
هل يعتبر تدريس علم النفس مضيعة للوقت
عند تقييم سلوك الناس، يميل الناس إلى ترك دروس علم النفس والاعتماد على الافتراض والقصص.
كان دانيال كانمان أبرز علماء النفس في العالم، توفي في مارس 2024، وهو حائز على جائزة نوبل وأستاذ فخري في جامعة برينستون ومن الممكن اعتباره أبرز المدرسين في هذا المجال. تصدر كتابه “التفكير السريع والبطيء” قوائم الكتب الأكثر مبيعًا أو كان ضمنها منذ صدوره سنة 2011. ومع ذلك، وعلى الرغم من مكانته الأكاديمية المرموقة، صرح كانمان علانية بأن تدريس علم النفس يمكن أن يكون حقًا مضيعة للوقت. ما يدعم هذا التصور ليس الشك أو الاكتئاب بل البيانات.
يركز كانمان على تجربة كلاسيكية واحدة بشكل خاص. سنة 1975، أطلع عالما النفس الاجتماعيين ريتشارد نيسبيت ويوجين بورغيدا من جامعة ميشيغان الطلاب على “تجربة المساعدة” الشهيرة (وغير الأخلاقية إلى حد ما).
اقتيد المشاركون في تلك التجربة إلى مقصورات منفردة، وطُلب منهم التحدث عبر جهاز الاتصال الداخلي عن حياتهم ومشكلاتهم الشخصية، وكان على المشاركين الحديث واحدًا تلو الآخر مدة دقيقتين. كان الأمر بسيطًا جدًا ! غير أن الهدف من هذه التجربة لم يكن فقط توفير منصة للمشاركين يعبرون فيها عن مشاعرهم، بل كان الهدف في الواقع معرفة ردة فعل الناس إذا اعتقدوا أن شخصًا ما بينهم يحتضر.
في إحدى المراحل، قام أحد الممثلين المشاركين في التجربة، والموجود في إحدى المقصورات، بتمثيل نوبة صرع أثناء حديثه عبر جهاز الاتصال الداخلي، واستنجد طالبًا المساعدة، ثم انهار على ما يبدو.
بالنظر إلى أن أحد المشاركين بدا وكأنه في خطر محدق، كان من المتوقع أن يتدافع المشاركون في المقصورات الأخرى لتقديم المساعدة. لكن معظمهم لم يفعل ذلك.
يقول كانمان “لم يستجب سوى أربعة مشاركين فقط من بين خمسة عشر مشتركًا على الفور لاستغاثة طلب المساعدة، ولم يخرج ستة مشاركين من مقصوراتهم، بينما خرج خمسة آخرون فقط بعد أن اختنق «ضحية نوبة الصرع» على ما يبدو”.
بعد شرح إجراءات “تجربة المساعدة” للطلاب، عرض نيسبيت وبورغيدا عليهم مقاطع فيديو لشخصين ادّعيا أنهما شاركا في التجربة. ورسمت مقاطع الفيديو صورة حميدة ولطيفة للمشاركين المفترضين. بعد الانتهاء من مشاهدة مقاطع الفيديو، كان على الطلاب تخمين هل هرع المشاركان إلى مساعدة الشخص المصاب بنوبة الصرع. وتم إخبار نصف الطلاب بنتائج “تجربة المساعدة” فقط.
قد تظن أن الطلاب الذين تم إبلاغهم بالنتائج السلبية للتجربة سيتوقعون أن الأفراد في الفيديو لم يهرعوا لمساعدة المصاب بنوبة الصرع. ولكن هذا لم يحدث. فبالرغم من الحقائق، حافظت كلتا المجموعتين على نظرة متفائلة للطبيعة الإنسان.
أشار كانمان إلى اعتبار نتائج هذه الدراسة محبطة بالنسبة إلى مدرسي علم النفس، مضيفا أنه عندما نعلّم الطلبة عن سلوك الناس في “تجربة المساعدة”، نتوقع منهم أن يتعلموا شيئًا جديدًا ونطمح إلى تغيير تصور الطلبة لسلوك الناس في حالات معينة. لم يتحقق هذا في تجربة نيسبيت وبورغيدا وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن النتائج ستختلف لو تم اختيار تجربة نفسية مفاجئة أخرى.
من المثير للاهتمام أن نيسبيت وبورغيدا وجدا طريقة لإقناع طلابهم بالرسالة الأساسية من “تجربة المساعدة”: تزويدهم بقصص واقعية مقنعة، إذ أخبرا مجموعة ثالثة من الطلاب بإجراءات “تجربة المساعدة”، وعرضا عليهم مقاطع الفيديو، ثم أخبروهم بأن الشخصين اللذين ظهرا في الفيديو لم يهرعا لمساعدة المصاب بنوبة الصرع. بالاعتماد على هذه المعلومات، تنبأ المشاركون بدقة النسبة المنخفضة للأشخاص الذين ساعدوا المصاب بنوبة الصرع.
لذلك، يمكن اعتبار أن علم النفس ليس مضيعة للوقت، لكن الحقائق العامة والإحصائيات المؤكدة لن تتفوق أبدًا على القصص، ويعد هذا محبطًا من نواحٍ عديدة.
- ترجمة: إبراهيم كرموم
- تدقيق علمي ولغوي: الأيهم عبد الحميد
- المصادر: 1