كشف أسرار القرابين البشرية
يلجأ علماء الآثار إلى مجالات علمية واسعة لبناء صورة واضحة عن كيفية عيش الضحايا وأسباب وفاتهم.
في ملحمة جلجامش في بلاد ما بين النهرين، انتزع نصف الإله ورفيقه إنكيدو قلب ثور السماء وتقديمه هدية لإله الشمس.
هذا العمل الدموي ليس هو الأول الذي يظهر فيه القرابين في أقدم قصص العالم، ففي بعض الحكايات، تودي مثل هذه الطقوس أحيانًا بحياة البشر.
كما في الأسطورة اليونانية، حين قرر الملك أجاممنون التضحية بابنته إيفيجينيا لأرتميس مقابل السماح للأسطول اليوناني بالإبحار إلى طروادة.
في الكتب السماوية، كاد ابراهيم أن يضحيَ بابنه إسحاق قربة إلى الله، ولم يمسكْ الملاك يد ابراهيم إلاّ في اللحظة الأخيرة.
لكن القرابين البشرية ليست مجرد مادة من الأساطير:
لقد وجد علماء الآثار أدلة في جميع أنحاء العالم، تقدم حفر الأضاحي التي تنتشر في موقع ينك سو، آخر عاصمة لسلالة شانغ الصينية، مثالًا بارزًا عن أقدم سلالة صينية تركت سجلًا أثريًا، امتدّ عصر شانغ من حوالي 1600 قبل الميلاد إلى 1000 قبل الميلاد.
يقدر العلماء أنهم ضحوا بأكثر من 13000 شخص في ينك سو على مدى 200 عام تقريبًا، إذ أودت كل طقوس الذبح بحياة 50 ضحية بشرية في المتوسط.
تعمل الأبحاث الحديثة على تعميق المعرفة الأثرية حول ممارسة التضحية عبر التاريخ. هذا العمل غالبًا ما يستخدم تقنيات من مجالات خارج علم الآثار التقليدي، ويقدم رؤى جديدة حول الضحايا، من أين أتوا؟ وما الأدوار التي لعبوها في المجتمع؟ وكيف كانوا يعيشون قبل مقتلهم؟ ولماذا اختاروهم في البداية؟
ويمكن لهذه النتائج بدورها أن تساعد في الإجابة عن أسئلة أكثر جوهرية حول السبب والفائدة المرجوة من هذه القرابين وطبيعة المجتمعات التي تمارسها.
طرق جديدة للتحقيق في القرابين
لا شك أن القرابين لعبت أدوارًا دراماتيكية في الشؤون الإنسانية في التاريخ القديم، لكن هذه الطقوس الدموية أثبتت صعوبة دراستها، كما يقول عالم الآثار جلين شوارتز من جامعة جونز هوبكنز. “إن علم الآثار يدور حول تحليل البقايا المادية للنشاط البشري، وإذا كنت تتحدث عن قضايا دينية مثل المعتقدات في الكون وما هو خارق للطبيعة، فكيف يمكنك استنتاج ذلك من الأشياء المادية؟
يقول: “من الأسهل كثيرًا على علماء الآثار، على سبيل المثال، دراسة القضايا الاقتصادية أو السياسية للمجتمعات الماضية بدلاً من دراسة ما كانوا يعتقدونه حول العالم ولماذا فعلوا ما فعلوه في السياقات الدينية”.
يقول شوارتز: “العديد من التقنيات الجديدة تجعل من الأسهل دراسة القرابين بطريقة متطورة، خاصة في مجال علم الآثار الحيوية، ودراسة البقايا البشرية، وعلم الآثار الحيوانية، ودراسة بقايا الحيوانات”.
في تحليل عام 2017 لنظائر الكربون والنيتروجين والكبريت في عظام الإنسان الموجودة في المقبرة الملكية في ينك سو، على سبيل المثال، وجدت عالمة الآثار الحيوية كريستينا تشيونغ في جامعة سيمون فريزر في برنابي، كندا، وزملاؤها أن أولئك الذين ضحوا بهم ربما جاءوا من خارج ينك سو.
ويدعم الاكتشاف في ينك سو السجلات الموجودة في نقوش “عظم الوحي” وهي أقدم كتابة معروفة في الصين، والتي تضمنت عادةً بنحت الأسئلة على أصداف السلاحف أو عظام الثور من قبل العرافين.
أشارت هذه النقوش إلى أن العديد من ضحايا القرابين كانوا من الأجانب الذين أسرهم قادة ينك سو في الحروب، وأضاف التحليل النظائري أدلة مادية لدعم هذا السيناريو. كما كشفت أيضًا أنهم احتفظوا بالأسرى في ينك سو لسنوات على الأرجح قبل أن يضحوا بهم.
اقترحت تشيونغ وزملاؤها أن هؤلاء الأسرى استعبدوا كعمال، لأنه لن يكون من المنطقي العناية بهم لفترة طويلة دون مقابل.
يقول تشيونغ: “لقد أصبح علم الآثار متعدد التخصصات أكثر فأكثر، إذ يستعير المزيد والمزيد من التقنيات من العلوم الأخرى التي سمحت لنا بالنظر إلى الماضي بمستويات جديدة تمامًا من التفاصيل والدقة”.
حياة مصممة للموت
يكشف العلماء أيضًا عن تفاصيل جديدة حول أنماط حياة ضحايا القرابين. في عام 2013، اكتشف عالم الآثار أندرو ويلسون من جامعة برادفورد في المملكة المتحدة وزملاؤه ثلاث جثث محنطة عمرها حوالي 500 عام بالقرب من قمة بركان لولايلاكو المتجمد في الأرجنتين. تتراوح أعمارهم بين 4 و13 عامًا، وقد دفنوا منفصلين كقرابين لممارسة التضحية بأطفال الإنكا المعروفة باسم كاباكوشا.
كشفت التحليلات الكيميائية لشعر فروة رأس مومياوات الأطفال أنهم أجبروا لتناول كميات كبيرة من أوراق الكوكا وبيرة الذرة في العام الذي سبق وفاتهم؛ وعُثِر على أقدامها، والتي يطلق عليها اسم “عذراء لولايلاكو”، مع أوراق الكوكا بين أسنانها المشدودة.
كشفت هذه النتائج، إلى جانب الأبحاث السابقة التي تشير إلى أنهم تناولوا الكثير من اللحوم والذرة في عامهم الأخير، أن الإنكا ربما أعطوا ضحايا الكاباكوشا حياة مرفهة قبل لقاء حتفهم.
لقد عانى ضحايا القرابين الآخرون من أنماط حياة صعبة ونهايات أكثر كآبة.
بين المايا – إذا افترض المرء أن الأمراض الجسدية تشير إلى رتبة أدنى في حين أن الصحة الجيدة تعني ضمنًا وضع النخبة – فإن التفاصيل التشريحية مثل عدد التجاويف في الأسنان تشير إلى أن الضحايا عادة لم يكونوا من الطبقة العليا.
كما تنفي النتائج الجديدة بعض التفسيرات السابقة للقرابين.
أحد الأمثلة يتعلق بمقبرة أور الملكية في ما يعرف الآن بالعراق، والتي يعود تاريخها إلى حوالي 2500 قبل الميلاد ونقبّوا فيها في عام 1920. ويحتوي الموقع على مقابر لأشخاص من الطبقة الحاكمة، بعضهم مدفون بالكنوز وما يصل إلى 74 شخصًا آخر.
ويقول شوارتز أن 74 الآخرون ماتوا على ما يبدو ليرافقوا النخبة إلى الحياة الآخرة، لخدمتهم على الأرجح.
اقترح أحد المنقبين في الموقع، عالم الآثار البريطاني السير ليونارد وولي، أن القرابين البشرية هناك من ضحوا بحياتهم طوعاً لخدمة رؤسائهم في الحياة الآخرة، واقترح أن الكؤوس التي عثر عليها بالقرب من هياكلهم العظمية تحتوي على سم أخذوه للانضمام إلى سيدهم، أو سيدتهم.
لكن الأبحاث التي أجريت في العقد الماضي باستخدام التصوير المقطعي المحوسب (CT) للهياكل العظمية في أور أظهرت أن بعض هؤلاء الأشخاص على الأقل قُتلوا بضربة على الرأس، وربما لم يكونوا ضحايا راغبين بالموت.
كما كشفت التحليلات الحديثة لعظام الضحايا في أور أن أجسادهم قد سخُنت وتعرضت لبخار الزئبق بعد الموت.
ربما كان ذلك لمنعهم من التحلل حتى يمكن الاحتفاظ بهم معروضين في مكان عام.
يقول شوارتز: “إن أجساد البعض كانت مزينة بخوذات نحاسية ومجوهرات ذهبية، وربما رُتبت في لوحة، مما يشير إلى أنهم كانوا يرتدون أزياء متقنة ويظهرون وكأنهم مشاركين في وليمة”.
وبشكل عام، تساعد مثل هذه النتائج في الكشف ليس فقط عن كيفية وفاة الضحايا، بل ربما عن سبب قتلهم.
يقول شوارتز: “عندما يتعلق الأمر بالسؤال العام حول سبب وجود هذه الظاهرة الغريبة والمروعة حيث كان الناس في أور يقتلون ما يصل إلى 70 شخصًا آخر لمرافقة النخبة رفيعة المستوى إلى الحياة الآخرة، فإننا نعلم الآن أنه لم يكن خضوعًا طوعيًا للموت من جانب الضحايا، وكان ذلك كله جزءًا من عرض يشاهده عدد كبير من الناس”.
“لقد كان درسًا موضوعياََ للجميع، هذا هو الشيء الذي من المفترض أن يحدث، وعلينا جميعًا قبول هذا الواقع”.
يقول تشيونغ: “ربما كان المشهد المروع الذي قدمته عمليات القتل قد خدم أغراضًا سياسية. أحد الأنماط التي نشهدها عبر الثقافات هو أن التضحيات الأكبر والأكثر دموية غالبًا ما تظهر عند إنشاء حكومات جديدة، وتتقلص بمجرد أن تصبح الحكومات أكثر استقرارًا”.
“تمنحنا هذه النتائج نظرة ثاقبة حول كيفية الحفاظ على الثقافات للتماسك الاجتماعي”.
تضحية أم مجرد موت عنيف؟
يتمثل التحدي الرئيسي في علم آثار التضحية في تحديد ما هي التضحية. في أمريكا الوسطى ما قبل كولومبوس، على سبيل المثال، حين كانت طقوس قتل البشر منتشرة في كل مكان بين المايا والإنكا والأزتيك وغيرهم، قد يكون من الصعب تحديد أي دليل على الموت العنيف على أنه تضحية، لكن الباحثين قد يفكرون في بعض الأحيان في تفسيرات أخرى، مثل ويشير شوارتز إلى أنها عمليات إعدام جماعية أو عمليات قتل انتقامية.
أحد السيناريوهات الغامضة التي يمكن للعلماء فيها استخلاص تفسيرات متعددة هو موقع أم المرة، في ما يعرف الآن بشمال سوريا، والذي درسه شوارتز على نطاق واسع. وفي أحد المقابر هناك، عثر شوارتز وزملاؤه على عمود 1 محفور في الصخر، وكان مغطى بطبقات من أجساد الحيوانات. وفي الأسفل كان هناك 13 شخصاً قتلوا بضربات على رؤوسهم.
يقول شوارتز: “يمكن أن يكون لديك دليل على أن إنسانًا أو حيوانًا مات ميتة عنيفة، كما هو الحال في العمود 1، ولكن كيف يمكنك أن تعرف أن القتل قد ارتكب كذبيحة في سياق ديني؟” ويضيف شوارتز: “ما يمكنك فعله هو البحث عن الأنماط المتكررة التي تشير إلى حدوث شيء مميز. المشكلة في أم المرة هي أنها المقبرة الوحيدة التي ظهرت بها هذه الطقوس، ولكن إذا وجدنا مقابر أخرى فيها أنماطًا مماثلة من الطقوس، فسيكون لدينا فكرة أفضل إذا كانت التضحيات تحدث في أم المرة، أو يمكنك العثور على ميزة مثل قبرنا 1، إذ توجد امرأتان مزينتان بشكل جيد وراقي وضعت فوق رجلين مع القليل من الأشياء. قد يعني هذا دفن نساء رفيعات المستوى مع رجال من رتبة أدنى تم التضحية بهم، لكن النمط فريد من نوعه وبالتالي يصعب تفسيره”.
نهج أكثر إنسانية
هناك العديد من جوانب التضحية التي لم تُكتشف بعد، والعديد منها يمكن أن يقدم رؤى حول إنسانية الضحايا. إن التخلص من المفاهيم المسبقة حول أدوار الجنسين في المجتمعات السابقة، على سبيل المثال، يمكن أن يساعد في الكشف عن التفاصيل التي أغفلتها الأبحاث السابقة أو تجاهلتها.
ويشير شوارتز إلى أنه من الشائع في أمريكا الوسطى وجبال الأنديز العثور على أدلة للمحاربين الأسرى الذين ضحوا بهم. وإذا عُثِر على أنثى بين هؤلاء الضحايا، فقد يفترض المرء أنها لم تكن محاربة أسيرة، يقول شوارتز: “ولكن من الممكن، في الواقع، أن تكون هناك محاربات – علينا أن نفكر في مثل هذه الاحتمالات، وليس القفز إلى الاستنتاجات”،
ويضيف: “على سبيل المثال، يمكننا أن ننظر إلى جثث الضحايا لمعرفة ما إذا كانوا قد تعرضوا للجروح بشكل متكرر كدليل على النشاط العسكري، بغض النظر عن الجنس”.
في الواقع، ربما لم يعتبر بعض ضحايا القرابين ذكورًا ولا إناثًا- وربما كان هناك أجناس أخرى معترف بها من قبل مجتمعاتهم.
يقول شوارتز: “قد تحدد دراسات الحمض النووي الأفراد الذين تكون بقايا هياكلهم العظمية ذكوراََ أو إناثاََ، ولكنهم دُفنوا مع أشياء مرتبطة بجنس مختلف”.
وبعبارة أخرى، قد تأتي الاختراقات المستقبلية في علم آثار القرابين من التقنيات الجديدة والتوقعات الجديدة.
لقد كان هناك جهد واعي في علم الآثار لتبني وجهة نظر من مجالات الأنثروبولوجيا الأكثر إنسانية؛ للتوقف عن رؤية الماضي كسلسلة من القصص المعزولة التي تشبه الخيال تقريباََ، ومحاولة التواصل مع الناس على المستوى الإنساني.
يقول تشيونغ: “كانت هذه العظام ذات يوم كائنات بشرية حية، تشبهنا كثيرًا في كثير من النواحي”.
ظهرت هذه المقالة في الأصل في مجلة Knowable Magazine، وهي مؤسسة غير ربحية مخصصة لجعل المعرفة العلمية في متناول الجميع. اشترك في النشرة الإخبارية لمجلة Knowable.
- ترجمة: رشا محمد حسين
- تدقيق لغوي: غفران التميمي
- المصادر: 1