كيف يقرّر الدماغ ما يجب تذكّره؟

تعمل الموجات الكهربائية في الدماغ أثناء الراحة على تحديد الذكريات للتخزين، وتضفي مصداقية على النصائح حول أهمية الراحة.

بدأ جيورجي بوزاكي في التلاعب بالموجات لأول مرة عندما كان في المدرسة الثانوية. في منزل طفولته في المجر، بنى جهاز استقبال لاسلكي، وضبطه على تردّدات كهرومغناطيسية مختلفة، واستخدم جهاز إرسال لاسلكي للدردشة مع الغرباء من جزر فارو إلى الأردن.

إنه يتذكّر بعض هذه المحادثات من أيام “راديو هام” أفضل من غيرها، تمامًا كما تتذكّر فقط بعضًا من تجارب ماضيك. والآن، بصفته أستاذًا لعلم الأعصاب في جامعة نيويورك، انتقل بوزاكي من موجات الراديو إلى موجات الدماغ ليسأل: كيف يقرّر الدماغ ما يجب تذكّره؟

من خلال دراسة الأنماط الكهربائية في الدماغ، يسعى بوزاكي إلى فهم كيف تتمثّل تجاربنا وتُحفظ كذكريات. أشارت دراسات جديدة من مختبره وآخرين إلى أن الدماغ يختار التجارب التي تستحق التذكّر من خلال إرسال موجات دماغية مفاجئة وقوية عالية التردّد بشكل متكرّر. قال وانان يانغ، وهو طالب دكتوراه في مختبر بوزاكي، والذي قاد دراسة العمل الجديد الذي نُشر في مجلة Science في شهر آذار/مارس، إن هذه الموجات، المعروفة باسم “التموجات الموجية الحادة”، والتي تنشأ عن طريق تنشيط عدة آلاف من الخلايا العصبية في غضون أجزاء من الثانية مع بعضها البعض، «تشبه عرضًا للألعاب النارية في الدماغ». وهي تنشط عندما يكون دماغ الثدييات في حالة راحة، سواءً أثناء الاستراحة بين المهام أو أثناء النوم.

ومن المعروف بالفعل أن هذه التموجات الموجية الحادة لها دور في تعزيز الذكريات أو تخزينها. كما تُظهر الدراسة الجديدة أنها تشارك في اختيار هذه الموجات، مما يشير إلى أهميتها طوال عملية تكوين الذاكرة طويلة المدى.

بالإضافة إلى أنه يوفر أسبابًا عصبية تُفسّر لماذا الراحة والنوم مهمين للاحتفاظ بالمعلومات. إذ يبدو أن الدماغ يدير برامج مختلفة عند الراحة والاستيقاظ: فإذا كنت تنام طوال الوقت، لن تتمكن من تكوين ذكريات. كذلك إذا كنت مستيقظًا طوال الوقت، لن تقوم بتكوينها أيضًا. قال بوزاكي: «إذا شغّلت خوارزمية واحدة فقط، فلن تتعلم أي شيء أبدًا. يجب أن يكون لديك فترات متقطعة من الراحة والاستيقاظ».

خلال تلك الفترات المتقطعة تنطلق عندها الألعاب النارية.

تمارين الدماغ التدريبية

لن ينسى بوزاكي أبدًا المرة الأولى التي سمع فيها تموجًا موجيًا حادًا. كان ذلك في عام 1981، وكان آنذاك باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة ويسترن أونتاريو، يستمع إلى نشاط الدماغ لقوارض مخدّرة من خلال مكبر الصوت. وبعد حوالي تسع سنوات من البحث، أصبح معتادًا على الذبذبات الإيقاعية واللحنية التي بدت عندما كانت الحيوانات مستيقظةً تستكشف بيئاتها. ولكنه لم يكن مستعدًا لسماع الصوت المفاجئ (Bong) الذي انطلق عبر مكبر الصوت عندما كانت القوارض نائمة.

بالنسبة لبوزاكي، كان الصوت عميقًا مثل النغمة الدرامية في السيمفونية الخامسة لبيتهوفن. لقد غنّى “دا دا دا دااااا” وهو يتذكّر صدمته. ثم bong أخرى: “دا دا دا دااااا”.

ما الذى حدث؟ لقد ولّدت أدمغة القوارض المستيقظة نشاطًا كهربائيًا يتأرجح بمعدل ثابت. ولكن عندما خُدّرت، بدا أن أدمغتها تُطلق أنماطًا أسرع بكثير بشكل غير منتظم.

لاحظ باحثون آخرون تلك الموجات السريعة أيضًا. فقد وصف كورنيليوس فاندرولف، مستشار بوزاكي لما بعد الدكتوراه، تلك الأنماط غير المنتظمة في عام 1969، كما صاغ عالم الأعصاب الحائز على جائزة نوبل جون أوكيف مصطلح “التموجات” لوصفها في السبعينيات. ولكن بوزاكي لم يصبح مهووسًا بها إلا بعد أن سمعها بنفسه.

وخلال العقد التالي، أمضى بوزاكي الكثير من وقته في المختبر في محاولة لتوصيف هذه الانفجارات الكهربائية. وفي أواخر الثمانينات، اكتشف الباحثون أنهم يستطيعون حثّ الخلايا العصبية على إنشاء ترابطات أقوى، مرتبطة بالتعلم والذاكرة، وذلك عن طريق تحفيزها بشكل مصطنع لإطلاق نبضات سريعة. بالنسبة لبوزاكي، بدت أن هذه التدفقات تشبه إلى حد كبير تلك التموجات. ثم في عام 1989، افترض لأول مرة أن التموجات الموجية الحادة قد تكون جزءًا من آلية الدماغ لتشكيل وتعزيز الذكريات.

قال مايكل زوغارو، عالم الأعصاب في كوليج دو فرانس، والذي عمل كباحث ما بعد الدكتوراه في مختبر بوزاكي عام 2002: «كانت لديه فكرة أن هذا لم يكن نشاطًا صاخبًا، ولكنه كان ذا صلة بالدماغ. وكان ذلك بمثابة توقّع عظيم للاكتشافات المستقبلية لأنه في ذلك الوقت القليل جدًا كان معروفًا».

في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، استفاد الباحثون من قوة الحوسبة المحسّنة والأدوات الجديدة التي يمكنها تسجيل النشاط الكهربائي من أكثر من 100 خلية عصبية في وقت واحد لتوصيف تموجات الموجات الحادة بشكل أفضل. لقد اكتشف بوزاكي وعلماء آخرون من تجربة الحيوان أن التموجات تبدو كأنها تعيد تشغيل نشاط الدماغ، مثل الركض عبر متاهة، إلا أن التموجات المُعادة تتأرجح بمعدل 10 إلى 20 مرة أسرع من الإشارات الأصلية. وقال هيرواكي نوريموتو، أستاذ علم الأعصاب في جامعة ناغويا في اليابان، إن إحدى الدراسات العلمية التي نُشرت عام 2002، والتي “جعلت التموجات الموجية الحادة مشهورة جدًا”، وجدت أن تلك التموجات تعيد تنشيط سلسلة من النشاط العصبي.

لقد أظهرت دراستان علميتان نُشرتا في عامي 2009 و2010، وكانت إحداهما بقيادة زوجارو، أن التموجات الموجية الحادة كان لها دور في تعزيز الذكريات لتدوم على المدى الطويل. إذ كان أداء الفئران أسوأ في مهام الذاكرة عندما كبت الباحثون التموجات أو عطّلوها. وقال زوغارو: «عندما تقوم بتدمير تلك التموجات، فإن الحيوان لن يتذكر مرةً أخرى». كما أظهرت دراسات لاحقة أن إطالة أو خلق المزيد من التموجات يحسّن ذاكرة الفئران.

لقد أصبح من الواضح أن هذه التموجات كانت تُكرّر نفسها باستمرار لترسيخ الذاكرة. تقول ليلى دافاتشي، أستاذة علم النفس في جامعة كولومبيا: «إن الدماغ يتدرّب. حتى في لحظات الراحة اليقظة هذه، يستمر الدماغ في التدرّب على الماضي وإعادة تشغيله».

قال دانييل بيندور، عالم الأعصاب في جامعة كوليدج لندن: «تخيّل أن تجربة ما وكأنها لحن يُعزف على البيانو». إذ ينطلق تسلسل محدّد من الخلايا العصبية لتسجيل تجربة ما، تمامًا كما ينقر عازف البيانو على تسلسل محدد من المفاتيح. وبعد ذلك، وأثناء النوم، يُعيد الحصين تشغيل هذا التسلسل، ولكن بشكل أسرع ربما مئات أو آلاف المرات. ثم تنتشر التموجات الموجية الحادة المحمومة من منطقة الحصين، وهي محطة في الدماغ ل “الذكريات العرضية” لتجارب معينة، نحو القشرة الدماغية، التي تشارك في تخزين الذاكرة طويلة المدى.

ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يفسّر سبب انتشار هذه التموجات عندما يكون الحيوان مستيقظًا ويستريح. يتذكّر بندور مفكّرًا: «[إنها] يجب أن تخدم غرضًا آخر». كان لدى العلماء العديد من الأفكار. فقد اقترح البعض أن تموجات الاستيقاظ تساعد في التخطيط أو اتخاذ القرار. واقترح آخرون أنها تُعدّل أو تُعيد تخصيص الذكريات بطريقة ما.

هناك فكرة أخرى، اقترحتها مجموعات عدة، وهي ما إذا كان إعادة تكرار التموجات أثناء استيقاظ الحيوان وأثناء نومه مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، وأنها يمكن أن تكون الآلية التي يختار بها الدماغ التجارب التي يجب تذكّرها.

تجارب الذاكرة

في جامعة نيويورك، وُضعت صناديق من الفئران أثناء الراحة والنوم في غرفة مضاءة بالأشعة تحت الحمراء. وفي الغرفة المجاورة كانت هناك متاهات مصنوعة يدويًا من البلاستيك والشريط اللاصق. ثم وُضعت الفئران واحدًا تلو الآخر في تلك المتاهات. ركضت الفئران في المتاهات مرتديةً أقطابًا كهربائية تسجّل نشاط حوالي 500 خلية عصبية في الحصين، وتعلّمت أن بعض الطرق ستكسبها مكافأةً من الماء. وأثناء استكشافها للمتاهة، أخذت الفئران فترات قصيرة للراحة أو العناية بنفسها. وبعد انتهاء محاولاتها، أُعيدت إلى قفصها المنزلي لتأخذ قيلولة بعد الظهر. بينما واصل الباحثون تسجيل نشاط الدماغ أثناء نومها.

حلّلت يانغ البيانات من خلال رسم خرائط للخلايا العصبية التي أُطلقت خلال التجارب المختلفة. وقد لاحظت الكثير من الاختلافات، إذ حُفّزت بعض الخلايا العصبية خلال التجارب المبكرة، والبعض الآخر حُفّزت خلال تجارب لاحقة. في بعض الأحيان تنشّطت الخلايا العصبية بمعدلات مختلفة. لقد أخبرها كل ذلك أن الدماغ سجّل تجارب الحيوان الفردية بشكل مختلف. ومن الجدير بالذكر أن بعض التجارب أعقبتها دفقات من التموجات الحادة، في حين لم يحدث ذلك في تجارب أخرى.

ثم قارنت نشاط الدماغ المسجّل أثناء تجارب الفئران في المتاهة مع التموجات ذات الصلة التي ظهرت لاحقًا. إن التجارب التي تكرّرت أثناء راحة الفئران كانت نفسها التي تكرّرت أثناء نومها. كما أن التجارب التي لم تتكرّر عندما كانت الفئران مستيقظة، لم تتكرّر أثناء نومها.

خلص الفريق إلى أن تموجات الراحة قد تكون الآلية التي يعطي الدماغ من خلالها الأولوية للتجارب التي يجب تذكّرها. قالت يانغ: «ربما تكون التموجات اليقظة هي علامات الذاكرة تلك» التي تعمل على دمج تجارب معينة للتخزين على المدى الطويل. «وعلى العكس من ذلك، فإن تلك التي لم يوضع علامة عليها لا تتكرّر أثناء النوم، وستُنسى».

قال زوغارو: «يجب أن يكون هناك نوع من الفرز لتذكّر ما هو ذو صلة ونسيان الباقي. إن فهم كيفية اختيار ذكريات محدّدة للتخزين لا يزال غير متاح… أما الآن، فلدينا فكرة جيدة عن ذلك».

في كانون الأول/ديسمبر 2023، نشر فريق بقيادة بيندور في جامعة كوليدج لندن نتائج دراسة ذات صلة في مجلةNature Communications، توقّعت نتائج يانج وبوزاكي. كما وجدوا أن التموجات الموجية الحادة التي تنطلق عندما تكون الجرذان مستيقظة ونائمة يبدو أنها هي التي تحدّد تجارب الذاكرة. ومع ذلك، فقد توصّل تحليلهم إلى متوسط ​​عدد من التجارب المختلفة معًا، وهو نهج أقل دقة مما أنجزه يانج وبوزاكي.

لقد كان الابتكار الرئيسي لفريق جامعة نيويورك هو إدخال عنصر الوقت، الذي يميّز الذكريات المتشابهة عن بعضها البعض، في تحليلهم. إذ كانت الفئران تجري في أنماط المتاهة نفسها، ومع ذلك تمكّن هؤلاء الباحثون من التمييز بين مجموعات التجارب على مستوى الخلايا العصبية، وهو قرار لم يتوصّل إليه أحد من قبل.

قالت لورين فرانك، عالمة الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، والتي لم تشارك في الدراسة، إن أنماط الدماغ تشير إلى «شيء أقرب قليلًا إلى حدث ما، وأقل شبهًا بالمعرفة العامة. يبدو لي أن هذا الاكتشاف مثير للاهتمام حقًا».

كما قالت فريجا أولافسدوتير، عالمة الأعصاب في جامعة رادبود، والتي لم تشارك في هذا العمل: «إن أنماط الدماغ هذه تُظهر أن الدماغ ربما يُنشئ نوعًا من التشفير الزمني للتمييز بين الذكريات المختلفة التي تحدث في المكان نفسه».

وأشاد شانتانو جادهاف، عالم الأعصاب بجامعة برانديز، بالدراسة. وأضاف: «تعدّ هذه بداية جيدة». ومع ذلك، فهو يأمل أن يرى تجربة متابعة تتضمن اختبارًا سلوكيًا. إن إثبات أن الحيوان قد نسي أو تذكّر أحداثًا تجريبية معيّنة سيكون «الدليل الحقيقي على أن هذه آلية لوضع العلامات».

لكن البحث يترك سؤالًا ملحًّا دون إجابة: لماذا تُختار تجربة واحدة على أخرى؟ إذ تقترح الدراسة الجديدة كيف يضع الدماغ علامة على تجربة معيّنة يجب تذكّرها. لكنها لا تستطيع أن تخبرنا كيف يقرّر الدماغ ما يستحق التذكّر.

إن الأشياء التي نتذكّرها تبدو في بعض الأحيان عشوائية أو غير ذات صلة، وبالتأكيد مختلفة عما نختاره إذا أُتيح لنا الاختيار. قال فرانك: «هناك شعور بأن الدماغ يحدّد الأولويات على أساس الأهمية». واقترح أنه نظرًا لأن الدراسات تشير إلى أننا نميل إلى تذكّر التجارب العاطفية أو الجديدة بشكل أفضل، فمن المحتمل أن التقلّبات الداخلية في الإثارة أو مستويات المعدِّلات العصبية، مثل الدوبامين أو الأدرينالين والمواد الكيميائية الأخرى التي تؤثّر على الخلايا العصبية، تؤدّي في نهاية المطاف إلى اختيار هذه التجارب أو تلك.

لقد ردّد جادهاف هذه الفكرة قائلًا: «إن الحالة الداخلية للكائن الحي يمكن أن تؤدّي إلى تحيّز التجارب لتُشفّر وتُخزّن بشكل أكثر فعالية». وأضاف أنه من غير المعروف ما الذي يجعل تجربةً واحدةً أكثر عرضةً للتخزين من غيرها. وفي دراسة يانج وبوزاكي، ليس من الواضح لماذا يتذكّر الفأر تجربة واحدة بشكل أفضل من الأخرى.

يظل بوزاكي ملتزمًا باستكشاف الأدوار التي تلعبها التموجات الحادة في الحصين، على الرغم من اهتمامه وفريقه أيضًا بالتطبيقات المحتملة التي قد تنشأ من هذه الملاحظات. وقال إنه من الممكن، على سبيل المثال، أن يتمكن العلماء من تعطيل التموجات كجزء من علاج حالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة، إذ يتذكّر الناس تجارب معينة بشكل واضح للغاية. «إن الغاية الأساسية هنا هي محو الأمواج الحادة ونسيان ما مررت به».

لكن في الوقت الحالي، سيستمر بوزاكي في الاستماع إلى هذه الموجات الدماغية القوية ليكشف المزيد عن سبب تذكّرنا لما نفعله.

  • ترجمة: عبير ياسين
  • تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
  • المصادر: 1