الاضطرابات النفسية ليست أمراضًا بل شبكات أعراض

تغيّر تعريف الاضطراب العقلي بنحو جذري في المئة عام الأخيرة. كان الأطباء النفسيون مفتونين بالتحليل النفسي معظم القرن الماضي، وعدّوا علامات المرض العقلي دلائلَ على صراعات داخلية في العقل اللاواعي للمرضى، لا أعراضًا لأمراض معينة. ولذا كان هدف العلاج معرفة هذه الصراعات وحلها. لكن كل هذا تغير في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، حين انتقد علم النفسي بشدة -كما حدث في سائر الفروع آنذاك- من علمائه، الذين طعنوا في مصداقية التشخيص النفسي ومفهوم «المرض العقلي» بأسره.

حين هبطت سمعة الطب النفسي إلى الحضيض، سعى مجموعة من علماء النفس الباحثين إلى استعادة مصداقية مهنتهم. سمى هؤلاء العلماء نفسهم «الكريبيلنيين الجدد» وأحيوا التقليد الوصفي الذي عزَّه عالم النفس إيميل كريبيلن. الذي آمن أن الملاحظة الدقيقة للمرض العقلي وعلاماته وأعراضه هي أساس التشخيص الموثوق. ما قد يقود إلى التفكر في المسببات المرضية ثم خطة العلاج. نقَّح هذا النهج إنجيل الطب النفسي «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية» بنحو جوهري، فصدرت منه الطبعة الثالثة سنة 1980 ولحقتها طبعات أخرى. وكلها بيّن الهدف من معايير التشخيص الموضوعية والموثوقة لكل فئة من فئات الاضطراب العقلي، وطوّرت البحث في انتشار الأمراض النفسية وآلياتها وعلاجها.

على الرغم من هذا التحسن في الطب النفسي، صارت حدود الهيكل السائد حاليًا لفهم الأمراض العقلية واضحة في السنوات الأخيرة وتزداد وضوحًا. الصعوبة التي واجهها العلماء في إيجاد آثار أحيائية للاضطرابات العقلية المذكورة في إنجيل الطب النفسي الحديث، دفعت رئيسًا سابقًا للمعهد الوطني الأمريكي للطب العقلي إلى التساؤل عمّا إذا كانت فئات التشخيص المذكورة ليست أكثر من مسميات، لا كيانات مرضية حقيقية. ربما الافتراض الضمني للعديد من الكريبيلنيين الجدد غير صحيح، ذاك الذي يقول إن مجموعة علامات وأعراض مرتبطة بفئة تشخيص ما تعكس سببًا خفيًا شائعًا، مثل عدوى جرثومية أو ورم خبيث. ومما يزيد القلق التصاحب المتواتر لأمراض عقلية يفترض أنها منفصلة (التصاحب المرضي). بمعنى، هل يعاني من يشخص بأعراض اضطراب الهلع والاكتئاب الشديد والرهاب الاجتماعي ثلاثةَ أمراض منفصلة، مثل أن يعاني سرطان البنكرياس والإيدز وكوفيد19؟ شخص العلماء للأمراض الثلاثة الأخيرة مسببات مرضية مختلفة أكدتها فحوص الأشعة السينية واختبارات الخزعة والزرع الحيوي الدقيق وسواها، وهذا لم يحدث في تشخيص الاضطرابات العقلية حاليًا.

هناك منظور حديث في علم الأمراض يعد بحل المشكلات التي يعانيها نموذج الكريبيلنيين الجدد. طوّر عالمُ النفس ديني بورسبوم وزملاؤه هذا المنظور، والذي يسمى المنظور الشبكي. ألهمهم في ذلك التنظير الحديث للذكاء (خصوصًا كيف قد يبزغ من تفاعلاتِ عدة أنظمة واعية ضمنية). قال بورسبوم وآخرون غيره في المنظور الشبكي إن الاضطرابات النفسية -مثل الاكتئاب الشديد- هي ظواهر ناشئة من غيرها؛ تنشأ من شبكة من التفاعلات بين عناصر لها (مثل النوم والمزاج والطاقة).

لفهم الموضوع أكثر، تخيل أن شخصًا تعرض لضغط في العمل وهو يواجه صعوبة في النوم حاليًا. من المرجح أن يصاب بالإرهاق في اليوم التالي. وسيشتت الإرهاق انتباهه على المهمات في العمل ويزيد انفعاله. والتصادمات اللاحقة مع زملاء العمل -بسبب ما سبق- ستعكر المزاج وتفاقم أعراضًا أخرى أو تسبب غيرها (مثل فقدان الأمل). ويمكن للتفاعلات الطبيعية بين هذه العناصر العرضية لغيرها أن تعزز بعضها فتكوّن حالة ندعوها الاكتئاب. النتيجة: الاكتئاب ليس السبب الخفي لأعراض ما -مثل تسبب الورم الخبيث أو العدوى الجرثومية بأعراضهما- بل وجهٌ للنظام الناشئ من هذه التفاعلات الطبيعية.

أثار المنظور الشبكي في علم النفس المرضي كمية ضخمة من البحوث في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، وضح أنجيليك كرامر، وبورسبوم وزملاؤهما طريقة معالجة المفهوم الشبكي للتصاحب المرضي. فقالوا إن التصاحب المتكرر، للاكتئاب واضطراب القلق المعمم مثلًا، ربما يكون نتاجًا متوقعًا للأعراض المشتركة بين تجمعات مرضية متداخلة جزئيًا. علاوة على ذلك، المنظور الشبكي ينفي فكرة أن تكون الاضطرابات سالفة الذكر أعراضًا لأمراض أخرى، ويوجه انتباهنا إلى الأعراض وتفاعلها فيما بينها، فيتجنب بذلك البحث غير المجدي عن الآثار الأحيائية لكل اضطراب. تركيزنا فيما يخص المسببات المرضية سينصب بدلًا من ذلك على كيف تحفز الضغوطات المحيطة (مثل الحرمان) والداخلية (مثل العدوى الفيروسية) الأعراض، وكيف ينتشر هذا التحفيز بين الأعراض فيشكل نوبة مرض نفسي.

فكك الباحثون النظريون الشبكيون الأنظمة التي تسبب الاضطرابات العقلية إلى مكونات لفهمها بنحو أفضل. وبالاعتماد على التطورات الإحصائية والحسابية الملحوظة، أنتجوا مخططات تصوّر الأعراض النفسية المتصاحبة بشبكات تتألف من دوائر (عقد) تربطها ببعضها خطوط (حافات)، تمثل الدوائر الأعراض في معظم شبكات علم الأمراض النفسية، وتشير الخطوط التي تربطها إلى علاقة بين العرضين. أيضًا يتناسب سمك الخط الذي يربط الدوائر ببعضها وشدة العلاقة بينها طرديًا، أي إن السمك يمثل احتمالية أن يتصاحب العرضان. في شبكات اضطراب الكرب التالي للرضخ على سبيل المثال، غالبًا ما يرسم خط متين يربط بين دوائر الاستجابة الإجفالية المفرطة ودوائر اليقظة المفرطة، وهذان العرضان يتصاحبان في العادة. تتضمن معظم الدراسات الشبكية تحليل إشارات الاضطرابات النفسية وعلاماتها المنتقاة من تقييم العديد من الأشخاص في وقت واحد. توفر هذه الشبكات صورة للعلاقات بين الأعراض في مستوى جماعي.

لكن اعلم أن ترابط دائرتين بخط لا يشير إلى سببية بين الاثنين. فلا يعني مجرد تصاحب عرضين أن العرض الأول يسبب العرض الثاني، أو أن الثاني يسبب الأول. من الممكن أنهما يؤثران في بعضهما، وربما يسبب عامل آخر تصاحبهما، كما يسبب ارتفاع درجة الحرارة تصاحب زيادة استهلاك المثلجات والموت غرقًا.

يستخدم الباحثون تقنيات تحليلية إضافية لفهم أفضل لعلاقة السبب والأثر بين الأعراض. إحدى التقنيات إحصاءٌ حسابي يسمى النموذج الرسومي الغاوسي GGM، وفيه تبيّن الخطوطُ العلاقاتَ بين أزواج الدوائر المعدلة نسبة لتأثير سائر الدوائر في الشبكة (آمل أنك لم تنسَ أن كل دائرة تمثل عرضًا من الأعراض، وكل خط يمثل قوة العلاقة بين العرضين). هذا يساهم في توضيح العلاقة المباشرة بين أعراض محددة، وإن كانت الخطوط لا توضح اتجاه التأثير (ما إن كان عرض اليقظة المفرطة مثلًا يرفع احتمالية حدوث عرض الاستجابة الإجفالية المفرطة، أو الضد، أو كلاهما يؤثر في الآخر). هناك تقنية تكميلية تتضمن حسابات الرسم البياني غير الدوري المباشر DAG. في هذا النهج يضاف لكل خط سهمٌ يشير إلى أرجحية أن تتنبأ هذه الدائرة بوجود أخرى. مع ذلك، لا يؤكد هذا النوع من الارتباط بمفرده أن الدائرة الأولى تسبب الدائرة الثانية، بل تعني أن وجود الدائرة الثانية (السليلة) يشير إلى وجود الدائرة الأولى (الأم)، أكثر مما تشير الأولى إلى وجود الثانية.

وكما يمثل الوسيط والمعدل منظورين تكميليين للنزعة المركزية في مجموعة بيانات، تمثل هذه المناهج منظورين مكملين لعلاقات الأعراض في مجموعة كبيرة من المرضى. أي إنها توفر الخطوة الأولى لوصف الأمراض النفسيةِ ظواهرَ تنبثق من تفاعلات الأعراض.

استكشفت وزملائي حديثًا -باستخدام طريقة التحليل الشبكي- هيكل العلاقات بين أعراض الاكتئاب والهوس، في مجموعة من مئات المرضى الذين يعانون الاضطراب ثنائي القطب، قبل أن يشتركوا في الاختبارات السريرية. كان الاضطراب أحادي القطب الرئيسي موضع تركيز باحثي علم النفس المرضي الشبكي، أما الاضطراب ثنائي القطب فقليلًا ما بحثوا فيه. استخدم مقابلون مدربون طريقة موحدة لكشف الأعراض وتقييم حدتها سلفًا، واستخدمنا بياناتهم بطريقتين، الأولى حسابات الرسم البياني غير الدوري المباشر والأخرى النموذج الرسومي الغاوسي. حددنا بالطريقة الأولى الدوائر المركزية الأهم، وهي الأعراض الأكثر تصاحبًا والأعراض الأخرى في الشبكة. وفقًا لأحد التفسيرات، من المحتمل أن تحفز بداية عرض مركزي مهم (دائرة مركزية) أعراضًا أخرى، ما يرفع احتمالية حدوث نوبة المتلازمة. ومثلها الأعراض الأم في الطريقة الأخرى.

كما نرى عادة في الدراسات التحليلية الشبكية، أكدت المخططات فرضيات معروفة سلفًا مثل أن المزاج المكتئب والتشاؤم المستمرين -خصوصًا فيما يتعلق بالمستقبل الشخصي- يرتبطان بأفكار وتصرفات انتحارية. لكن يمكن للتحليل الشبكي أن يكشف عن بيانات حديثة توفر رؤى جديدة كذلك. على سبيل المثال: مالت شبكاتنا إلى عد الاضطراب ثنائي القطب اضطرابًا في تنظيم الطاقة لا اضطرابًا في المزاج (خلافًا لما ذُكر في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية). هذا يعني أن الذين يعانون الاضطراب ثنائي القطب غالبًا ما يختبرون طاقة عالية جدًا أو واطئة جدًا في الفعاليات اليومية. ويظهر أن هذا الاضطراب التنظيمي مركزي في المتلازمة.

وجدنا في تحليلنا أن الشعور بطاقة واطئة كان أهم عرض مركزي في تجمعات أعراض الاكتئاب (كثيرًا ما يصاحب الأعراض الأخرى)، في حين كانت الطاقة المرتفعة أهم عرض مركزي في تجمعات أعراض الهوس. وإن تفضل التعبير بطريقة النموذج الرسومي الغاوسي، يمكننا القول: وجود الأعراض السليلة يشير بشدة إلى وجود طاقة واطئة وعالية للأعراض الأم في تجمعات الاكتئاب والهوس، بالترتيب. يميل الشخص المصاب بمتلازمة اضطراب ثنائي القطب، والذي طاقته دائمًا منخفضة بنحو ملحوظ إلى إظهار أعراض أخرى مثل المزاج المكتئب وعدم الإحساس باللذة والاكتئاب والميل إلى الانتحار. على النقيض، يميل ذو الطاقة العالية دائمًا بنحو ملحوظ إلى إظهار أعراض مثل الانتعاش وفرط اللذة والتصرفات المتهورة.

تشير هذه النتاجات إلى أن مراقبة اضطرابات الطاقة ربما تكون أهم من مراقبة المزاج في الإدارة السريرية للمصابين بالاضطراب ثنائي القطب. قد يستطيع الأطباء السريريون من متابعة محصلة طاقة المرضى واضطراباتها التدخل بتعديلات للسلوك ونمط الحياة والعقاقير لجعل مستويات الطاقة طبيعية قبل أن يظهر المرضى أعراض ارتفاعها أو انخفاضها المفرطين. أيضًا فقد بيّن النهج التحليلي الشبكيُ الدوائرَ (الأعراض) المركزية للأعراض الأخرى، مثل الخوف من البدانة في متلازمة الأكل، والخوف من الوحدة في متلازمة الحزن المركب، ونقد الذات في متلازمة الاجترار.

يحفز التطور الحسابي والإحصائي المتسارع ابتكارات أشد تعقيدًا. مثل الشبكات الديناميكية التي تصوّر تفاعل الأعراض فيما بينها مع الزمن حتى تبلغ ذروتها في النوبة. طوّر علماء النفس طرائقَ لتنبيه المرضى عبر هواتفهم عدة مرات يوميًا لتقييم أعراضهم عندها. ربما تساعد هكذا سلسلة شبكات زمنية مكثفة الأطباءَ السريريين في تصميم إرشادات تستهدف الأعراض المهمة لنوبات الاضطرابات العقلية، مثل رفع الطاقة عند من يعاني الاكتئاب ثنائي القطب أو تقليل الوحدة عند الذين خسروا أحبتهم. علماء النفس السريريون والأطباء النفسيون والعمال الاجتماعيون السريريون أناس عمليون بحق، وستعتمد القيمة النهائية للنهج الشبكي على قدرتها في تسهيل علاج العناء النفسي وإرشاد المرضى الذي يعانونه.

  • ترجمة: موسى جعفر
  • المصادر: 1