![](https://mscience.co/wp-content/uploads/2025/02/gerhard-weber-and-martin-steskal-holding-the-skull-meta-1200x450.jpg)
الكشف أخيرًا عن هويّة الجمجمة الّتي كان يُعتقد أنّها تعود لأخت كليوباترا
كان الباحثون منذ أواخر خمسينيّات القرن العشرين مقتنعين بأنّ الجمجمة تعود إلى آرسينوي الرّابعة، أخت كليوباترا، لكن يبدو أنّهم كانوا مخطئين؛ فقد توصّل فريق بحثيّ متعدّد التّخصّصات إلى أنّ الجمجمة في الواقع تعود إلى صبيّ صغير!
أظهرت الأبحاث أنّ هذا الطّفل كان يبلغ من العمر ما بين 11 و14 عامًا عند وفاته، وربّما كان يعاني من اضطرابات مرضيّة أثّرت على نموّه. وبينما تُسلّط هذه الدّراسة الضّوء على هويّة الشّخص الّذي كان مجهولًا، فهي تترك لغزاً لايزال دون إجابة: أين تقع رُفات آرسينوي؟
بدأت القصّة في عام 1929 عندما اكتشف عالم الآثار النّمساويّ جوزيف كِيل وفريقه تابوتًا مغمورًا بالماء في أنقاض مبنى يُدعى «المُثمَّن (الأوكتاغون) – Octagon»، وهو مبنى مُذهل في مدينة أفسس الأثريّة، الواقعة حاليًا في تركيا.
عُثر داخل التّابوت على هيكل عظميّ كامل، لكن دون وجود مقتنيات جنائزيّة معه. وقبل إعادة إغلاق القبر، انتزع كِيل الجمجمة وأخذها معه إلى ألمانيا لتحليلها، حيث خلص إلى أنّ القبر يعود إلى شخصيّة “مُهمّة للغاية” وأنّ العظام هي لامرأة في العشرين من عمرها.
من الطّرائف المدهشة والتي تُظهر كيف تغيّرت أساليب العمل الأثري في أقلّ من مئة عام، هي أنّ كِيل نقلَ الجمجمة في حقيبة سفره بين أمتعته حين أُعطيَ موعداً في جامعة فيينا لتحليلها.
عام 1953، نشر كيل دراسته الّتي تضمّنت صورًا وقياسات للجمجمة، وافترض أنّها تعود لامرأة تنتمي لطبقة أرستقراطيّة مميّزة. كما اعتقد أنّ القبر هو «هيرون – Heroon»، وهو مزار مُخصّص لشخصيّة بطوليّة وفقًا للثّقافة اليونانيّة والرّومانيّة القديمة.
وبعد عقود من الزّمن، في عام 1982، كشفت تنقيبات أخرى في الموقع عن الهيكل العظميّ الكامل مُجدّدًا، لكن هذه المرّة كان مدفونًا في غرفة ملحقة بالمقبرة بدلًا من التّابوت. لاحقًا، في 1990، بدأ الباحثون في التّكهُّن حول هويّة هذا الفرد، ممّا دفع العديدين إلى القول بأنّ هذه الرّفات قد تعود إلى آرسينوي الرّابعة، مُستندين إلى عدّة نقاط:
– أوّلًا، وجود أوجه تشابه معماريّة بين المُثمَّن (الأوكتاغون) ونموذج منارة الإسكندريّة في مصر.
– ثانيًا، حقيقة أنّ آرسينوي قُتلت في أفسس في حوالي عام 41 قبل الميلاد بناءً على أوامر مارك أنطوني، عشيق كليوباترا.
ومنذ ذلك الحين نُشِرَت دراسات وتقارير عديدة تروِّج لهذه الشّائعة. لكن، هل كانت هذه الفرضيّة صحيحة؟
حسنًا، الإجابة: لا، فقد أجرى قسم علم الإنسان التّطوّريّ في جامعة فيينا دراسة حديثة باستخدام أحدث الأساليب العلميّة، ليُثبت عكس ذلك.
استعانت الدّراسة لفحص الجمجمة بفريق من علماء الوراثة، وخبراء التّأريخ الكربونيّ، وأطبّاء الأسنان، وعلماء الآثار من الأكاديميّة النّمساويّة للعلوم.
قاموا أوّلًا بتطبيق تقنية التّصوير المقطعيّ المُحوسَب الدّقيق (Micro-CT) وهي تقنيّة تصوير ثلاثيّة الأبعاد تتيح إنشاء نموذج ثلاثيّ الأبعاد للجمجمة باستخدام الأشعة السّينيّة، شريحة تلو الأخرى، من أجل إنشاء نسخة رقميّة عالية الدّقّة.
ثمّ أخذ الفريق عيّنات صغيرة من قاعدة الجمجمة ومن الأذن الدّاخليّة لتحليل العمر والحالة الوراثيّة لصاحبها.
تمّت مقارنة البيانات الّتي جُمِعت من تقييمات مطياف الكتلة الخاصّة بالبحث بأحدث منحنيات تأريخ الكربون، فأظهرت تحليلات الكربون المُشعّ أنّ الجمجمة تعود إلى الفترة ما بين 36 و205 قبل الميلاد، وهي الفترة الّتي توفّيت فيها آرسينوي بالفعل. كما أكّدت المقارنات الجينيّة بين الجمجمة وبقيّة العظام التي اكتُشفت في الثّمانينيّات أنّها تعود لنفس الشّخص، ممّا دعم نظريّة كيل الأصليّة.
لكنّ النّتائج أخذت منحى مفاجئًا؛ ففي بيان، أوضح النّمساويّ جيرهارد ويبر، باحث علم الإنسان القديم والمؤلّف الرّئيسي للدّراسة الجديدة، أنّه “خلال الاختبارات المتكرّرة أظهرت الجمجمة وعظم الفخذ بوضوح وجود كروموسوم Y، وهو ما يعني بعبارةٍ أخرى، أنّ الرّفات تعود لذكر” وليس لأنثى كما كان يُعتقد سابقًا.
أظهرت التّحليلات المورفولوجيّة للجمجمة، إلى جانب بيانات التّصوير المقطعيّ، أنّ هذا الصّبيّ كان لا يزال في سنّ البلوغ عندما توفي. تأكّدَ هذا الاكتشاف عبر صور عالية الدّقّة لجذور الأسنان في الجمجمة، وحقيقة أنّ قاعدة الجمجمة كانت لا تزال في مرحلة النّموّ وقت الوفاة.
إضافًة إلى ذلك، خلص الفريق إلى أنّ الصّبيّ ربّما كان يعاني مشاكل نموّ مرضيّة. على سبيل المثال، كان أحد المفاصل اللّيفيّة الّتي تربط عظام الجمجمة كان قد التحم قبل الأوان، وهو أمر لا يحدث عادةً قبل سنّ الخامسة والسّتّين؛ وقد أدّى هذا إلى منح الجمجمة شكلًا غير متناظر على الإطلاق.
كما كان الفكّ العلويّ للصّبيّ غير مكتمل النّموّ، ما جعله مائلًا إلى الأسفل، ومن المرجّح أنّ ذلك سبّب له صعوبات كبيرة في مضغ الطّعام. وأكّدت بيانات الأسنان ذلك، إذ أظهرت أنّ أوّل سنّ دائم، والّذي يُفترض أن يكون قد استخدِم لفترة طويلة، لم تظهر عليه أيّ علامات تآكل. في المقابل، أظهر الضّرس الأوّل، والّذي يظهر عادة بعد عدّة سنوات لدى البالغين، علامات استخدام واضحة مع شقوق ربّما تكون ناجمة عن التّحميل الزّائد.
لا يزال السّبب وراء اضطراب نموّ الصّبيّ مجهولًا، قد يكون ناجمًا عن نقص فيتامين (د) أو ربّما متلازمة وراثيّة مثل متلازمة “تريشر كولينز”، الّتي تُسبّب مظهرًا مشابهًا للصّبيّ.
وبينما قدّمت هذه الدّراسة هويّة جديدة لصاحب القبر، فإنّها تركت العديد من الأسئلة الأخرى بلا إجابة، لماذا استُخدمت عناصر معماريّة مستوحاة من الطّراز المصريّ المميّز في بناء “الأوكتاغون” ؟ وأين يُمكن أن تكون رفات آرسينوي الحقيقيّة؟ هذه الدّراسة، فتحت الباب أمام المزيد من الأبحاث حول موقع دفن آرسينوي، ووضعت حدًا للشّائعة الّتي ربطت بينها وبين هذا الموقع.
- ترجمة: نِهال عامر حلبي
- المصادر: 1