
كارل ساجان: حامل شعلة العلم في ظلام الجهل
يعرف معظم الناس كارل ساجان من خلال مسلسل «كوزموس» التلفزيوني عام 1980، الذي شاهده مئات الملايين حول العالم، وكان مضيفًا ومشاركًا في تأليفه. وقرأ آخرون روايته الخيالية الأكثر مبيعًا «الاتصال»، أو كتابه غير الروائي الحائز على جائزة بوليتزر «تنانين عدن». كما شاهده ملايين وهو يروج لعلم الفلك في برنامج «عرض الليلة» The Tonight Show.
لكن ما لا يعرفه معظم الناس، وما حجبته شهرته جزئيًا، هو أن لعلمه تأثيرًا بعيد المدى ما زال صداه يتردد حتى يومنا هذا. لقد كان ساجان ناقلًا علميًا فذًا على الساحة، ومدافعًا ذكيًا، وكاتبًا غزير الإنتاج، وقبل كل ذلك، عالمًا بارزًا.
قدم ساجان العلم إلى الصدارة بثلاثة جوانب رئيسية في الأقل؛ فقد حقق نتائج ورؤى مهمة موصوفة في أكثر من 600 ورقة علمية. وبفضل علمه الغزير، ازدهرت تخصصات علمية جديدة وألهم عدة أجيال من العلماء. وأرى -كوني عالم كواكب- مثل هذا المزيج من المواهب والإنجازات نادر الحدوث، ولعلي لن أشهد مثله في حياتي.
الإنجازات العلمية
لم نكن نعرف الكثير عن كوكب الزهرة في ستينيات القرن الماضي، وقد بحث ساجان في تأثير الاحتباس الحراري في غلافه الجوي الناتج عن ثاني أكسيد الكربون، مما أوضح سبب ارتفاع درجة الحرارة القاتل على سطح الزهرة إلى نحو 465 درجة مئوية. ولا يزال بحثه رسالة تحذيرية قوية عن مخاطر انبعاثات الوقود الأحفوري على الأرض.
كما طرح تفسيرًا مقنعًا لتغيرات السطوع الموسمية على المريخ، والتي كانت تُنسب خطأ إلى الغطاء النباتي أو النشاط البركاني، وأثبت أن الغبار الذي تحركه الرياح هو السبب في تلك الاختلافات الغامضة.
وأجرى ساجان وطلابه دراسات عن كيفية تأثير التغيرات على سطح الأرض والغلاف الجوي في مناخنا، ودرسوا كيف يمكن لانفجار القنابل النووية أن يحقن كميات كبيرة من الدخان الأسود في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى فترة طويلة من التبريد الشديد تعرف باسم الشتاء النووي.
ومع التقدم الكبير في علوم الفلك والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء، دفع ساجان التخصص الناشئ في علم الأحياء الفلكي قدمًا، وهو دراسة الحياة في الكون. إذ تعاون ساجان مع عالم الأبحاث بيشون خارِ في جامعة كورنيل، حيث أجريا تجارب معملية رائدة أظهرت أن مركبات كيميائية معينة من كيمياء ما قبل الحياة، مثل الثولينات، وكذلك لبنات بناء الحياة المعروفة بالأحماض الأمينية، تتشكل طبيعيًا في بيئات مختبرية تحاكي ظروف الكواكب. ونمذج أيضًا توصيل جزيئات ما قبل الحياة إلى الأرض عبر الكويكبات والمذنبات، وانغمس في التجارب البيولوجية على متن مركبات هبوط المريخ «فايكنج»، وفكر بإمكانية وجود كائنات شبيهة بالبالونات تطفو في أغلفة كوكب الزهرة والمشتري.
امتد شغف ساجان بالبحث عن الحياة إلى ما هو أبعد من النظام الشمسي، فكان من أبرز رواد البحث عن ذكاء خارج الأرض المعروف باسم SETI. فساعد في تمويل البحث المنهجي عن إشارات الراديو القادمة من الفضاء، وشارك في مسح نحو 70% من السماء مع الفيزيائي والمهندس الكهربائي بول هورويتز. كما اقترح وشارك في تصميم الألواح والسجلات الذهبية المثبتة على المركبات الفضائية بايونير وفويجر، التي تمثل البشرية. ورغم ضعف احتمالية أن تعثر عليها حضارات فضائية، فإنه أراد من خلالها إثارة التفكير في إمكانية التواصل مع حضارات أخرى.
المناصرة العلمية
أدت إنجازات ساجان العلمية إلى أن يصبح مناصرًا مفوهًا لقضايا اجتماعية وعلمية مهمة. فقدم شهادته أمام الكونغرس حول مخاطر التغير المناخي، وكان ناشطًا مناهضًا للأسلحة النووية، وعارض علنًا مبادرة الدفاع الاستراتيجي المعروفة بـ«حرب النجوم». ودعا إلى التعاون وإطلاق مهمة فضائية مشتركة مع الاتحاد السوفيتي كجهد لتحسين العلاقات بين البلدين. تحدث مع أعضاء الكونغرس وجهًا لوجه حول البحث عن كائنات ذكية خارج الأرض، ونظم عرائض وقع عليها عشرات من العلماء البارزين لحث الدعم لهذا البحث. وربما كانت أعظم هديته للمجتمع هي دعوته المستمرة إلى البحث عن الحقيقة والتفكير النقدي، إذ شجع الناس على التواضع والانضباط لمواجهة معتقداتهم الراسخة والاعتماد على الأدلة للحصول على رؤية واضحة للعالم.
ويعد كتابه الأكثر استشهادًا من الباحثين «عالم تسكنه الشياطين: العلم شمعة في الظلام» موردًا ثمينًا لكل من يسعى لتجاوز عصر التضليل هذا.
التأثير
يمكن أحيانًا قياس أثر العالِم بعدد المرات التي يُستشهد فيها بأعماله العلمية من قِبل علماء آخرين. ووفقًا لصفحة ساجان على «جوجل سكولار»، لا تزال أعماله تحصد أكثر من ألف استشهاد سنويًا. وفي الواقع، فإن معدل الاستشهاد بأعماله في الوقت الراهن يفوق معدل العديد من أعضاء الأكاديمية الوطنية للعلوم، الذين “ينتخبهم أقرانهم نظير مساهماتهم البارزة في البحث”، بحسب ما يورده موقع الأكاديمية، والتي تُعد “من أرفع مراتب التكريم التي قد ينالها العالِم”.
رُشّح ساجان للانتخاب في الأكاديمية خلال دورة عام 1991-1992، غير أن ترشيحه قوبل بالطعن في الاجتماع السنوي؛ إذ صوّت أكثر من ثلث الأعضاء على منعه من القبول، مما أدى إلى استبعاده. وقد كتب أحد الحاضرين في ذلك الاجتماع إلى ساجان قائلاً: “إن ما أبعدك كان أسوأ ما في النفس البشرية: الغيرة”. وقد أيّد هذا الرأي عدد من الحضور. وفي رأيي، فإن فشل الأكاديمية في قبول ساجان يظل وصمة عار دائمة تلاحق هذه المؤسسة.
يبقى رفض الأكاديمية قبول ساجان وصمة في تاريخها. لكن لا يمكن لأي قدر من الحسد أن يقلل من إرثه العلمي العميق والواسع النطاق، فبجانب إنجازاته العلمية، ألهم أجيالًا من العلماء، ونشر تقدير العلم بين أعداد لا تحصى من غير العلماء، وأبرز ما يمكن تحقيقه في مجالات العلم والتواصل والدفاع عن القضايا، حيث تطلب ذلك البحث عن الحقيقة، والعمل الدؤوب، وتطوير الذات.
- ترجمة: أسماء رأفت محمد.
- المصادر: 1