المرض النفسي: وراثة أم اكتساب؟

يتألّف الاعتلال النفسي من مجموعة سمات تتعلق باستغلال الآخرين، ويتضمن هذا التعريف عاملين منفصلين يشكِّلان الاعتلال النفسي.

يمكن تعريف العامل الأول بأنه عامل متعلق بالعلاقات الشخصية؛ إذ يرتبط بلباقة الحديث أو الجاذبية السطحية، بالإضافة إلى وجود ميل لاستغلال الآخرين. أما العامل الثاني فيمكن تعريفه بأنه عامل اندفاعي، فضلًا عن ارتباطه بوجود تاريخ من السلوك الإجرامي المتكرر والمتنوع. وفي حين يُنظر إلى العامل الأول عادةً على أنه أكثر إثارةً للاهتمام من الناحية النظرية (لأنه ما يميِّز مرضى الاعتلال النفسي ’السيكوباتيون‘ عن معظم المجرمين)، فإن ارتباط العامل الثاني بالسلوك يعني أنه الأكثر قدرة على التنبؤ حينما يتعلق الأمر بالنتائج الإجرامية (هار ونيومان، 2008).

يُعدّ الاعتلال النفسي أفضل مؤشر فردي على الجرائم العنيفة والعودة إلى الإجرام (إعادة ارتكاب الجرائم بعد إطلاق سراح المصاب). إذ يرتكب المرضى المضطربون نفسيًا الجرائم أكثر بما يعادل 2.5 مرة مقارنةً بالأفراد العاديين (غاتنر وآخرون، 2023). ويشكّل مرضى الاعتلال النفسي ما بين %25 إلى %50 من إجمالي عدد المجرمين العنيفين في معظم عينات السجون الغربية. وفي الولايات المتحدة وحدها، يتسبب الاعتلال النفسي في أضرار إجرامية تُقدَّر بمئات الملايين من الدولارات (غاتنر وآخرون، 2023).

لكن إذا كنت من الأفراد غير المحظوظين بما يكفي لتصادف شخصًا سيكوباتيًا في حياتك، فعليك أن تعلم أن هؤلاء الأفراد يمكن أن يتسببوا في أضرار عاطفية ومالية وجسدية مدمرة على المستوى الفردي أيضًا. وهذا ما يجعل محاولة فهم كيفية ظهور الاعتلال النفسي بين الأفراد أمرًا غايةً في الأهمية؛ فهل هو نتيجة للطبيعة أم التنشئة؟

سأعود إلى هذا السؤال بعد قليل، لكني أرغب أولًا في طرح سؤال أكثر عمقًا: لماذا يوجد مرضى مضطربون نفسيًا في المقام الأول؟

لماذا يوجد مرضى مضطربون نفسيًا؟

في الواقع، يعاني معظم المجرمين من طفولة محطّمة و/أو اضطرابات في النمو. ومن أحد الألغاز المتعلقة بالاعتلال النفسي هو أنه على عكس التشخيصات الأخرى غير المجتمعية (مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع أو السوسيوباتية)، فإن المصابين بالاعتلال النفسي غالبًا ما يبدون كأفراد طبيعيين جدًا في معظم المواقف.

فمنذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، يزعم بعض الباحثين بأن المرضى المعتلين نفسيًا ليسوا “أفرادًا مكسورين ومحطَّمين” ؛ بل إنهم يسعون بشكل تكيّفي إلى تحقيق أهدافهم باستخدام استراتيجيات اجتماعية مختلفة تمامًا عن الاستراتيجيات التي يتبعها معظم الناس. إن قدرتهم على خداع الآخرين والتلاعب بهم، حتى عندما تكون المخاطر عالية، يمكن أن تقودهم إلى مكافآت مثل المال أو الفرص الجنسية (برازيل وآخرون، 2024). فنمط الحياة المحفوف بالمخاطر والمتحرر الذي يعيشه المرضى المعتلون نفسيًا يعني أن معظمهم من الرجال، وأنهم يستغلون حسن النية في مجموعات كبيرة من الناس المحيطين بهم، ممن يكونون غالبًا متعاونين وموثوقين.

وفقًا لنظرية التطور، يُعرف هذا السلوك بكونه استراتيجية تعتمد على التردد. ففي مجموعة كبيرة من الأفراد المتعاونين إلى حد كبير، ثمة فرص لتسلّل فرد قاسٍ إلى داخل المجموعة واستغلال ذلك التعاون. لكن إذا ظهر عدد كبير جدًا من الأفراد القساة، فإن الناس يتوقفون عن الثقة ببعضهم البعض، ويختفي التعاون، وبالتالي تختفي أي ميزة مرتبطة بكون الفرد معتلًا نفسيًا.

لذا، قد تكون ثمة أسباب بيولوجية تكيّفيّة تفسِّر انخفاض عدد المرضى المصابين بالاعتلال النفسي (التقديرات تشير إلى وجود شخص واحد بين كل 100-200 فرد)، إذ ترتبط قدرتهم على استغلال الآخرين بفرص إنجابية أكبر، ولكن فقط إذا لم يكن الناس على دراية بهم ومتيقظين ضدهم. لكن كيف يأتي هؤلاء المرضى إلى الوجود في المقام الأول؟ هل تتشكل شخصياتهم من البيئة المحيطة بهم أم أنهم يُولَدون هكذا؟

هل يولد مرضى الاعتلال النفسي بهذه المشكلة؟

نظرًا لأنه قد يكون للاعتلال النفسي جذور تكيّفيّة، فمن المنطقي أن يكون له أيضًا جذور وراثية كغيره من الجوانب الأخرى للشخصية. في الواقع، تُظهر الدراسات الحديثة أنه يبدو أن ثمة عدد من الروابط مع الصفات الوراثية (دي بريتو وآخرون، 2021).

إذ تُظهر دراسات أُجريت على توائم قارنت بين التوائم المتطابقة (التي تحمل الجينات نفسها) والتوائم غير المتطابقة (التي تحمل 50% من الجينات المتشابهة) أن التوائم المتطابقة أكثر تشابهًا في درجات الاعتلال النفسي، الأمر الذي يشير إلى وجود تأثير مهم للجينات. وقد أظهرت أبحاث أخرى أن هذه التأثيرات قد تشمل جينات مرتبطة بوظيفة الناقلات العصبية الشائعة، مثل الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين، التي ترتبط جميعها بالشخصية والسلوك. لذا، فإن للاعتلال النفسي جذورًا وراثية.

هل يُكتسب الاعتلال النفسي؟

ومع ذلك، وبقدر ما تشير الأدلة إلى أن الاعتلال النفسي قد يكون مرتبطًا بالجينات، ثمة أيضًا أدلة تشير إلى أنه مرتبط بعوامل بيئية محددة. فعلى وجه الخصوص، قد تلعب الإشارات البيئية التي تعزّز قيمة استغلال الآخرين دورًا حاسمًا في تعزيز تطور الاعتلال النفسي.

فقد أظهرت الأبحاث الأخيرة (برازيل وآخرون، 2024) أن الإشارات الخاصة بإهمال الوالدين، والمدارس التنافسية، والأحياء الخطرة كانت جميعها مرتبطة بمستويات أعلى من الاعتلال النفسي بين المراهقين. ونظرًا لأن كل من هذه العوامل البيئية تشير إلى قيمة الاهتمام بالنفس، فإن ارتباطها بالاعتلال النفسي أمر منطقي. ومن المثير للاهتمام أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض (أو المرتفع) لم يكن مؤشرًا على الإصابة بالاعتلال النفسي، الأمر الذي يشير إلى أن ذلك لا يتعلق بالفقر العام أو الحرمان، بل بإشارات الأنانية التي تؤدي إلى تطور الاعتلال النفسي.

لكن ما قد يكون أكثر أهميةً من كل ذلك هو أن هذه المحفزات البيئية تربط بشكل غير مباشر بين الاعتلال النفسي والفرص القيّمة التي قد يحصل عليها المراهقين مثل فرص المواعدة والسلطة الاجتماعية. وبالتالي، لم يكن مرضى الاعتلال النفسي يعيشون في بيئات تعزز أنانيتهم فحسب، بل كانوا يتعلمون كيفية الاستفادة من تلك البيئات عن طريق التعبير عن صفاتهم الشخصية.

وعلى هذا النحو، فإن الطبيعة أو الوراثة تعمل يدًا بيد مع التنشئة على تعزيز الاعتلال النفسي. فكما يتطلب صنع بسكويت برقائق الشوكولاتة مكونات صحيحة وبيئة فرن مناسبة (على سبيل المثال الوقت ودرجة الحرارة)، يبدو أن الاعتلال النفسي يتطلب استعدادات شخصية مناسبة تعززها بيئات صحيحة تساعد في تعزيز الأهداف الصحيحة (أي الأهداف التي تتعلق بسمات الشخصية الأنانية).

إلى ماذا يقودنا ذلك الطرح؟

إن تغيير أي سمة من سمات الشخصية قد يكون مهمةً شاقة. فنحن لا نستطيع تغيير جينات الأفراد، ومن الصعب جدًا تغيير العوامل البيئية الأساسية مثل الأحياء والمدارس والتربية.

الخبر الجيد هو أن أحدث الأبحاث تشير إلى أنه بدلًا من استهداف مجموعة واسعة من الصفات البيولوجية أو البيئية، ربما ينبغي علينا التركيز على التدخل ضد التقاطع الصحيح بين هذه الصفات. وعن طريق تركيز الجهود على مزيج معين من الصفات البيولوجية الشخصية والعوامل البيئية، يمكن حصر جهودنا نحو تدخلات أكثر فعاليةً واستهدافًا تساعد على الحد من الاعتلال النفسي.

ستظل هذه الإجراءات مكلفة، لكنها ستكون بالتأكيد أقل كلفةً من مئات الملايين من الدولارات التي تسببها الأضرار الإجرامية الناجمة عن مرضى الاعتلال النفسي. فدرهم وقاية خير من قنطار علاج.

  • ترجمة: رانا عبد الرحمن ولايه
  • تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
  • المصادر: 1