هل ثمة قوة خامسة؟

في السنوات الأخيرة، تصدرت مجموعة من الباحثين المجريين عناوين الأخبار بإعلان جريء، إذ زعموا أنهم اكتشفوا جسيمًا جديدًا -أطلقوا عليه X17- يتطلب وجود قوة خامسة للطبيعة.

رغم ذلك، لم يكن الباحثون يبحثون عن هذا الجسيم الجديد، بل ظهر كشذوذ غير عادي على جهاز الكشف الخاص بهم في عام 2015، في أثناء بحثهم عن علامات تشير إلى وجود المادة المظلمة. لم يجذب هذا الشذوذ الكثير من الانتباه في البداية، لكن في نهاية الأمر، نظرت مجموعة من الفيزيائيين البارزين في جامعة كاليفورنيا في إرفاين إلى الأمر عن كثب واقترحت أن المجريين عثروا على نوع جديد من الجسيمات، مما يعني وجود قوة طبيعية جديدة تمامًا.

ثم في أواخر عام 2019، انتشر الاكتشاف المجري على نطاق واسع -بما في ذلك قصة بارزة عُرِضت على شبكة سي إن إن- عندما أعلنوا عن نتائج جديدة تشير إلى أن إشارتهم لم تختفِ، إذ استمر هذا الشذوذ في الظهور حتى بعد أن غيَّروا معلمات تجربتهم، وقد شهدوا ظهوره بالطريقة نفسها مئات المرات.

أثار ذلك حماس بعض الفيزيائيين بشأن إمكانية وجود قوة جديدة. لكن حتى لو لم تكن هناك قوة غير معروفة مسؤولة عن الإشارة الغريبة، فقد يكون الفريق قد كشف عن بعض الفيزياء الجديدة التي لم يسبق رؤيتها من قبل. وإذا ثبت ذلك، يعتقد البعض أن القوة الجديدة قد تقرِّب الفيزياء من نظرية موحدة كبرى للكون، أو حتى تساعد في تفسير المادة المظلمة.

ومع ذلك، ما يزال معظم العلماء متشككين. ولسنوات عديدة، زعم باحثون مرتبطون بالمجموعة المجرية اكتشاف جسيمات جديدة لكنها اختفت فيما بعد. لذا، يفضِّل العلماء الآخرون الانتظار للحصول على مزيد من البيانات التي تؤكد أو تدحض الاكتشاف المحتمل الذي قد يغير المفاهيم، ولكن ربما يكون الانتظار طويلًا.

تقول دانييل ألفيس، عالمة الفيزياء النظرية في مختبر لوس ألاموس الوطني: “من منظور فيزياء الجسيمات، تأتي الشذوذات وتختفي. لقد تعلمنا مع مرور الوقت ألا نتحيَّز كثيرًا لتفسير أو لآخر، فالمهم هو الوصول إلى حقيقة هذا الأمر”.

🔺القوى الأربعة الأساسية

تُعلَّمنا كتب الفيزياء المدرسية أن هناك أربع قوى أساسية في الطبيعة: الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوى النووية القوية والضعيفة.

إننا على دراية تامة بأول قوتين. فالجاذبية تثبِّتنا على الأرض وتجذبنا حول الشمس، بينما تحافظ الكهرومغناطيسية على إضاءة المصابيح. أما القوتان الأخريان فهما أقل وضوحًا بالنسبة لنا لأنهما تحكمان التفاعلات على أصغر المقاييس. فالقوة النووية القوية تربط المادة بعضها ببعض، بينما تصف القوة النووية الضعيفة التحلل الإشعاعي للذرات.

تُحمل كل من هذه القوى بواسطة نوع من الجسيمات دون الذرية التي يطلق عليها الفيزيائيون بوزونات. على سبيل المثال، الفوتونات هي الجسيمات الحاملة للقوة في الكهرومغناطيسية. بينما تحمل الجلوونات القوة النووية القوية، أما البوزونات W وZ مسؤولة عن القوة النووية الضعيفة. ثمة أيضًا بوزون افتراضي للجاذبية يسمى الجرافيتون، على الرغم من أن العلماء لم يثبتوا وجوده.

ومع ذلك، إذا سألت العديد من علماء الفيزياء النظرية، فمن المحتمل أن يخبروك بأننا لم نكتشف كل قوى الطبيعة بعد. ثمة قوى أخرى من المحتمل أن تكون موجودة، تنتظر من يكتشفها. على سبيل المثال، يظن البعض أن اكتشاف المادة المظلمة قد يكشف عن قوة جديدة ضعيفة.

وهنا يأتي دور المجموعة المجرية. من دون الدخول في التفاصيل، أطلقت المجموعة بروتونات على عينة رقيقة من الليثيوم-7، التي تحللت إشعاعيًا بعد ذلك إلى البريليوم-8. وكما كان متوقعًا، أدى ذلك إلى نشوء أزواج من البوزيترونات والإلكترونات. ومع ذلك، رصدت أجهزة الكشف أيضًا إشارات تحلل مفرطة تشير إلى وجود محتمل لجسيم جديد وضعيف جدًّا. إذا كان هذا الجسيم موجودًا، فإنه سيزن حوالي 1/50 من كتلة البروتون. وبسبب خصائصه، سيكون بوزونًا جسيمًا حاملًا للقوة.

لكن التاريخ يحمل في طياته الكثير من الأسباب التي تدعو إلى تشكيك في الإضافات والاكتشافات الجديدة. ففي العقود الأخيرة، ادعت مجموعات أخرى أيضًا أنها وجدت قوة خامسة، لكن هذه الادعاءات تلاشت بهدوء. حوالي عام 2000، اقترحت إحدى المجموعات قوة جديدة، تُسمى الجوهر ’الكوانتس‘، لتفسير الاكتشاف -الحديث وقتها- للطاقة المظلمة. في الثمانينيات، قالت مجموعة من الفيزيائيين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنها اكتشفت قوة خامسة، أطلقت عليها “الشحنة المفرطة”، وهي تعمل كنوع من الجاذبية المضادة. ومع ذلك، فإن كُتبنا المدرسية ما تزال تُدرِّس نفس القوى الأربعة الأساسية التي كانت لدينا قبل عقود.

هذا يعني أن التفسير الأكثر ترجيحًا للإشارة الجديدة غير المفسرة هو أن ثمة شيٌ غير صحيح في إعداد جهاز الكشف المجري. ومع ذلك، لا أحد يجادل حول صحة البيانات، فقد خضعت النتائج للمراجعة ونُشرت في مجلةPhysical Review Letters، المجلة نفسها التي نشرت اكتشاف الموجات الثقالية. حتى الأفكار المنشورة في المجلات المرموقة يمكن تفسيرها أحيانًا كخطأ منهجي، لكن هكذا تعمل العلوم.

تقول ألفيس: “الناس مهتمون لمعرفة ما إذا كان هذا حقًا تأثيرًا فيزيائيًا نوويًا أم أنه شيء منهجي. من المهم تكرار تلك التجارب حتى نتمكن من اختبار ما إذا كان هذا حقيقيًا أم أنه عيب في الطريقة التي تُجرى بها التجربة”.

🔺السعي للتأكد

وهذا هو بالضبط ما تأمل المجموعة أن تفعله. فهي تقترح تكرار التجربة المجرية مع فريق صغير باستخدام المعدات الموجودة بالفعل في لوس ألاموس. لقد كان هذا المختبر الوطني رائدًا في مجال الفيزياء النووية منذ إنشاء القنبلة الذرية. واليوم، ما يزال الآلاف من أفضل علماء الفيزياء يعملون هناك على حل مشاكل تتراوح ما بين حماية ودراسة الترسانة النووية للبلاد، وصولًا إلى ريادة الحواسيب الكمومية ومراقبة النجوم النابضة.

كما اتضح أن لديهم أيضًا جهاز كشف مماثل تقريبًا لذلك الذي استخدمه الفريق المجري.

عندما نجمع كل ذلك معًا، تعتقد ألفيس أن لوس ألاموس لديه التركيبة الصحيحة تمامًا من المرافق والخبرات لتكرار التجربة. ولهذا السبب عملت مجموعتها بهدوء على اقتراحها خلال الأشهر الستة الماضية، وقد قدمت مؤخرًا طلب تمويل للمراجعة. وللحصول على الموافقة، سيتعين على المجموعة الفوز في مسابقة سنوية إلى جانب مشاريع أخرى في المختبر الوطني.

في السنوات الأخيرة، اقترحت عدة مجموعات أخرى أنها ستبحث عن هذه القوة. لكن في الوقت الحالي، تعتقد ألفيس أنهم المجموعة الرئيسية في الولايات المتحدة التي تعمل على تأكيد أو دحض الاكتشاف. إذا لم تتمكن مجموعتها من الحصول على الموافقة، قد تمر سنوات قبل أن تتمكن جامعة أو مجموعة أخرى من تأمين التمويل والخبرة لتكرار التجربة بنفس المعلمات التي استخدمها المجريون.

وكما الحال مع جميع الادعاءات غير العادية، فإن هذا الاكتشاف المحتمل الذي قد يغير المفاهيم سيتطلب أدلة استثنائية قبل أن يقبله الناس. لذا قد نضطر إلى الانتظار بعض الوقت قبل أن نعرف ما إذا كان جسيم X17 وقوته الخامسة المحتملة سيُحدِثان ثورة في الفيزياء، أم سيأخذان مكانهما على رأس سلة مهملات الاكتشافات المدحضة المُتخلَّص منها.

  • ترجمة: رانا عبد الرحمن ولايه
  • تدقيق علمي ولغوي: روان نيوف
  • المصادر: 1