
لماذا يؤمن الناس بنظريّات المؤامرة؟
تحيط بنا نظريّات المؤامرة من جميع أرجاء الشبكة العنكبوتية وتشمل مختلف الموضوعات المذهلة، من زيف فكرة الهبوط على القمر إلى الاعتقاد بأنّ الأرض مسطحة. وغالبًا ما يدحض المؤمنون جميع أدّلة نظريّات المؤامرة لتعارضها مع هذه المزاعم، ويدّعون أن الشهود والخبراء الذين يقدّمون تلك الأدلّة هم جزء لا يتجزأ من المؤامرة نفسها.
كقاعدة عامة، لا يحبّ الناس أن يكونوا غير قادرين على فهم الأشياء، فالإنسان بطبعه فضوليّ ويرغب بفهم ما يجري من حوله.
لم يشرح العلماء العديد من الظواهر التي واجهت البشريّة في الماضي، وكانت كلمة الفصل والإجابة البسيطة عن كل سؤال ليس له تفسير هي وجود سلطة عليا تفوق العلم. أما اليوم، بات العلماء قادرين على الإجابة عن كثير من الأسئلة التي لم يكن لها تفسير وكانت تثير الجدل حولها، ورغم أننا لا نملك دائمًا الإجابات، إلا أننا الآن وأكثر من أي وقت مضى نعي شرح كل أنواع الظواهر بدقّة.
مع أخذ كل ذلك بالحسبان، لماذا يؤمن الناس بنظريات المؤامرة مع وجود ذلك الكمّ الهائل من الأدلّة لإظهار أنّها خاطئة؟ ولماذا أضحت هذه النظريات سائدة اليوم؟ وما هي نظريات المؤامرة بالضبط؟
قالت كارين دوغلاس، أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة كنْت Kent في المملكة المتحدة، عبر رسالة بريد إلكتروني ل Live Science: «إنّ نظريّة المؤامرة هي اعتقاد بأنّ واحدة أو اثنتين من الجهات ذوات السلطة والنفوذ تتسلل خفيةً للوصول إلى نتيجةً ما، ويُعدّ “فضح” هذه المؤامرة هاجس شعبي».
ويوافق هذا التأويل الأستاذ هوغو دورشون، وهو أستاذ النظرية السياسية بجامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة. إذ قال ل Live Science: «إنّ نظرية المؤامرة في صميمها هي اعتقاد بأنّ هناك ثلّة من الناس المتخفّين يسيطرون على العالم بأسره. لهذا السبب نرى أنّ نظريّة المؤامرة نحو تغيّر المناخ ما هي إلا خدعة: (فباعتقاد أصحاب المؤامرة) إنّ هذه الثلة الخبيثة تسعى لإحكام قبضتها في السيطرة علينا».
إذن، كيف تنمو هذه النظريات وتزدهر؟ ما الذي يجعل أحدهم، أو مجموعة من الناس، يصرّون على أنّهم يُخدعون، ويُتعمَّد تضليلهم من خلال عصبة سريّة تحاول تدليس الحقائق؟
قال دانيال جولي، أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة نوتنغهام ل Live Science في رسالة بريد إلكتروني: «تحاول نظريات المؤامرة البدء معنا في فهم الأحداث المعقّدة، ويمكن القول أنّها تعطي حلولًا بسيطة للمشاكل الشائكة».
وقد أشارت دوغلاس أنّ مثل هذه المفاهيم غالبًا ما تنمو عندما يسعى الناس للحصول على إجابات في زمن التوترات، قائلةً: «تظهر هذه النظريّات عندما تحدث أحداث مهمّة ويرغب الناس حينها بالحصول على إجابات منطقيّة، ولاسيما، في الأزمات التي يشعر فيها الناس بالقلق والتهديد، فتنمو هذه النظريّات وتزدهر في ظلٍّ من الشكوك».
وأضافت دوغلاس: «ليس من الإنصاف القول أنّ كلّ نظريّات المؤامرة خبيثة، ففي كثير من الأحيان تنبع هذه النظريات من رغبة الناس في فهم المشاكل الصعبة».
“مكونات فريدة” تجعل نظريات المؤامرة تنتشر بسرعة
بمعنى آخر، ما الذي يساعد نظرية ما على الانتشار سريعًا؟ لقد أوضح جولي أنّ عددًا من العناصر يجب أن تكون موجودة، قائلًا: «يتطلّب تحقيق شعبيّة نظريّات المؤامرة وديمومتها اجتماع عدد من العناصر الفريدة، كأن يكون الحدث أو القضيّة شاملة ومهمّة، وأن يكون المتآمرون حقيقيّون (أي أن تكون المجموعة متماسكة)، وأن تكون على أرضيّة خصبة لتنمو».
ببساطة، تحتاج النظريّة لأن تلقى صدى مباشرًا لدى الأفراد الذين على استعداد لتصديقها، تحديدًا في الوقت المناسب الذي سيساعد على تصديقها بشكل أسرع، ولا بدّ من وجود مجموعة أو منظّمة مسؤولة.
وتابع جولي قائلًا: «لنأخذ جائحة كورونا 2019 كمثال. لقد كان حدثًا مهمًّا حاولت النّاس استيعابه، وكانت الأرض خصبة لأن مشاعر عدم اليقين والقلق مسيطرة، وهي من العناصر التي تساعد النظريّات على الانتشار والنمو».
ولاحظ جولي أن نظرية المؤامرة حول تأثير شبكة الجيل الخامس الخلوية اللاسلكية 5 G على الصحة البشريّة انتشرت لبرهة من الوقت، ولكن في عام 2020، ذهبت النظرية إلى أبعد من ذلك، فوفقًا لجولي «ساد حينها الاعتقاد أنّ 5 G لها علاقة بالإصابة بكوفيد 2019».
تعتبر هذه من أوضح الأمثلة عن نظريّات المؤامرة التي استمرّت لمدّة من الوقت، لكن لم تكن لتنمو وتزدهر لولا شعور الناس بعدم اليقين واستعدادهم لتصديق شيء ما قد يرفضونه لو طُرح بطريقة أخرى.
ففي نيسان/أبريل 2020، جاء في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز حول نظرية 5 G وتسببها بالإصابة بكوفيد، والذي ذكر وقوع «أكثر من 100 حالة» خلال شهر في المملكة المتحدة وحدها، لكونها تملك برجًا لاسلكيًّا في برمينغهام تنبعث منه الإشعاعات، هو «عارٍ عن الصحة».
بالطبع، لا يمكن للمرء أن يصدق كل مايقرؤه أو يسمعه. لذا، ما الذي يميّز الفرد الذي يؤمن بنظريّة المؤامرة عن ذلك المرتاب فقط؟
قال دورشون: «جميعنا قد ينتابه الشك في بعض الأحيان، ولاسيما عند الشعور بالضعف أو الاكتئاب، فذلك جزء من الطبيعة الإنسانية، ولكن الاختلاف بالنسبة لنظريّات المؤامرة هو عدم توفّر قدر كاف من المعلومات الجديدة التي تغيّر الاعتقاد الأساسي. هل حاولت يومًا إقناع شخص يؤمن بنظريّة المؤامرة أنّ أحداث 11 أيلول/سبتمبر لم تكن تدبيرًا داخليًا؟».
الانحياز التأكيدي وغرف الأصداء
ولكن، لماذا قد يصدّق الناس، ويتمسّكون في النهاية، بنظريات مؤامرة معيّنة؟ وما الذي يساهم في تصديق غرائب الأفكار أو الحوادث اللامنطقيّة رغم وجود الأدلّة التي تناقضها؟
قال جولي: «نحن نحبّ شعور السيطرة واليقين والقرب من ما يشبهنا الأمر الذي توفّره نظريّات المؤامرة».
تشير الأبحاث إلى أنّ غالبيّة البشر (65%) يرون أنّ “معدل ذكائهم أعلى من المتوسط”، ويُعزي الباحثون السبب إلى “ميل الأفراد للمبالغة بقواهم الإدراكية “.
ويرى جولي أنّ: «هذا الوعي فضلًا عن الإنحياز التأكيدي والترويج لغرف الأصداء، قد يكون له دورًا مهمًّا».
ويتابع: «عند السماع بإحدى النظريّات، يحرص الناس على الدفاع عنها، ويميلون إلى استيعاب المحتوى الذي يعزّزها، ويسعون لتكذيب المعلومات التي تتعارض معها، إضافةً إلى توجيه النظرة العالمية نحو عدم الثقة بالآخرين، ويمكن أن نرى كيف ينغمس الفرد في دائرة الشك».
هل هناك فئةً من الناس أكثر عرضةً للاعتقاد بنظريّات المؤامرة؟ أم أننا جميعًا معرضون لتصديق الفرضيّات غير المنطقية؟
أوضح دورشون: «ستجد المؤمنون بنظريّات المؤامرة في كل مناحِ الحياة، إلا أنّ بعضهم أكثر عرضةً لهذه الأفكار من غيرهم، لأن الأمر أشبه بشعور التهميش أو العزلة، مثل عدم الحصول على وظيفة، أو العيش أعزب».
وتابع: «في بعض الأحيان يؤمن الأفراد بنظريّات المؤامرة أكثر من غيرهم لأنهم يتبنون رؤية العالم رؤية مبسّطة، خير وشر، إلا أنّ الأمر يبدو أكثر تعقيدًا مما هو عليه. إنه يرتبط غالبًا بوجود الأقليّة، فالمتشدد دينيًّا في المجتمع العلماني، هو أكثر عرضةً لتقبّل هذه النظريّات، كذلك الأمر لدى الملحد في المجتمع المتديّن».
تعتبر دوغلاس أن الجميع معرّض للوقوع في فخ نظريّات المؤامرة إذا سنحت الظروف لذلك.
وتقول: «تشير الأبحاث إلى أنّ الناس تنجذب إلى نظريّات المؤامرة عندما تكون الاحتياجات النفسية لديهم محبطة. وأولها الاحتياجات المعرفية المرتبطة برغبة معرفة الحقيقة والوصول إلى الوضوح واليقين. أما الاحتياجات الأخرى فهي إمّا وجودية ترتبط بشعور الأمن والتحكم بالحوادث، أو اجتماعية كالحفاظ على التقدير الذاتي والإيجابيّة ضمن المجموعات التي ننتمي إليها. ولهذا السبب، لا أحد محصّن بالكامل من الوقوع فريسةً لنظريّات المؤامرة، وكلنا معرّضون لذلك عندما يكون هناك احتياجات نفسيّة غير مشبعة في مرحلة من المراحل».
- ترجمة: آيات حبيب
- تدقيق علمي ولغوي: عبير ياسين
- المصادر: 1