لماذا نلت درجة الدكتوراه في سن ال61!

لقاء بالصدفة في معتكف علمي، قاد زولتان كوسي من قطاع الإلكترونيات إلى مختبر علم الحشرات.

أنا لست طالب دراسات عليا نموذجي. أنا مهندس بالتدريب. قمت بتصميم أنظمة تحكم إلكترونية لأكثر من 30 عاماً، وكنت أتوقع أن أستمر بذلك إلى حين تقاعدي.

زوجتي كريستينا فالتر، طبيبة ثم أصبحت عالمة بصر في الجامعة الأسترالية الوطنية (ANU) في كانبيرا. في إحدى السنوات، رافقت زوجتي في زيارة إلى معتكف علمي، شعرت أثناءه أني كنت محاطاً بالكثير من أجواء علم الأحياء، لكن متحدثاً واحداً قد أثار اهتمامي ويدعى جوتشين زيل، وهو أخصائي في علم الامراض العصبية في ANU، يعمل على دراسة سلوك الحيوانات، لقد عرض نموذجاُ حول كيف يمكن للحشرات تحديد مسار لها إلى هدف ما (قد لا يكون مرئياً بشكلٍ مباشر) على الرغم من امتلاكها أدمغة صغيرة، وعيون مركبة منخفضة الدقة.

على الرغم من أن حديثه كان عن البصر، إلا أنه كان يستخدم مصطلحات لغتي: وحدات البكسل، وظائف، نواقل، تدرجات، لقد كانت فرضيات متقنة أيضاً.

في وقت الغداء، عرفتنا زوجتي على بعضنا البعض، وبعد 15 دقيقة من دورة مكثفة حول أساسيات الإبصار عند الحشرات، تجاذبنا أنا وزيل أطراف حديثٍ طويل وممتع للغاية حول تلك الفكرة. عندما افترقنا، عرضت عليه مازحاً إن كان بحاجة طالب دكتوراه، يمكنه الاعتماد علي.

بعد مرور شهر تقريباً، راسلني عبر البريد الإلكتروني قائلاً : «لم أسمع أخباراً عنك، ألم تلتحق بعد؟»، وهكذا في سن 53 أصبحت طالب دكتوراه بدوام جزئي في علم الأحياء في جامعة ANU

العودة إلى المختبر:

لم تكن تلك جولتي الأولى في بحث الدراسات العليا: لقد حصلت في سنة 1985 على درجة الماجستير في الإلكترونيات من جامعة بودابست التكنولوجية التي تعرف حالياً بجامعة بودابست للتكنولوجيا والعلوم الاقتصادية، وبعد الهجرة إلى أستراليا في عام 1990، عملت لصالح العديد من المؤسسات البحثية قبل إطلاق شركتي الخاصة عام 1995.

في مطلع عام 2000، شاركت بتأليف ورقتين بحثيتين حول العمل الذي نفذته على برنامج تحليل صور المجهر لصالح أحد باحثي مرض الزهايمر. ولكن عندما يكسو رأسك شيباً، تزداد عليك صعوبة مفارقة منطقة الراحة الخاصة بك.

عفا الزمن على خلفيتي العلمية في علم الأحياء لعقود، لذلك احتجت إلى تعلم الأساسيات بشكلٍ سريع. أثناء الغوص بالكتب المرجعية، خضت “دورة جامعية” عاجلة في وقت فراغي وكانت مكثفة. لكنني حظيت بالكثير من المساعدة من قبل باقي أفراد المختبر وزوجتي. وبعد مدة، بدت اجتماعات المختبر مفهومة بالنسبة لي، وتمكنت من اللحاق بالأوراق البحثية التي قرأتها. لكن كلما تعلمت أكثر، كلما أدركت ضآلة ما أعرفه: «لقد حفزت كل ورقة قرأتها حاجتي للقراءة أكثر.»

لقد كان الأمر شاقاً، وأحياناً محبطاً، لكنه كان ممتعاً: أنت تقرأ وتقرأ وتفكر، وفجأة تجد الأشياء مكانها الصحيح. كمعظم العلماء والمهندسين، أنا شغوف بالمجهول، وقد فتحت دراسة علم الأحياء الباب أمامي إلى عالم متشعب بشكلٍ مذهل. لكن الاختلافات الثقافية استغرقت بعض الوقت للاعتياد عليها. إذا قمت بتكرار تجربة هندسية، فسوف تتوقع الحصول على نفس النتيجة. ولكن هذا لا ينطبق على علم الأحياء السلوكي. إذ أن موضوعاتك التجريبية ذات أفكار خاصة بها حرفياً.

يمكنك أن تضع نملة على كرة تتبع، لكنك لا يمكنك أن تجعلها تمشي عليه.

وأيضاً، يقوم المهندسون التجاريون بتصميم منتجات لتلبية المعايير والمواصفات. أنت تسعى للمصداقية والتكلفة الأخفض. يمكنك اختبار الأفكار حينما يكون باستطاعتك، ولكن في أغلب الأحيان: أنت تخوض الأمر بأمان، الفشل ليس خياراً- لكن في العلوم الأساسية، فإن الفشل في الواقع هو خيار- ومع القليل من الحظ، يمكنك كتابة بحث عنه.

الاستناد على الخبرات المكتسبة:

يركز بحثي على الأساس العصبي للتنقل البصري عند الحشرات. ما هي الحيل العصبية التي تستخدمها لاستخراج إشارات توجيهية من الصور المنخفضة الدقة بشكلٍ موثوق؟

تكمن المشكلة في الإجابة على هذا السؤال بأن تطوراً ما قد حسن قدرة الحشرات على العمل في أوساطها الطبيعية، وليس في المختبر. يمكنك أن تظهر لهم الخطوط السوداء والبيضاء، وسوف يتفاعلون معها- إلا أن هذا لن يساعدك على استكشاف كيفية عثورها على شجرةٍ معينة مثلًا أو عشٍ مخفي من بعيد. وبنفس الوقت، لا يمكنك ببساطة أن تتلاعب بخط الأفق كما تشاء، لكي تشاهد كيف تتغير سلوك الحيوانات.

في أحد الأيام أثناء احتساء القهوة، أخبرني مستشاري أنه سيكون من الأسهل للغاية إن أمكننا فقط وضع النمل على كرة تتبع في حقل واقعٍ افتراضي مضبوط بشكلٍ مخصص برؤية النمل. ومن ثم بإمكاننا إسقاط نموذج ثلاثي الأبعاد قابلٍ للتعديل من قبل الظروف المحيطة لوسطها الطبيعي. لقد استنهض ذلك شخصية المهندس الموجودة بداخلي، ونظرت للمشكلة بجدية. وبعد ذلك بأسبوع، أخبرته بأنه لعله بإمكاننا إنشاء ما يشبه حقل للتجربة – لكن ذلك لن يكون رخيص التكلفة.

نموذجنا الأولي “Antarium”، الذي كلف 35000 دولار أمريكي تقريباً، هو هيكل متعدد الوجوه بعرض مترٍ واحد ومزود بالكثير من الإلكترونيات. لقد صممت النموذج الأولي، واستصدرت الأجزاء المكونة، ونظمت التصنيع، وكتبت برمجية التحكم، وقمت بتصحيح أخطاء الأجهزة الإلكترونية. وقد نجح الأمر، ولكنه عانى من بعض أوجه القصور الجدية.

عندما قمت بتصميم ذلك النموذج، لم تكن بعض جوانب آلية الإبصار عند النمل مفهومة بعد، لذا كان علي أن أخمن. ووفقاً لقانون مورفي، فقد كان تخميني خاطئاً. فضلاً عن ذلك، فقد حدّت قيود الميزانية ما كان بوسعنا أن نفعله، لكن التجارب أظهرت بأن المبدأ كان متيناً مما مهد السبيل للحصول على المزيد من التمويل – وتحسن نموذج Antarium.

إلا أنه ما كان من دواعي سروري هو أن أتعلم أن الانتقال إلى مجالٍ مهني آخر مختلف لم يكن ليعنِ أن معرفتي الأصلية الموجودة ستذهب سدىً. إضافة إلى أن بحث تعدد الاختصاصات هو موضوع مثير في هذه الأيام.

«دفعة ثقة حقيقية»

لقد نشرت بحثي في عام ​​2020 في مجلة “Frontiers in Behavioral Neuroscience”

وقدمت أطروحتى في شهر آب الماضي. وكانت تقييمات لجنة المناقشة إيجابية، منوهة فقط على إجراء تصحيحات طفيفة. لكن الجزء المفضل من رحلة تخرجي كان تقديم عرض شفوي في المؤتمر الدولي الرابع حول الرؤية عند اللافقاريات في السويد عام 2019.

لقد تسنّى لي تلقي ملاحظات راجعة بشكلٍ شخصي من العديد من الأشخاص الكبار في هذا المجال. كنت قد قرأت أوراقهم البحثية، وكنت على علمٍ بأنهم من طليعة رواد هذا العلم، وقد أقبلوا بعدها نحوي قائلين أنهم يعتقدون بأن عملي كان رائعاً. لقد كان هذا دافعاً حقيقياً للثقة بنفسي.

ومع ذلك، لم يكن من السهل أن أكون طالب دراسات عليا وأن أدير عملاً بنفس الوقت. فقد نسيت لفترة من الزمن معنى «وقت فراغ»، وتلقت شركتي صفعة مالية، لأنني لم أتمكن من العمل بنفس القدر الذي كنت أعمل به سابقاً، وكان علي أن أرد عدداً من الزبائن.

حالياً، وأنا في سن ال61، اقتربت هذه المرحلة من نهايتها، وأنا أعلم بأنني لست متجهاً للحصول على منصبٍ جامعي – إن حصولي على درجة الدكتوراه هي غاية في حد ذاتها، ولكنني سأقوم بذلك مجدداً. المعارف الجديدة تثري حياتك، بصرف النظر عما تبلغ من عمر، نصيحتي هي:

«إذا كان لديك فرصة لاستكشاف مجال جديد، اغتنمها.»

  • ترجمة: نور مهنا
  • تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
  • المصادر: 1