فإنّ أسطورة نرسيس هي واحدة من التحولات، وبينما تُعِدُّ حوريات المياه والأشجار المحرقة تحضيرًا للجنازة، لم يتم العثور على جثة نرسيس، وبدلًا من ذلك تظهر زهرةٌ بأوراقٍ بيضاء تُحيط بنواةٍ صفراء، وتُعرف باسم (النرجس).

ألهمت قصة نرسيس، مثل العديد من مؤلفات أوفيد للأساطير الملهمة والمؤثرة، العديد من الفنانين والشعراء بالإضافة إلى المُحللِّين النفسيين.

نشر العالِم الفرنسي النمساوي «أوتو رانك- Otto Rank» في عام 1911 ورقة تحليلية بعنوان (مساهمة في النرجسية)، وتبعه «سيغموند فرويد-Sigmund Freud» في عام 1914 بمقال بعنوان (عن النرجسية: مقدمة).

ركَّز رانك على الغرور والتكبُّر كجانبٍ من جوانب النرجسية، وربط فرويد النرجسية بالنظريَّات الشهوانية (libidinal theories) حول الرغبات الجنسية الغريزية، وأشار إلى أنَّ النرجسية ليست بالضرورة حالة غير طبيعية للإنسان ولكنها تتأثَّر بمدى توجُّه الرغبة الجنسية (نحو الذات) أو الخارج (نحو الآخرين).

ويتم حاليًا فهم (اضطراب الشخصية النرجسية) على أنها تتصف بالاهتمام الشديد بالذات، ممتدَّة إلى تضخيم الشعور بالذات ونقص التعاطف تجاه الآخرين.

أما بالنسبة للفنانين والشعراء، فيفضِّلون تصوُّر قصة نرسيس بطريقةٍ مبسطةٍ ويركِّزون على اللحظة الحاسمة عندما يصبح مهووسًا بتأمُّل صورته، تاركين التفسيرات للمُشاهد.

عبر التاريخ، بدءًا من العصور القديمة وصولًا إلى الحاضر، استطاع الفنانون من رسَّامي الجدران البومبيين في القرن الأول الميلادي إلى كارافاجيو (1571- 1610) وجون ويليام واترهاوس (1849- 1917) أن يقدّموا تصويرًا للنتائج المأساوية المتجذِّرة في هوسِهِ بتأمُّل انعكاس صورته الذاتية.

في عالمنا الحالي، تُعتبر هذه الأسطورة تحذيرًا كبيرًا بالمخاطر المحتملة بالهوس بالتقاط (السيلفي) وظاهرة الترويج الذاتي في وسائل التواصل الإجتماعي.

  • ترجمة: لمى القوتلي
  • تدقيق علمي ولغوي: خلود يوسف
  • المصادر: 1