ما الذي يكشفه موقع أثري على طول نهر النيل عن حضارة النوبة القديمة

تنتشر أكوام الصخور الدائرية في المساحات الصحراوية الشاسعة لموقع تومبوس الأثري في شمال السودان، والتي تكشف مقابر مدفونة تحت الأرض استخدمها السكان القدماء منذ 2500 سنة قبل الميلاد، وهؤلاء السكان هم الذين أطلقوا على هذه المنطقة اسم كوش أو النوبة. أعمل في موقع تومبوس منذ 20 عاما بوصفي عالم آثار بيولوجية ينقب ويحلل بقايا الهياكل العظمية البشرية جنبًا إلى جنب مع البضائع الجنائزية ذات الصلة، أثناء عملي هناك زادت المناقشات عن تاريخ أفريقيا القديم بشكل كبير، وبالتحديد بعد ظهور مصر. لكن، كان هناك أيضا العديد من المجتمعات التي شكلت قوة عظمى على ضفاف وادي النيل منذ منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد بما فيها الجار الموجود في الظل إلى الجنوب من مصر.

على الرغم من أن كوش القديمة كانت تنافس مصر، وفي بعض الأحيان، قامت بغزو مصر إلا أن هناك قصور في لفت الأنظار إلى هذه الحضارة.ساهمت الأبحاث في أوائل القرن العشرين في فهم العلماء لكوش القديمة، لكن كان للتفسيرات تحيزات استعمارية وعنصرية غالبًا ما حجبت نقاط قوة هذه الحضارة وإنجازاتها.

أنا مدير مشارك لاستيوارت تايسون سميث في عمليات التنقيب في تومبوس. تخبر هذه المدافن فريقنا الأثري عن العديد من جوانب الحياة والموت في هذا المكان منذ آلاف السنين. تعامل القدامى مع تحديات مختلفة بما في ذلك التغيرات البيئية والتحولات الاجتماعية والسياسية والتفاعلات مع المجموعات الأخرى. تأتي مشاركة نتائجنا مع المجتمع المحلي على القدر نفسه من الأهمية لاكتشافاتنا حول الماضي، هذا بالاضافة لدعم السودانيين الذين يسعون الى وظائف في علم الآثار.

إلقاء الضوء على الحياة والموت في تومبوس

تكشف بقايا سكان تومبوس القدامى عن معلومات حول نشاطهم البدني، فضلاً عن الأمراض والتغذية. تترك بعض الحالات المرضية مثل أمراض القلب والسرطان وآثار العمل الشاق علامات على جسم الإنسان توفر نظرة ثاقبة عن المرض في الماضي. إنها تساعدنا على تتبع العوامل المؤدية دورًا في الظروف الصحية وسياقها الاجتماعي. على سبيل المثال، وجدنا بقايا امرأة بالغة وطفل كانا يعانيان من اضطرابات في النمو، مما يدل على أن الأشخاص ذوي الاختلافات الجسدية كانوا مندمجين في المجتمع.

من خلال تحليل النظائر، أو أشكال العناصر الكيميائية، الموجودة في أسنان السكان، يمكننا أن نتكهن بالمكان الذي من الممكن أن يكونوا قد عاشوا فيه أثناء الطفولة.

بينما يكتشف الفريق ما يكمن تحت الأرض، نتعرف على أفراد المجتمع القديم. على سبيل المثال، وجدنا بقايا امرأة مسنة عاشت في الستينيات من عمرها وكانت تعاني من التهاب المفاصل، وامرأة أصغر في السن احتوى قبرها على رضيع، وامرأة في منتصف العمر مع سلة مليئة بالتماثيل الصغيرة الكاملة والمكسورة والخرز، وعناصر أخرى. يتيح اكتشاف الأشخاص الذين عاشوا أنواعًا مختلفة من الحياة إنشاء صورة لمن سكن تومبوس عندما كانت مزدهرة.

توضح لنا هياكل المقابر كيف أراد الناس تمثيل أنفسهم وعائلاتهم علنًا بعد الموت. يمكننا ربط وضع الجسد والتحف المصاحبة للمقابر بممارسات ثقافية ودينية مختلفة. تضمنت إحدى المقابر المجهزة جيدًا لرجل في منتصف العمر سريرًا وتابوتًا، بما يجمع بين الممارسات التقليدية النوبية والمصرية. احتوت المقبرة أيضًا على أوعية برونزية، وصندوق خشبي مزخرف، وكومة من التمائم التي تعاملوا معها كأشياء سحرية ومخبأ للأسلحة الحديدية، والتي توضح الاستخدام المبكر للحديد في النوبة.

لقد وجدنا أنه عندما حكم المصريون النوبة خلال إمبراطورية المملكة الحديثة حوالي 1200 قبل الميلاد، اختار بعض المهاجرين المصريين والسكان المحليين الأهرام المبنية على الطراز المصري ومقابر على شكل حجرات لدفنهم. في الوقت نفسه، استخدم بعض الأشخاص في تومبوس أيضًا شكل المقابر المحلية المشابهة للمقابر السابقة في النوبة، مما يوضح مدى اختلاف الأشخاص في خياراتهم بشأن الدفن.

اشراك سكان اليوم في اكتشافات الماضي

إن بناء صورة ناجحة لأشخاص في الماضي يعتمد على المشاركة النشطة والوثيقة مع المجتمع المحلي.

أظهرت لنا تفاعلاتنا مع سكان المدينة – من خلال العمل الأثري ومحادثات جلسات الشاي والعروض التقديمية الرسمية لنتائجنا – أنهم فخورون بشعوب المنطقة القديمة ويتمنون أن يعرف الناس المزيد عن هذه الشعوب.

أظهرت محاضرة ومناقشة أخيرة أجريتها أنا وزميلتي السودانية رماح عبد الرحيم كباشي أحمد مع نساء تومبوس، مدى فضولهن بشأن الماضي والحاضر على حدٍ سواء. أنا ورماح التي تتدرب في علم الآثار البيولوجية أجبنا عن أسئلة مثل: ما هو نوع الطب الذي استخدمه الناس حينها؟ كم كان عمر الطفل عند الموت؟ لماذا كان يضع الناس سريرا ومجوهرات في قبورهم؟ حيث لاحظنا استخدام الأسرة في المدافن القديمة التي تشبه تلك المنحوتة في الآونة الأخيرة. سألننا أيضا عما إذا كنا كنساء نجد العمل صعبًا جسديًا.

الأهم من ذلك لقد أخبرننا أنهن يريدن المزيد من العروض التقديمية لأن أفراد عائلاتهن الذكور الذين يعملون في الموقع الأثري معنا لا يشاركهن ما وجدنا. نتيجةً لذلك، قمنا بتوسيع نطاق وصولنا بعدة طرق، بما في ذلك من خلال التعاون مع المدارس المحلية لإنتاج بعض المواد التعليمية حول علم الآثار والتاريخ المحلي ونتائج الموقع. قمنا أيضًا باستضافة معلمة وطلابها في جولة في الموقع لمشاهدة الحفريات المفتوحة.

نحن نعمل بشكل وثيق مع الهيئة الإدارية السودانية التي تشرف على البحث الأثري، والهيئة الوطنية للآثار والمتاحف. لكن هذا لا يكفى. من المهم للباحثين الأجانب دراسة الماضي بالتعاون مع شركاء من المجتمع وزملاء من الأكاديميين السودانيين. هذه الشراكات هي خطوات مهمة في العمل معًا لخلق معرفة جديدة حول التاريخ القديم للمنطقة وتحسين وجهات النظر الإقصائية والعنصرية للباحثين السابقين.

قاد عضو فريق تومبوس محمد فروج علي، عالم الآثار السوداني في جامعة إفريقيا الدولية في الخرطوم، إنشاء المركز الأمريكي السوداني للبحوث الأثرية، بهدف تشجيع البحث والتعاون الدوليين في السودان. لقد أجرينا محاضرات افتراضية وقدمنا منحًا دراسية للطلاب السودانيين الذين يسعون للحصول على درجات علمية في علم الآثار. نحن نعمل على تطوير برنامج للحصول على درجة علمية في جامعة أفريقيا الدولية.

هدفنا هو دعم تدريب السودانيين حتى يتمكن السكان المحليون – مع المزيد من الروابط المباشرة بالحضارة القديمة التي ندريها – من المشاركة في هذه المشاريع الأثرية على المستويات جميعها. إن تشجيع وممارسة البحث الأخلاقي الذي يشرك الأشخاص الذين يعيشون في المنطقة اليوم أمر مهم لفريق تومبوس يوازي أهمية معرفة المزيد عن حياة السكان القدامى.

  • ترجمة: خلود غازي
  • تدقيق علمي ولغوي: نور عباس
  • المصادر: 1