العملات الرقمية: وسيلة للدفع أم أداة للمقامرة؟

يمتلك معظم الأميركيين حسابات في المصارف، وهي مؤسسات موثوقة لتخزين الأموال، تخضع لتنظيم دقيق وتُؤمَّن على المستوى الفيدرالي. وتُعد بلا شك خيارًا أفضل من علب القهوة المملوءة بالنقود. غير أن نحو خمسة ملايين أسرة أميركية لا تملك حسابًا مصرفيًّا.

تجري مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية مسحًا دوريًا كل عامين لمعرفة الأسباب الكامنة وراء هذا العزوف. هل يعود السبب إلى انعدام الثقة؟ أم لبُعد المسافة؟ أم لرسوم الخدمات؟

وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أضافت المؤسسة سؤالًا جديدًا لأول مرة إلى استبيانها: هل يستخدم الناس العملات المشفرة مثل “بيتكوين” بديلًا عن المصارف؟

منذ ظهورها، سُوِّقت العملات المشفرة على أنها “مصرفك الخاص”، وخُيّل لكثيرين أن “بيتكوين” و”إيثيريوم” وأشباههما تقدم خيارًا ماليًّا أذكى. فهي مسجّلة في دفاتر رقمية غير قابلة للاختراق تُعرف ب “سلاسل الكتل”، ولا تحتاج سوى إلى اتصال بالإنترنت، بلا رقابة حكومية أو حواجز دخول.

تقول منصّة Coinbase، إحدى المنصّات الكبرى لتداول العملات الرقمية، إنها تُقدّم “بنية تحتية قادرة على أن تكون بديلًا قابلًا للتوسع للنظام المالي التقليدي”.

لكن السؤال الجوهري هو: مع وجود أموال من هذا النوع، هل لا يزال الناس بحاجة إلى المصارف؟

الجواب: نعم، تقريبًا الجميع!

فبحسب استطلاع المؤسسة، لا تتعدى نسبة الأسر التي تمتلك أو تستخدم العملات المشفرة 4.8%. وبين الأسر التي لا تتعامل مع المصارف، تبلغ النسبة بالكاد 1%.

ويُستخدم أكثر من 92.6% من العملات المشفرة كمجرد استثمار، لا كوسيلة دفع، في حين استخدمها 4.4% فقط للشراء. وهذا لا يشبه المال في شيء، فضلًا عن أن يكون بديلًا للنظام المصرفي العالمي.

رغم مرور أكثر من عقد على ظهور العملات المشفرة، لا يوجد أي دليل – بحسب مسؤول في المؤسسة – على أن الأسر غير المصرفية تستخدمها لتلبية حاجاتها المالية الأساسية.

لقد آن الأوان للاعتراف بحقيقة العملات المشفرة: إنها أصول مضاربية، محض إلكترونات مالية لا هدف لها سوى “الارتفاع”، بلا ارتباط بالعالم الحقيقي، ولا معيار خارجي يُقاس به سعرها. إنها، ببساطة، أداة مقامرة، يكثر استخدامها بين الأثرياء؛ فقد تبين أن 7.3% من الأسر التي يزيد دخلها على 75 ألف دولار تمتلك عملات مشفرة، مقابل 1.1% فقط من الأسر ذات الدخل دون 15 ألفًا.

فلماذا إذًا لم تتحول العملات المشفرة إلى عملة حقيقية؟

المال في جوهره وسيلة تبادل. فإذا أردت شراء شيء منك، أعطيك نقودًا بدل أن أعطيك ما يعادلها قيمة، بشرط أن نتفق على أن هذه النقود تساوي ما تعرضه. ولكي يُقبل المال، وفقًا للتعريف التقليدي، يجب أن يكون ذا قيمة جوهرية وموثوقة. لكننا لا نستخدم الذهب عملةً اليوم، فهو ثقيل ومحفوظ في الخزائن.

والحقيقة أن لا عملة قانونية معاصرة لها قيمة جوهرية بحد ذاتها؛ الدولار واليورو قيمتهما نابعة من الثقة الجماعية فيهما، لا من ذاتيهما.

المال إذًا “تكنولوجيا اجتماعية للمحاسبة”، اصطلاح اتفق عليه المجتمع.

لكننا لم نتفق بعد على أن العملات المشفرة تمثل هذا الاتفاق.

هي ذات قيمة، نعم، بل قيمة كبيرة؛ إذ تقترب القيمة السوقية الإجمالية لكل العملات المشفرة من 3.5 تريليون دولار، ويبلغ سعر البيتكوين قرابة 100 ألف دولار، أي ضعف سعره قبل عام.

لكن تقلب الأسعار، وطبيعة التعاملات الخوارزمية، تثير ريبة كثيرين. ووفقًا لدراسة أجراها مركز “بيو”، فإن 63% من الأميركيين “لا يثقون إلا قليلًا” بالآليات الرقمية المرتبطة بالعملات المشفرة، و5% فقط يثقون بها بدرجة عالية. وهذا لا يبدو جيدًا ل “تكنولوجيا اجتماعية” يُفترض أن تُبنى على الإيمان الجماعي.

فالعملة، مثل “تينكر بيل”، لا تعيش إلا إذا آمن بها الناس. وإذا كان اثنان من كل ثلاثة لا يثقون بها، فكيف يمكنها البقاء؟

لذا يسهل شراء العملات المشفرة وتداولها، لكن يصعب استعمالها.

أمازون لا يقبلها، ولن يُسمح لك باستخدامها في “وول مارت”. ويقول دارين أيلو، أستاذ التمويل بجامعة بريغهام يونغ: “حين تبدأ الحكومة الفيدرالية بقبول العملات المشفرة كوسيلة لدفع الضرائب، يكون ذلك مؤشرًا على الاعتراف بها. ولكن حاليًا، لا أستطيع حتى شراء حاجياتي اليومية بها”.

مؤيدو العملات المشفرة مؤمنون بها حقًا، لكن إيمانهم ينطلق من مصلحتهم الذاتية، فهم يملكون منها ويأملون في ارتفاع قيمتها.

وغالبًا ما يتّبع مستثمرو التجزئة في الأسهم استراتيجيات مخالِفة؛ يشترون عند الانخفاض ويبيعون عند الارتفاع. لكن في عام 2023، وجد باحثون أن مستثمري العملات المشفرة لا يبيعون عند الانخفاض، بل يصبرون انتظارا للربح.

ويستخدم أنصارها مصطلح “HODL” بدل “HOLD”، في إشارة إلى تمسّكهم بها رغم تقلباتها.

وتقول هانا هالابوردا، الخبيرة الاقتصادية بجامعة نيويورك: “إذا كنت تعتقد أن السعر سينخفض، ستبيعها فورًا. وإذا ظننت أنه سيرتفع، فلن تشتري بها قهوتك”. أي أنها لا تصلح للدفع ولا تمثل قيمة مستقرة، بل تشبه رقائق الكازينو.

في عام 2021، أعلنت حكومة السلفادور اعتماد البيتكوين عملة قانونية. أصبح بالإمكان دفع الضرائب به، وأُجبرت الشركات على قبوله، وأطلقت الحكومة تطبيق “محفظة” رقمي مجاني، بل وقدّمت 30 دولارًا كمكافأة لكل من حمّله.

لكن التجربة لم تنجح؛ نحو ثلث المواطنين لم يسمعوا بالتطبيق أصلًا، ومن سمعوا به كانوا غالبًا من الشباب المتعلمين ذوي الحسابات المصرفية والاتصال بالإنترنت، أي بخلاف من استهدفتهم المبادرة.

وقد سحب معظم المستخدمين المكافأة وحولوها إلى دولارات. وفي ديسمبر، قلّصت الحكومة دعمها لمشروعات البيتكوين.

الواقع أن وجود الدولار نفسه يشكل عقبة أمام تبنّي العملات المشفرة.

فالولايات المتحدة تملك عملة مستقرة ونظامًا مصرفيًّا موثوقًا. ووفقًا لاستطلاع المؤسسة، فإن 95.8% من الأسر تمتلك حسابًا مصرفيًّا. وبعيدًا عن غسيل الأموال، لا تقدم العملات المشفرة ما يفوق الدولار والمصارف من حيث الوظيفة.

لكن في دول تفتقر إلى بنى مالية صلبة، مثل فنزويلا ونيجيريا، بدأ الناس باستخدام العملات المشفرة كوسيلة دفع فعلية، مستعيضين بها عن مصارفهم.

ففي هذه السياقات، يمكن للعملات المستقرة المرتبطة بالدولار أن تؤدي وظائف تحويل الأموال وتجاوز الأعطال البنيوية في الاقتصاد.

وقد وجد مسح أجرته شركة Castle Island Ventures أن العملات المستقرة تُستخدم بشكل متزايد في الأنشطة الاقتصادية اليومية.

لكن في الولايات المتحدة، تُواجه العملات المشفرة بمعضلة التنظيم.

يقول أحد المستثمرين: “الأمور تتجه إلى تخفيف التنظيم، وهذا أمر له جانب إيجابي وآخر سلبي”.

وإذا أدى غياب التنظيم إلى طفرة مضاربية تهدد السوق، فقد يُفقد الناس ثقتهم الكاملة بها.

فقد أصبحت المصارف ما هي عليه بفضل تدخل حكومي صارم، مثل تدخل روزفلت بعد انهيار 1929 الذي أفضى إلى إنشاء مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية.

إذا أرادت العملات المشفرة أن تتحول إلى وسيلة دفع حقيقية، فسيكون ذلك من صنع الحكومات لا المستثمرين.

تقول هالابوردا: “لكي تصبح العملات المشفرة وسيلة للدفع، علينا أن نتلقى رواتبنا بها”. وإن حدث ذلك، “قد نرى تحوّلًا جذريًّا”.

لكن حتى ذلك الحين، ستظل العملات المشفرة أقرب إلى أداة مضاربة منها إلى أداة تبادل.

  • ترجمة: رجاء الغيثي
  • المصادر: 1