كيف تخيل الفلاسفة القدماء نهاية العالم؟

ما هي الأخطار الرئيسية التي تهدد استمرار البشرية؟ ما الكوارث التي تنتظرنا في المستقبل؟ قد تبدو هذه الأسئلة أشبه بالأسئلة الحديثة الفريدة التي يطرحها المفكرون المعاصرون في مجال الخطر الوجودي المتنامي. ومع ذلك، كان الفلاسفة اليونانيون والرومانيون القدامى يصيغون مثل هذه الأسئلة ويناقشونها منذ آلاف السنين. وبينما كان لدى هؤلاء الفلاسفة طرق وأساليب مختلفة تمامًا لرؤية العالم ومكانة الإنسان فيه، فقد اتفقوا جميعًا على أن شكلًا من أشكال الكوارث المروعة ينتظر البشر في المستقبل.

كيف نفسر هذا الاهتمام؟ أحد الأسباب الرئيسية لهذا الاهتمام هو أن الفلاسفة القدماء أدركوا أن فكرة نهاية العالم فكرة “جيدة للتفكر ورؤية الأمور من خلالها”. إذ تتيح لنا سرديات نهاية العالم شكلًا من أشكال السفر عبر الزمن. فتوفر رؤية للمستقبل وتتيح لنا في الوقت ذاته مشاهدة الكارثة القادمة ونحن بمأمن بعيدًا عنها. إن القصص التي نحكيها عن نهاية العالم تكشف الكثير عن رؤيتنا الحالية تجاه العالم وكيف شكّل كل من الماضي والحاضر مسارنا الحالي. وعلى عكس التقليد الكتابي، الذي يرى نهاية العالم على أنه يوم الغضب الإلهي والدينونة الذي يخلص فيه المختارون ويلعن الباقون، فقد رأى الفلاسفة اليونانيون والرومانيون القدامى نهاية العالم كعملية طبيعية كانت جزءًا من الوظائف العادية والمنتظمة للكون. وافترضوا إلى حد كبير أن تطور الإنسان محدود، وأن الإنسانية وكارثة العالم مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا. لقد فرضت الطبيعة حدودًا ثابتة لا هوادة أو رجعة فيها على النمو والتطور البشري. واليوم أصبحت هذه الرسائل والأفكار ملحة وضرورية بشكل متزايد.

في العالم القديم، كما هو الحال اليوم، كانت هناك العديد من السيناريوهات المختلفة لنهاية العالم، وكانت هذه السيناريوهات في كثير من الأحيان في جدال وتشابك نقدي مع بعضها بعضًا وكذلك مع قصص سابقة عن الدمار الذي سببه كل من النار والماء. وفي القرن السادس قبل الميلاد، افترض أناكسيماندر أن كل مياه الأرض ستجف في نهاية المطاف، تاركةً عالمًا جافًا وقاحلًا بلا حياة. على النقيض من ذلك، اعتقد خليفته كزينوفانيس أن الماء هو الذي سيدمر العالم. (حتى إنه قدّم دليلًا على أن هناك فيضانًا كبيرًا قد حدث بالفعل، مشيرًا إلى أنه قد عثر على أصداف بحرية على اليابسة بعيدًا عن الماء. ) وفي فلسفة أفلاطون، من منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، نجد بعض المحاولات الأولى المستمرة لتصوّر سيناريوهات متعددة لنهاية العالم: كالحرائق، والفيضانات، والزلازل، والأمراض. حيث كتب في كتابه الطيماوس: “قديمًا كانت هناك العديد من مدمرات البشر، وسيكون هناك الكثير من مدمرات البشر في المستقبل”. وعوضًا عن فهم التاريخ على أنه يتجه نحو نهاية غائية وحاسمة، يرى أفلاطون أن تطور الإنسان يحدده باستمرار أشكال مختلفة من الكوارث التي يشهدها العالم، وتلك الاعتبارات والآراء تشكل بعضًا من أكثر أفكاره الفلسفية إثارة للاهتمام. في محاوراته في الطيماوس والكريتياس، استخدم أفلاطون هذه النظرية ليروي قصة، على الأرجح من تأليفه الخاص، عن تدمير أطلانتس. كما اعتمد شيئًا من النقد الأدبي البيئي المبكر عند وصف التغيرات التي حدثت في البيئة الطبيعية حول أثينا نتيجة لهذه الكوارث الدورية. في محاورته الأخيرة، القوانين، يتخيل أفلاطون كيف تشكل هذه الكوارث الأرضية المتكررة تطور الحياة السياسية.

عادة ما يُنظر إلى أرسطو، تلميذ أفلاطون، على أنه قضية إشكالية. مثل معلمه، يفترض أرسطو أن تطور الإنسان دوري وحلقي. فباستمرار يكتشف البشر نفس الأفكار والتقنيات ويطورونها ثم يفقدونها ويعيدون اكتشافها من جديد. ومع ذلك، لم يشرح أرسطو في أعماله الموجودة بين أيدينا ما الذي يسبب هذه الدورات. ويقدم لنا الكُتّاب اللاحقون دليلًا على أن أرسطو -في حواراته المفقودة- يتبع نظرية أفلاطون عن الكوارث الدورية في العالم، ولكن ربما رفضها وعارضها فيما بعد.

رواية The Road ومسلسل The Walking Dead مدينان لنظريات أفلاطون أكثر من نظريات نهاية العالم كما هي موصوفة بالكتاب المقدس.

كثيرًا ما يقال إن الفكر اليوناني القديم يُصوّر الزمن على أنه دائري وحلقي. ويبدو أن آراء أفلاطون وأرسطو حول التطور المتكرر للمجتمع تؤكد على هذه النقطة، على الأقل من منظور إنساني: فالعالم لم يُدمر أبدًا، ويستمر لأجل غير مسمى. ولكن التقلبات الدورية ليست دائمًا أفضل طريقة لتعريف الفكر الفلسفي القديم. فعلى سبيل المثال، قدم ديموقريطوس والأبيقوريون نظرية نهاية العالم بكل معنى الكلمة. وفي حين ادعى كلاهما أن هناك عوالم متعددة مبنية من ذرات، وأن جميع العوالم تتجه نحو نهاية حاسمة، افترض كل منهما وجود أساليب مختلفة للتدمير. ويقال إن ديموقريطوس، الذي عاصر سقراط، ادعى أن العوالم تُدمر عندما يصطدم عالم بعالم آخر. وكأن هذا السيناريو يستبق الإدراك المعاصر لخطورة اصطدام الكويكبات وغيرها من الأجسام القريبة من الأرض. على الجانب الآخر، زعم أبيقور، الذي أقام حديقته الفلسفية في أثينا قرابة عام 307 قبل الميلاد، أن كل عالم يموت عندما يتبدد ويتشتت في الفراغ في نهاية المطاف. مرة أخرى، لتوضيح الأمور بمصطلحات المخاطر الحديثة، ربما تكون هذه الفكرة مرتبطة بفقدان الغلاف الجوي الواقي. أيضًا، أيد الرواقيون، المنافسون الفلسفيون للأبيقوريين خلال الفترتين الهلنستية والرومانية، بقوة فكرة الزمن الدوري الحلقي والعودة الأبدية. وقد زعموا أن العالم يتحطم ويتجدد وينبعث دوريًا بالنار، وهو ما أطلقوا عليه اسم “الإكبريوسيس – الاحتراق العام” (ومع ذلك، رفض بعض الرواقيين هذه النظرية).

وهنا يمكن القول إن التقليد الفلسفي اليوناني والروماني القديم يقبع ويكمن تحت العديد من الرؤى المعاصرة للمستقبل. والسيناريوهات المعاصرة الشائعة التي ترى أن الإنسانية تحاول إعادة بناء نفسها بعد حدوث كارثة عالمية، مثل رواية “الطريق” لكورماك ماكارثي (2006) أو المسلسل التلفزيوني “الموتى السائرون” (2010-22)، مدينة بشكل كبير لنظريات أفلاطون أكثر منها لنظريات نهاية العالم بالكتاب المقدس. إذ يعتقد أفلاطون أن هناك دائمًا ناجين بعد كل كارثة عالمية. وفي حواره “القوانين”، قدّم أفلاطون وصفًا لكيفية إعادة بناء المجتمع ببطء من الناجين من الكارثة: وعلى عكس الرؤى المعاصرة لفكرة ما بعد نهاية العالم التي تدور حول الندرة والصراع، يفترض أفلاطون أن “النزاعات الأهلية والحروب” ستختفي وسيتصرف الناس “بلطف وود متبادل”. وبالمثل، قد تبدو الرؤى المعاصرة لكارثة علمانية، تعتمد على الصدفة بدلًا من خطة الله، وكأنها تمثل فكرة حديثة تمامًا، كما ادعى بعض العلماء مؤخرًا. ومع ذلك، حتى هذا السيناريو له سابقة مهمة، حتى وإن تم إغفالها والتغاضي عنها، في الفلسفة القديمة. لم يكن الأبيقوريون ملحدين، لكنهم اعتقدوا أن الآلهة لم تلعب أي دور في ترتيب العالم. بل تُرِك خلق العوالم وتدميرها لتذبذب وانحراف الذرات العشوائي عبر الفراغ. في هكذا نظام، حتى نهاية العالم يمكن أن تكون حدثًا مفاجئًا عن طريق الصدفة. وقد أكد الروماني الأبيقوري لوكريتيوس في الخمسينيات قبل الميلاد هذه النقطة في قصيدته “عن طبيعة الكون” (De rerum natura):

ربما يمنح الحدث نفسه مصداقية لكلماتي، وقريبًا سترى كل شيء يهتز بقوة بسبب الزلازل. أتمنى أن تبقي فورتونا قائدة الدفة كل ذلك بعيدًا عنا، وأن يقنعك المنطق -بدلاً من الحدث- بأن كل شيء يمكن أن يُسحق ويسقط بانهيار مرعب.

ومع ذلك، لم تكن التكهنات الفلسفية القديمة عن نهاية العالم معنية فقط بمثل هذه الأسئلة الكونية الأكبر والأشمل. إذ يمكن أيضًا استخدام التفكير في نهاية العالم لأغراض عملية يومية أكثر. ويتضح هذا بشكل خاص من خلال الفلاسفة الرومانيين الرواقيين والأبيقوريبن، الذين ربطوا الفيزياء (دراسة طبيعة الكون) بشكل وثيق بالأخلاق وكيفية عيش حياة جيدة. فكثيرًا ما يستخدم لوكريتيوس نهاية العالم للمساعدة في التخفيف من وطأة الخوف من الموت. ويناقش الفيلسوف الرواقي سينيكا (4 قبل الميلاد – 65 م) كيف يمكن أن يكون تخيل نهاية العالم بمثابة عزاء بعد وفاة شخص مقرب أو وسيلة للتخفيف من مشاعر الوحدة.

وكان أحد الأهداف الرئيسية للفلسفة الرواقية هو أن تكون قادرًا على التعامل ومواجهة كل حدث وتحدي بفهم واتزان ومرونة، بما في ذلك نهاية العالم. حتى إن الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس (121-180 م) كتب عن نهاية العالم كجزء من ممارسته اليومية للفلسفة: “كل شيء في الوجود سيتغير بسرعة: إما سيتحول إلى بخار، إذا كانت طبيعة الكون واحدة، وإما سيتشتت ويتبعثر”. وعلى الرغم من أنه يُنظر عادة إلى ماركوس أوريليوس باعتباره فيلسوفًا رواقيًا، فعندما يتعلق الأمر بتصور نهاية العالم، لا نجده متعصبًا. إنه يستمتع بالسيناريوهات الرواقية والأبيقورية. إما أن يحترق العالم ويتبخر وفقًا للاحتراق العام وإما تتفرق ذراته في الفراغ. ما نتطرق إليه ونسلط عليه الضوء هنا ليس فقط قبول الإمبراطور لأنظمة فلسفية أخرى، ولكن أيضًا حقيقة أن التفكير والكتابة حول نهاية العالم هي جزء من “تمارينه الروحية” – انخراطه اليومي في الفلسفة الذي يساعده على عيش الحياة الجيدة. وعلى ما يبدو أن الأدلة النفسية الحديثة تدعم هذه الرؤية القديمة. إذ يمكن أن يكون تصور نهاية العالم مفيدًا لك من خلال مساعدتك على تطوير المرونة النفسية.

اليوم، غالبًا ما تبدو التهديدات المتزايدة والمتعدد بحدوث كارثة عالمية مرهقة وغير مفهومة. وعلى هذا النحو فإنها قد تثير الشعور بالخوف والعجز و”الهلاك”. لا يقدم التقليد الفلسفي القديم عن نهاية العالم حلًا سحريًا للشفاء من مخاوفنا الحالية بشأن المستقبل. فهؤلاء الفلاسفة القدماء لم يضطروا لمواجهة المخاطر الوجودية الأنثروبوجينية التي نواجهها حاليًا، ولم يسع أي فرع من فروع الفلسفة اليونانية والرومانية لمنع نهاية العالم. ومع ذلك، قد يقدم لنا هذا التقليد طريقة لإعادة توجيه أنفسنا نفسيًا حيال الكوارث المستقبلية والمخاطر الوجودية. يمكننا اتباع نصيحتهم وقبول نهاية العالم برباطة جأش. أو يمكننا الاعتماد على رؤاهم والانتقال إلى مهمتنا التالية من تشكيل مستقبل أقدر على الصمود في وجه الكوارث، إن لم يكن خاليًا منها.

  • ترجمة: رنا عبد الرحمن
  • تدقيق علمي ولغوي: موسى جعفر
  • المصادر: 1