يوجد الإشعاع في كلّ مكان، لكنّه ليس ضاراً دائماً
على الرّغم أنّ الإشعاع يثير الخوف، إلا أنّه ليس مؤذياً بالضرورة. فهنالك ما يجب أن تعرفه عن أنواع الإشعاع الأربع.
معظم الناس يفسّرون الإشعاع بكونه أمراً سيئاً لكن ذلك ليس حقيقياً بالمطلق. في الحقيقة إنّ الإشعاع ظاهرةٌ طبيعية. كبداية يمكننا أن نصف الطّاقة التي يصدرها شيءٌ ما بالإشعاع. فالمادّة المشعّة تصدر الطاقة إماً بشكل جزيئات أو بشكل أمواجٍ كهرومغناطيسية. هذه الجزيئات تكون عادةً الكترونات أو ذرّات، والأمواج قد تكون من أيّ مجال من الطيف الكهرومغناطيسي. فشبكة الواي فاي الخاصّة بك التي تصدر أمواج كهرومغناطيسية تجعل من نقطة الوصول المنزلية مصدراً للإشعاع، وكذلك الأمر بالنسبة للمصباح الكهربائي المعلّق بالسقف. في الواقع حتى أنت تعدّ مصدراُ للأشعة تحت الحمراء بسبب حرارة جسدك.
إلا أنّ معظم الناس لا تملك تلك الفكرة عن الإشعاع. فالذي نطلق عليه تسمية “إشعاع” بشكل شائع يعدّ نوعاً خاصاُ في الواقع: هو الأشعة المؤيِّنة. فعندما يصدر شيءٌ إشعاعاً مؤيِّناً، فهو يطلق كمية كافية من الطاقة والتي بتفاعلها مع موادّ أخرى يمكن لها أن تحرر الكتروناُ من ذرّته. وهذا الالكترون بدوره يمكن له أن يتفاعل مع ذرات أخرى بمطلق الحرية، أو ربما يهيمُ فقط في الفراغ. لكن أياً كان ما يفعله الالكترون فإنه مغادرته لذرّته الأصلية ندعوها بعملية التأيّن.
اُكتشفت الأشعة المؤيّنة بالصدفة. قبل اختراع الهواتف الرقميّة، حين كان الناس يلتقطون صورهم على شريط الفيلم، كانت فكرة التصوير قائمة على تعرّض شريط الفيلم للضوء ليحدث فيه تفاعل كيميائي من شأنه أن يولّد صورة عند تحميض الفلم. في عام 1896 اُكتشف عالم الفيزياء الألماني هنري بيكريل النّشاط الإشعاعيّ عندما أدرك أن أملاح اليورانيوم أثّرت على شريط الفيلم الفوتوغرافي الذي لم يسبق تعرّضه للضوء وما زال في غلافه. أنتج اليورانيوم تأثيراً بطريقة ما مشابهاُ لتأثير الضوء، لكن على خلافه يمكن له أن يعبر الغلاف الورقي.
تبيّن أن اليورانيوم مشعّ بشكل طبيعي وأنه نوعٌ من الأشعة المؤيّنة. ينتج اليورانيوم أمواج كهرومغناطيسية من طيف أمواج غاما. يتفاعل إشعاع غاما مع شريط الفلم بشكلٍ مشابهٍ للضّوء المرئي، لكنهما يختلفان في إمكانيّة أشعة غاما لعبور الورق.
ربما لن تتعامل مع اليورانيوم بشكل مباشر في حياتك اليومية لكنك حتماً ستتعرض لأشعة مؤيّنة بمستويات آمنة في العديد من التطبيقات. على سبيل المثال، فإنّ أجهزة كشف الدّخان تستعمل مصدراً إشعاعياً لكشف الدخان في الهواء. ينتج المصدر الإشعاعيّ جزيئات مشحونة (جزيئات ألفا في معظم الحالات) تقوم بتأيين الهواء داخل جهاز الكشف، والذي بدوره يولّد تياراً كهربياً في الهواء. إذا دخلت الجزيئات الصّغيرة من الدّخان داخل جهاز الكاشف ستقوم بإعاقة التيار الكهربائي. عندها يرسل جهاز الكاشف إشارة ليصدر ضجيجاً يصمّ الآذان يعلن عن وجود حريق أو ربما قد تكون حرقت وجبة العشاء على الموقد.
80% من الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة يتمّ توليدها من محطّات الطاقة النووية والتي تنتج بوضوح أشعة مؤيّنة. كما يصدر عن التّصوير الطبيّ باستخدام أشعة اكس أشعة مؤيّنة. تُطلى بعض الأواني الخزفيّة بطلاء من اليورانيوم ونعم ذلك يصدر إشعاعاً. تقنياً يعدّ الموز مشعاً نظراً لاحتوائه على تراكيز عالية نسبياً من البوتاسيوم. قد تصلنا أشعة مؤيّنة من الفضاء الخارجي وتلك ندعوها بالإشعاعات الكونيّة.
بالنسبة لمصادر الإشعاع العديدة التي تتعرّض لها في حياتك اليوميّة فإنّ كميّة الإشعاع قليلةٌ جداً ولا داعي للقلق حولها. لكن لا يمكننا إغفال أن الأشعة المؤيّنة خطيرةٌ أيضاً، حيث تتفاعل الالكترونات الحرّة مع الجزيئات في خلايا وأنسجة جسم الإنسان. إن إضافة إلكترون تكسرُ الروابط الكيميائيّة التي تجمع الجزيئات إلى بعضها. ولهذا السبب ترتبط الجزيئات المشعّة بالأسلحة النوويّة وتؤدي انهيارات محطّات الطاقة النووية إلى زيادة خطر الإصابة بالسرطان.
هنالك أربعة أنواع من الأشعة المؤيّنة: ألفا، بيتا، غاما والإشعاع النيوتروني. سنعرض لكم ما الذي يحصل مع كلّ نوعٍ منها وكيف يمكن الكشف عنهم.
جسيمات ألفا
في عام 1896 لم يكن أيّ أحد على علمٍ بشيء عن الإشعاع. لم يعلموا فيما إذا كان جسيماً أو نوعاً من الأمواج الكهرومغناطيسية كالضوء. لذا قرّروا استعمال مصطلح (الأشعّة) بالمعنى العام كأشعة الضوء. وبهذا لدينا مصطلحات كأشعة ألفا أو أشعة غاما ما زلنا نسمع بها.
لكن (تحذير بالحرق) أشعّة ألفا ليست بأمواج. إنها بالحقيقة جسيمات مشحونة كهربائياً. يتألف جسيم ألفا من بروتونين ونيوترونين. وهذا يعني أن جسيم ألفا هو ذرّة هيليوم منزوعة الالكترونات (نعم كان عليهم أن يطلقوا عليها جسيمات الهيليوم لكن لم يعلم أحدٌ حينها ما الذي يجري).
كيف يمكننا أن نقول أنها أشعة ألفا وليست نوعاً آخر؟ يكمن الجواب في أنّ جسيمات ألفا يمكن اعتراضها بسهولة باستخدام أداة برقّة الورقة. فإذا كان لديك مصدرٌ لجسيمات ألفا، يمكنك تغطية الكاشف – كشريط الفلم- بكميّة قليلة جداً من المادة.
السّبب في كون جسيمات ألفا سهلة الاعتراض أنّها جسيمات ثقيلة وتنطلق من المصدر الإشعاعي بسرعة بطيئة نسبياً. وأيضاً تتشكّل قوة كهربائية سكونيّة، بسبب شحنتها الكهربائيّة المعادلة لبروتونين، بين جسيم ألفا والنواة الموجبة للورقة. (نشير لذلك ب 2 e حيث أن الرمز e هو الشحنة الأساسية لالكترون أو بروتون). ولا تحتاج الورقة للكثير من هذه الذرّات لأجل اعتراض مرور جسيم ألفا بالنهاية.
هل تعلم ماذا يمكنه اعتراض جسيم ألفا أيضاً؟ إنه جلد الإنسان. لذلك تعدّ أشعة ألفا من أقل أنواع الإشعاع ضرراً للإنسان.
جسيمات بيتا
صنّف العالم إرنست روزرفورد الإشعاع إلى ثلاثة أنواع: ألفا، بيتا وغاما. في حين يمكن اعتراض جسيمات ألفا بسهولة، يمكن لجسيمات بيتا وغاما أن تعبر خلال حاجزٍ معدنيّ وتخترق مسافةً أكبر ضمن المادّة بسبب كتلتهم الأصغر. في الحقيقة إنّ جسيمات بيتا هي الكترونات (الجسيمات الأساسيّة المشحونة سلباً). إن جسيم ألفا أكبر من جسيم بيتا ب 7000 مرة، وهذا يعني أنّه يمكن إصدار جسيمات بيتا صغيرة الكتلة بسرعةٍ كبيرة جداً لتتمكن من اختراق الأشياء ومن ضمنها جسم الإنسان.
أشعة غاما
غاما أشعةٌ في الواقع وليست جسيمات. وهي التّصنيف الثّالث من الإشعاع ونوعً من الأمواج الكهرومغناطيسية كالضوء المرئي.
إلا أنّ الضوء الذي تراه بعينيك طوله الموجيّ يتراوح بين 400-700 نانومتر، بينما أشعّة غاما ذات أطوال موجية أصغر من ذلك. يبلغ الطول الموجيّ لأشعة غاما 100 بيكومتر.
(ملاحظة: 1 بيكومتر= 10-12 متر، 1 نانومتر= 10-9 متر). وهذا يعني أنّ الطول الموجيّ لأشعّة غاما أصغر ب 1000 مرّة من الضّوء المرئيّ. ونظراً لهذا الطول الموجيّ القصير والتردّد العالي جداً يمكن لأشعة غاما أن تتفاعل مع المادة بكميّاتٍ هائلة من الطاقة. ويمكن لها أيضاً أن تخترق عميقاً نوعاً ما في المواد، لذلك يلزم قطعةٌ كبيرةٌ من الرصاص لاعتراض هذا النوع من الإشعاع.
الإشعاع النيوتروني
هنالك نوع رابعٌ من الإشعاع لكنّه مختلفٌ قليلاً عن الثلاث الآخرين. تعدّ ألفا، بيتا وغاما أنواعاً للأشعة المؤينة التي يمكن لها أن تزيح الكتروناً عن ذرّته. في حين أنّ الأشعة النيوترونية هي إصدار لنيوترون من نواة مشعّة.
وحيث أن النيوترونات شحنتها صفر ومشابهة للبروتونات، فهي لا تتفاعل مع الإلكترونات. عوضاً عن ذلك فإنّه عند تصادم نيوترون مع ذرّة، قد يشطر النيوترون الذرّة إلى اثنتين (وتصدر كميّة هائلة من الطّاقة) أو تُمتصّ النواة هذا النيوترون. لينشأ النّظير الذرّي وهو ذرّة بعددٍ مختلف من النيوترونات وربما غير مستقرة. تتعرّض النّواة غير المستقرّة للتحلّل الإشعاعيّ وتصدر جسيمات بيتا وأشعة غاما. وهذا التفاعلات الثانويّة تصدر الأشعة المؤينة.
يمكن للنيوترونات أن تخترق بسهولة العديد من الموادّ بسبب عدم امتلاكها لشحنةٍ كهربائية، فيكون حجبها أكثر صعوبة. أفضل طريقة لحماية الأشياء والأشخاص من الإشعاع النيوتروني هي من خلال إبطاء سرعة الجسيمات. وتبيّن أنّه يمكن فعل ذلك بالهيدروجين. عند تفاعل نيوترون مع جزيئات تحتوي الهيدروجين مثل الماء والكربوهيدرات، هذا التّصادم يبطئ من سرعة النيوترون قليلاً. وكلما ازداد عدد التصادمات تبطؤ سرعة النيوترونات أكثر. في النهاية تصبح بطيئة إلى الحدّ الذي لا تسبب فيه ضرراً.
كشف الإشعاع
توجد العديد من الطرق التي نستطيع من خلالها الكشف عن كلّ أنواع الإشعاع. يعدّ عداد غايغر النوع الذي يعرفه معظم الأشخاص (غالباً من الأفلام)، والذي يُعرف أيضاً باسم عداد غايغر مولر.
إنّ الأنبوب المثبّت على الصّندوق هو الجزء الأهمّ من الجهاز. يحتوي الأنبوب على غاز كالهيليوم أو الأرغون، وسلكٌ يمرّ على طول محور الأنبوب. يُطبّق فرق كمون كهربائي كبير بين السّطح الخارجيّ للأنبوب والسّلك المركزيّ، كما في الصّورة:
عندما تعبر جسيمات ألف وبيتا وأشعة غاما خلال الغاز في الأنبوب، تستطيع أن تؤيّن ذرّة لتصدر الكتروناً حراً. ينجذب هذا الإلكترون للشّحنة الموجبة للسّلك المركزيّ. وخلال حركة الإلكترون نحو السّلك تتزايد سرعته ويصطدم بجزيئات الغاز ليقوم بتحرير المزيد من الإلكترونات. وبدورها هذه الإلكترونات الجديدة ستتحرّك نحو السلك موجب الشحنة محرّرةً المزيد من الالكترونات أيضاً. هذا ما ندعوه بانهيار الإلكترونات، الكترون واحد ينتج عنه شلال من الإلكترونات.
لحظة وصول الإلكترونات للسّلك، يتولّد تيارٌ كهربائي، يتم تضخيمه وإرساله لمَدخل صوتي. فينتج عن هذا الانهيار الالكتروني المضخَّم الصوت الكلاسيكي (تِك) الذي تسمعه من عداد غايغر.
توجد طريقةٌ أخرى لكشف الإشعاع باستخدام الومّاض. وهو جهاز مصنوعٌ من مادة كريستاليّة أو مشابهة للبلاستيك مصنوعة بشكل مخصّص. عند مرور أيّ من أنواع الإشعاع الأربعة خلال الومَاض، يصدر كمية ضئيلة من الضوء المرئي. ومن ثمّ نحتاج فقط لجهاز للكشف عن هذا الضوء، والأكثر استخداماً لذلك هو المضخّم الضوئي. وبالطبع بما أنك تستخدم الومّاض لكشف الضوء، فيجب أن تحجبه عن مصادر الضوء الخارجيّ عن طريق تغطيته بشيء ما كالشريط الكهربائي.
وعلى نحو مثير للدهشة فأنت قد تمتلك جهازاً كاشفاً للإشعاع في جيبك. فمن الممكن استخدام الجهاز الذكيّ للكشف عن أشعة غاما وأشعة اكس. وإليك كيف تعمل: لكاميرا جهازك الخلويّ حسّاس للصورة، وبالحالة العادية عندما يصل الضوء العادي لأجزاء مختلفة من الحساس، يُصدر الحساس إشارة كهربية معقّدة. لتتحوّل هذه البيانات إلى صورة رقمية لسيارتك أو كلبك أو أي صورة ترغب بالتقاطها. ويمكن أن يستجيب هذا الحساس أيضاً لكلّ من أشعة غاما وأشعة إكس. لكن ستحتاج إلى برمجيّات معينة وأداة لحجب الضوء المرئي عن الكاميرا كشريط لاصق أسود، وستحصل على جهاز كاشف للإشعاع.
بالطبع بما أن الحساس في جهازك ضئيل جداً كي يسع في جيبك، وذلك يعني أنه ليس فعالاً كفاية، لكّنه بالتأكيد كاشف للإشعاع. ليشبه وجود عداد غايغر في ساعة اليد التي استعملها جيمس بوند في فلمه كرة الرّعد، إلا أنّ ما نتكلم عنه حقيقيّ.
- ترجمة: نور علي عثمان
- تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
- المصادر: 1