أمنحوتب الأول: الأشعة المقطعية تعطي لمحة داخل المومياء
أمنحوتب الأول حكم مصر منذ حوالي 3500 عام.
لم يتم فك لفائف جثّته المحنّطة الهشّة أبدًا، لكن الأشعّة المقطعيّة سمحت للباحثين بإلقاء نظرةٍ خاطفة على ما تحت الضّمادات.
يسلّط المسح الضّوء على السّمات الجسديّة للفرعون، وعمليّة تحنيطه، ومواجهاته بعد وفاته مع لصوص القبور.
من المثير للدّهشة أنّه لا يُعرف سوى القليل عن حياة أمنحوتب الأوّل، الذي حكم مصر من 1525 إلى 1504 قبل الميلاد، أي 21 عامًا مثيرة للإعجاب.
نحن نعلم أنّه كان ثاني ملوك الأسرة الحاكمة الثّامنة عشرة المصريّة، الذي لم يكن من المتوقّع أن يرثَ العرش، وأنّه ربّما حكم إلى جانب والدته لفترة وجيزة عندما قام بذلك.
نحن نعلم أن اسمه يعني “آمون راضٍ” – آمون هو أحد الآلهة الثّمانية الأساسيّة في الميثولوجيا المصريّة، وكذلك إله الهواء.
بفضل الحروف الهيروغليفيّة الباقية، نعلم أيضًا أن أمنحوتب سعى جاهدًا للحفاظ على حدود إمبراطوريّته سريعة التوسع، وقام بحربٍ مع ليبيا القديمة ومملكة كوش.
ربّما كان لنقص التّوثيق المحيط بأمنحوتب علاقة بحقيقة أن فترة حكمه كانت سلميّة ومزدهرة نسبيًا، ولم تتميّز إلا بتحسينات طفيفة في الإدارة الحكوميّة وبناء عدد قليل من المعابد الجديدة مثل معبد آمون في الكرنك.
يشكّ المؤرّخون أنّه بالإمكان اكتشاف المزيد عن أمنحوتب إذا تمكنّا من العثور على مقبرته الأصليّة. مع ذلك، فهذا الكلام أسهل من الفعل. لا يوجد أيّ دليل معروف، نصّيّ أو أثريّ، يشير إلى موقع المقبرة الأصلي. علاوةً على ذلك، تمّ نقل جثة أمنحوتب عدّة مرّات، بما في ذلك من قبل الفراعنة اللّاحقين الذين سعوا لحماية رفاته من لصوص القبور.
لحسن الحظّ، لا يزال بإمكان رفات أمنحوتب المحنّطة تقديم نظرة عميقة جوهريّة عن الفترة التّاريخيّة التي تنحدر منها. ولسوء الحظّ، قد ثَبُتَ أنّ دراسة هذه الرّفات صعبةٌ لسبب واحد: عندما دُفن أمنحوتب، تمّ تزويد موميائه بقناع وجه من الكارتوناج مصنوع بعناية فائقة. ما يزال هذا القناع ملتصقًا بوجه أمنحوتب حتّى اليوم، ويخشى الباحثون من أنّ أيّة محاولة لفك لفائف المومياء جسديًا قد تعرّض القطعة الأثريّة التي لا تقدّر بثمن إلى إتلاف أو حتّى تدمير.
المحاولات السّابقة
بينما كان الباحثون متردّدين في النّظر إلى المومياء نفسها، لم يضيّعوا أيّ وقت في فحص محيطه المباشر. كان أمنحوتب يرقد داخل تابوتٍ حجريّ مزيّن بنقوش هيروغليفيّة أو وثائق لم تذكر اسمه فقط، بل ذكرت أيضًا حقيقة أن هذا التابوت، على الرغم من أنّه يبدو قديمًا إلى حدٍّ كبير، لم يكن الأصل الخاصّ بالفرعون.
وفقًا للوثائق، تم إعادة لفّ أمنحوتب الأوّل ودفنه في مخبأ الدّير البحريّ الملكيّ بحلول الأسرة الحاكمة الحادية والعشرين، التي حكمت من 1069 إلى 945 قبل الميلاد. حتّى أنّ الوثائق سجّلت أسماء الأشخاص الذين أعادوا لفّ الفرعون: بينجم الأول، رئيس كهنة آمون خادم الأسرة الحاكمة الحادية والعشرين، وابنه ماسرهارتا.
ربّما كانت عمليّة إعادة الدّفن هذه هي المرّة الأخيرة التي شوهدت فيها جثّة أمنحوتب من قبل أشخاصٍ آخرين. اليوم، هي واحدة من عدد قليل من المومياوات التي لم يتمّ فك لفائفها بعد في العصر الحديث، وكلّ ما نعرفه عنها تمّ استنتاجه من التّقنيات التي يمكنها إلقاء نظرة خاطفة على الضّمادات دون إزالتها.
بمجرّد استخراجها، تمّ حفظ المومياء في المتحف المصريّ بالقاهرة. وفي عام 1932، حدّدت الأشعّة السّينيّة أنّ عمر الفرعون كان يتراوح بين 40 و50 عامًا وقت وفاته. وبعد أن تقدّمت تكنولوجيا الأشعّة السّينيّة بشكلٍ كبير، تمّ مسح أمنحوتب مرّة أخرى. هذه المرّة، كان تقدير العمر أصغر بكثير؛ تشير حالة أسنانه بشكلٍ خاصّ إلى أنّ عمر الفرعون لم يكن أكبر من 25 عامًا عند وفاته.
لعلّ الدّراسة الأكثر كشفًا حتّى الآن ظهرت في أواخر عام 2021. حيث أجرى الباحثان، سحر سليم وزاهي حواس، فحصًا بالأشعّة المقطعيّة لإنشاء نماذج مفصلة ثلاثيّة الأبعاد لقناع رأس المومياء والضّمادات وكذلك الجسم المخفيّ تحتها.
جثّة أمنحوتب الأوّل
تتضمّن دراسة الباحثين، التي نُشرت في مجلة Frontiers in Medicine الالكترونيّة، تمثيلاتٍ واضحة ومفصّلة لجسد الفرعون. صورة جانبيّة لجمجمة أمنحوتب داخل التّابوت مصحوبة بالوصف التّالي: “مومياء أمنحوتب الأوّل لها وجه بيضاويّ بعيونٍ غائرة وخدودٍ منهارة. الأنف صغير وضيّق ومسطّح. الأسنان العلويّة بارزة بشكلٍ طفيف. الذّقن ضيّقة. الأذنين صغيرتين. ويُلاحظ وجود ثقب صغير في فصيص الأذن اليسرى. ونرى القليل من خصلات الشّعر الملتفّة في مؤخّرة وجوانب الرّأس.
تكشف عمليات المسح أيضًا عن إصابات ما بعد الوفاة. حدّد الباحثون وجود كسر في العمود الفقريّ العنقيّ عندما تمّ قطع رأس المومياء على يد لصوص القبور. تمّ خلع الرّسغ الأيمن، بينما انفصلت اليد اليسرى تمامًا عن بقيّة الجسم. العديد من الأصابع مفقودة، ومن المحتمل أن تكون مسروقة.
كما هو الحال مع المومياوات الأخرى، تمّت إزالة أعضاء أمنحوتب من خلال شقّ واحد في الخاصرة اليسرى. استخدم المحنّطون مجموعةً متنوّعةً من المواد لملء الجسم المجوّف. ويُظهر المسح أن جسد الفرعون يحتوي على منتجات ذات كثافات جزيئيّة مختلفة، بما في ذلك ألياف الكتّان وغلاف الكتّان التي تمت معالجتها بالرّاتنج. باستخدام طول عظم قصبة السّاق، توصّل الباحثون إلى أنّ أمنحوتب كان يبلغ طوله 168.5 سم (5 أقدام و6 بوصات).
تفكيك التّاريخ القديم
بفضل التّقدّم الكبير في تكنولوجيا المسح الضّوئيّ، تمكّن الباحثون من دحض الافتراضات السّابقة حول مومياء أمنحوتب. ولعلّ أهمّها هو عمر الفرعون المحيّر. تمّ إجراء تقييم جديد لمدّة 35 عامًا، بناءً على “إغلاق المشاش لجميع العظام الطويلة” و”بنية سطح التصاق عظم العانة”، ناهيك عن الحالة المثاليّة للأسنان.
كشف المسح أيضًا عن أشياء لم يتمّ رؤيتها من قبل حول مومياء أمنحوتب، بما في ذلك حقيقة أنّ الدّماغ لم تتمّ إزالته من الجمجمة مطلقًا. عادةّ، تتمّ إزالة أنسجة المخّ من خلال فتحة الأنف. تمّت ممارسة هذه العمليّة في وقتٍ مبكّر من الأسرة الحاكمة الرّابعة، على الرّغم من أنّها لم تتمّ على أمنحوتب. ويبدو أنّ الأجزاء الرّئيسية الأخرى من عمليّة التّحنيط غائبة تمامًا.
كتب الباحثون: “لجعل الجثّة كأنّها حيّة، كان محنّطو المومياوات الملكيّة التي يعود تاريخها إلى المملكة الحديثة يستخدمون عادةً حشوة في العينين والأنف والفم وتحت الجلد”، ومع ذلك “تُظهر هذه الدّراسة أن المومياء أمنحوتب لم تلقَ مثل هذه المعاملة”.
والجدير بالذّكر أنّه تمّ العثور على مومياء أمنحوتب متشبّثة بعدة تمائم مخبّأة تحت ضماداته. حقيقة أن الفرعون لا يزال يمتلك هذه الهبات الجنائزيّة أمرٌ مذهل للغاية. وفقًا لمخطوطات البرديّ الموجودة في معبد مدينة هابو، كانت المقابر دائمًا معرّضة لخطر الغارات، ليس فقط من قبل لصوص القبور المنتشرين ولكن من قبل أعضاء مجموعة دفن الفرعون نفسه. وفي ذلك الوقت، كما الآن، من الصّعب العثور على مساعدة جيدة.
- ترجمة: ريمة جبارة
- تدقيق علمي ولغوي: حسام عبدالله
- المصادر: 1