من هو روبرت أوبنهايمر؟
يقوم كاتب السيرة الذاتية «كاي بيرد» بسبر أغوار حياة عالم الفيزياء الرائعة وإرثه.
بوميضٍ هائل في صحراء نيو مكسيكو (لحظة تجربة القنبلة الذرية) يصبح روبرت أوبنهايمر -وهو مدير مشروع مانهاتن لتطوير أول قنبلة ذريّة في العالم- أشهر عالم فيزياء بين أبناء جيله.
تلاشى الضوء الثاقب ليكشف عن كرة نارية هائلة متنامية في السماء فوق موقع اختبار لوس ألاموس في يوليو 1945 منذرًا ببداية فجر العصر الذرّي. لتبقى في ذاكرة أوبنهايمر -وهو العالم متعدد المواهب والصوفيّ- تحيّته لسحابة الفطر بسطرٍ من الكلمات من الكتاب المقدس الهندوسي البهاغافاد جيتا، ليقول باللغة السنسكريتية «الآن أصبحت الموت، مدمّر العوالم».
إنّ اختراع القنبلة الذرية وإبادتها للمدن اليابانية (هيروشيما وناغازاكي) كان كفيلًا بإنهاء الحرب العالمية الثانية، لتبدأ بعدها حقبة جديدة يلمع فيها أوبنهايمر كأيقونة تاريخية. لكن لاحقًا أدّى شعوره بالندم الشديد لما صنعته يداه ومعارضته لتطوير القنبلة الذرية إلى صراعه مع الجيش الأمريكي; لتقوم الحكومة بدورها بإلغاء تصريحه الأمني; بسبب شكوك حول إبدائه التعاطف للشيوعيين. ليموت أوبنهايمر في النهاية فاقدًا كل شيء.
قبل تاريخ 21 يوليو/ تموز لإطلاق فلم السيرة الذاتية أوبنهايمر للمخرج كريستوفر نولان، أجرى موقع ليف ساينس Live Science مقابلة مع المؤرخ كاي بيرد Kai Bird وهو موثّق حياة العالم أوبنهايمر والمؤلف المشارك في كتابة «أسطورة بروميثيس الأمريكية: انتصار ومأساة روبرت أوبنهايمر» الكتاب الحائز على جائزة البليتزر والذي استُلهِمت منهُ أحداث الفلم.
ناقشوا لمعان اسم أوبنهايمر وسقوطه، تطويره للقنبلة الذرية، وكيف قام بتغيير التاريخ البَشّري للأبد.
ليف ساينس: بُذِلَت في مشروع مانهاتن جهودٌ جبّارة، حيث استغرق آلاف العلماء في العمل عليه دون كللٍ خلال الحرب، لتبلغ التكلفة ما يعادل 24 بليون دولار بالنسبة لعصرنا الآن قبل انتهائه.
ما مدى دور أوبنهايمر في صنع القنبلة؟ وما الذي دفعه لصنعها؟
بيرد: حسنًا، كان مسؤولًا عن المخبر العلمي لمشروع مانهاتن، وكانت تلك فكرته أن يمتلك المخبر الأساسي وأن يكون موقع بناء القنبلة في لوس ألاموس. قام بتجهيز المُعدّات خلال سنتين ونصف، وكل شخص عمل معهُ في هذا المشروع ممن قمنا بمقابلتهم أكد إن المشروع لم يكن لينجح لولا تولي أونهايمر منصب الرئيس. كان مصدر إلهام لكل المشاركين في المشروع للعمل وإيجاد حلول مناسبة لمختلف المشاكل الهندسية المرتبطة بصنع القنبلة.
أما بالنسبة لدوافعه، فقد كانت واضحة. درس أوبنهايمر الفيزياء الكمومية في شبابه في ألمانيا بإشراف ماكس بورن. وهنالك تمكّن من حضور محاضرات للعالم الألماني الشهير «هايزنبرغ» صاحب مبدأ الشك في ميكانيك الكم. وكان يعلم أن هايزنبرغ وغيره من العلماء الألمان قادرون مثله على فهم فيزياء القنبلة الذريّة وإدراك الحاجة لبناء سلاح دمار شامل، وقد زادت مخاوفه بحلول عام 1942 في أن يكون الألمان متقدّمين 18 شهرًا في سباق صناعة الأسلحة.
كان أوبنهايمر طرفًا لليسار السياسي. وقد كان يخشى من الفاشية، لكن أكبر هواجسه كانت لو تمكن العلماء الألمان من تسليم سلاح دمار شامل إلى يد هتلر لأجل الفوز بالحرب، كان هذا أسوأ كوابيسه.
ليف ساينس: لكن بحلول وقت بنائهم للقنبلة واختبارها بنجاح، تشوشت دوافعه. ذكرت في كتابتك أنه كان يدخّن غليونه بتوتر مشيرًا مرارًا وتكرارًا إلى مواطني هيروشيما “بأولئك الفقراء الصغار”. لكنه وخلال نفس الأسبوع أعطى تعليمات دقيقة للجيش حول كيفية إلقاء القنبلة وتفجيرها فوقهم بالحد الأقصى من الطاقة.
بيرد: إنني سعيدٌ لانتباهك لهذه التفاصيل. إنها قصة تعطيك إحساسًا جازمًا عن الرجل، التعقيد والتناقض فيما كان يفعله.
بحلول ربيع عام 1945 عَلِمَ العلماء في لوس ألاموس -الذين كانوا يعملون بجهدٍ لإكمال التجهيزات- أن الحرب في أوروبا على وشك الانتهاء. لذا تساءلوا لماذا يكملون صنع القنبلة؟. قاموا بالاجتماع لمناقشة هذه القضية السياسية الصعبة. حضر أوبنهايمر الاجتماع واقفًا في نهاية الغرفة يستمع للحجج والمناقشة ثم تقدم للأمام واقتبس كلامه من نيلس بور.
وصل بور إلى لوس ألاموس في آخر يوم من عام 1943. قام بتحية أوبنهايمر بقوله: «روبرت هل ستكون كبيرة كفاية؟». أراد أن يعلم فيما إذا كانت القنبلة ستكون كبيرة بما يكفي لإنهاء الحرب.
قدّم أوبنهايمر حججه للعلماء المترددين في لوس ألاموس. أخبرهم أن السلاح أصبح معروفًا الآن، ولا توجد أسرار في علم الفيزياء. يجب عليهم إظهار قوة وبشاعة هذا السلاح في الحرب; وإلّا ستُستَخدم الأسلحة النووية في الحروب القادمة لتكون نهاية العالم. تلك كانت حجة أوبنهايمر وكانت حجة مثيرة، كما أنها عقلانية.
ليف ساينس: بعد انتهاء الحرب أصبح أوبنهايمر من أشد منتقدي التسلّح النووي بشكلٍ صريح، معارضًا الجهود لصنع قنبلة هيدروجينية أكثر قوة. كما أشار إلى خطط القوة الجوية لقصف استراتيجي مكثّف بالأسلحة النووية على أنها إبادة جماعية. ما السبب وراء انقلاب أفكاره؟ وكيف كان رد فعل الجيش والمخابرات؟
بيرد: هذا ما أدى إلى انهياره; لأنه خلال فترة وجيزة بعد انفجار هيروشيما، ومن خلال رسائل كتبتها زوجته كيتي إلى أصدقائها علمنا أن أوبنهايمر سقط في بئرٍ عميق من الكآبة، أصبح متجهّمًا بشدة.
ثم عاد إلى واشنطن، وعلم أن اليابانيين كانوا على وشك الاستسلام في سبتمبر/ أيلول عام 1945. كما علم المزيد عن مواقف أولئك الموجودين في واشنطن وموقف رئاسة ترومان حول السلاح الجديد، فقد أرادوا صنع المزيد منها وجعل الأمن القومي للولايات المتحدة معتمدًا بأكمله على ترسانة ضخمة من هذه الأسلحة.
يظن أوبنهايمر أن صنع هذه الأسلحة هو أمر خاطئ. ألقى أوبنهايمر خطابًا للعامة في أوائل شهر أكتوبر/ تشرين الأول في فيلادلفيا، أشار فيه إلى أن هذه الأسلحة هي أسلحة اعتداء، إنها أسلحة إرهاب وليست للدفاع عن النفس، وعلى الولايات المتحدة أن تجد سبيلًا لبناء آلية مراقبة دولية لمنع انتشارها.
كان يعارض فكرة الاعتماد على هذه الأسلحة لأجل الدفاع. تصريحاته هذه شكّلت تهديدًا على مساعي وزارة الحرب الأمريكية، الجيش والبحرية والقوة الجوية في الحصول على ميزانية أكبر لامتلاك هذه الأسلحة.
بذلك شكّل أوبنهايمر تهديدًا لهم. وهذا قاد تحديدًا في أواخر عام 1953 إلى سحب تصريحه الأمني بدايةً، وإحالته إلى محكمة الكنغر (محكمة صورية) لمحاكمته وإهانته علنيًا.
ليف ساينس: بعض ممن عرفوا أوبنهايمر شخصيًا شعروا أنه لم يعد شخصًا متوازنًا (على حد قول زميله عالم الفيزياء وصديقه إيسيدور رابي). كما أشار إليه أينشتاين بأحمق (باللغة الييديّة) ما الذي كانوا يقصدونه بهذه التلميحات؟
بيرد: كان أوبنهايمر شخصًا متعدد المواهب وصوفيًا بعض الشيء، وكان مولعًا بالتصوّف الهندي، والذي اعتبره رابي علامة تشير إلى شخصية غير كاملة. لكنني أظن فعلًا أن كُلًا من رابي وأينشتاين قصدا شيئًا مختلفًا.
قبل محاكمته عام 1954 زار أوبنهايمر أينشتاين ليخبره أنه سيذهب إلى واشنطن. أخبره أنه سيتغيب عن معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، والذي عمل فيه أوبنهايمر كمدير بين عامي 1947 و1966 لبضع أسابيع لحضور جلسة الاستماع الخاصة بمحاكمته.
يلتفت أينشتاين إليه ليقول له: «لكن يا روبرت لمَ تزعج نفسك إذ لم يعودوا يرغبوا بك ولا بنصيحتك بعد الآن؟ أنت سيد القنبلة الذرية، فقط تنحّى جانبًا». ليرد عليه أوبنهايمر: «لكنك لا تفهم الموضوع ألبرت. أحتاج أن أستغل وضعي ووجودي على المنصّة للتأثير على صنّاع القرار في واشنطن وإعطاءهم نصيحتي; فهم لا يفهمون هذه التقنية، أريد استغلال شهرتي لهدف جيّد».
في الواقع لقد حارب أوبنهايمر في جلسة الاستماع الأمنية; لأنهُ أراد أن يبقى مشاركًا ضمن العملية. أراد أن يكون داخل المؤسسة، المشي في أروقة السلطة في واشنطن وإجراء اللقاءات مع الرئيس في المكتب البيضوي. لذا بعد مغادرته الغرفة، استدار أينشتاين للسكرتير الخاص به وقال: «إنهُ يرتكب حماقة!».
وفعلًا، لقد كان أحمقًا وساذجًا في السياسة. ولم يكن لديه أدنى فكرة إلى أين سيقوده قراره. وقد تم التلاعب به من قبل جميع الحاضرين في جلسة الاستماع في واشنطن، وأصبح لديه أعداء سياسيون أقوياء في واشنطن، كان يسير إلى دمار نفسه. كان أينشتاين محقًا بوصفه ب (الأحمق).
ليف ساينس: إن إرث أوبنهايمر مرتبط بسلاحٍ مرعب سنتفادى استعماله في حرب أخرى مجددًا. لنفترض أننا في المستقبل بعد مرور نحو 100 عام، كيف تظن سيتذكره الناس؟
بيرد: هذا يعتمد على ماذا سيحدث وكيف سنعيش مع وجود هذه القنبلة. فإذا حدثت حرب نووية أخرى خلال الأعوام أو العقود القليلة القادمة، سيكون أوبنهايمر بنظر الناس العالم المسؤول أيضًا.
لكن الأمر المذهل أننا سنتحدث عنه خلال 100 سنة. يزداد اهتمام البَشّر بشكل متزايد في العلوم والتكنولوجيا. والآن إننا نتصارع مع الذكاء الصناعي. قد تظن أننا سنلجأ للعلماء ومختصّي التكنولوجيا لنسألهم كيف نستطيع دمج العلوم بحياتنا اليومية دون تدمير الإنسانية. لكن الناس في داخلهم ارتياب حول العلماء والمختصّين; وذلك يعود برأيي بالأساس إلى الإذلال العلني الذي تعرّض إليه أوبنهايمر عام 1954. كانت رسالة للعلماء في كل مكان: «لا تخرجوا عن مساركم الضيق المحدّد، لا تصبحوا مفكّرين جماهيريين ولا تتحدثوا عن السياسة».
لكن للأسف، هذا تحديدًا ما نحتاج إليه. نحتاج إلى أشخاص أكثر كأوبنهايمر ليقولوا الحقائق الصعبة حول دمج العلوم في حياتنا بطريقة غير جالبة للدمار بل لتكون جزءًا متناغمًا من وجودنا البشري.
- ترجمة: نور علي عثمان
- تدقيق علمي ولغوي: فاطمة قائد
- المصادر: 1