الذّكاء الاصطناعيّ يصمّم تجارب لفيزياء الكمّ تفوق ما تصوّره أيّ إنسان
يستذكر عالم فيزياء الكمّ ماريو كرين الجلوس في مقهى في فيينا في أوائل عام 2016، وهو يتفحّص بعناية مطبوعات الحاسوب، محاولًا فهم ما اكتشفه ميلفن MELVIN) ). كان ميلفن خوارزميّة تعلّمٍ آليّ أنشأها كرين، وهي نوع من الذّكاء الاصطناعيّ. كانت وظيفتها مزج وملائمة عناصر البناء للتّجارب الكمّيّة القياسيّة وإيجاد حلول للمشكلات الجديدة. وقد وجدت العديد من الأشياء المثيرة. لكن كان هناك واحد لا معنى له.
يقول كرين: “أوّل شيء فكّرت فيه هو أنّ برنامجي به خطأ، لأنّ الحلّ لا يمكن أن يكون موجودًا”. على ما يبدو أنّ ميلفن حلّ مشكلة إنشاء حالات متشابكة شديدة التّعقيد تتضمّن فوتونات متعدّدة (الحالات المتشابكة هي تلك التي جعلت ألبرت أينشتاين يستحضر شبح “السّلوك الشّبحي عن بعد” ). لم يقم صراحةً كرين وأنطون زيلينجر من جامعة فيينا وزملاؤهما بتزويد ميلفن بالقواعد الضّرورية لتوليد مثل هذه الحالات المعقّدة، مع ذلك فقد وجدوا طريقة. أخيرًا، أدرك أنّ الخوارزميّة أعادت اكتشاف نوع من التّرتيب التّجريبيّ الذي تمّ اختراعه في أوائل التّسعينيّات. لكن تلك التّجارب كانت أبسط بكثير. لقد حلّ ملفين لغزًا أكثر تعقيدًا.
يقول كرين، الذي يعمل الآن في جامعة تورنتو: “عندما فهمنا ما كان يحدث، تمكنّا مباشرةً من تعميم الحل”. منذ ذلك الحين، بدأت فرق أخرى بإجراء التّجارب التي حدّدها ميلفن، ممّا سمح لهم باختبار الأسس المفاهيميّة لميكانيكا الكمّ بطرق جديدة. وفي الوقت نفسه، قام كرين، الذي يعمل بالتّعاون مع زملائه في تورونتو، بتحسين خوارزميّات التّعلّم الآليّ الخاصّة بهم.
إنّ أحدث جهودهم، وهو الذّكاء الاصطناعيّ المسمّى ثيسيوس (THESEUS)، رفع مستوى الرّهان: فهو أسرع بأضعاف من ميلفن، ويمكن للبشر تحليل خرجه بسهولة. في حين أن كرين وزملائه قد يستغرقون أيامًا أو حتّى أسابيع لفهم تعرّجات ميلفن، إلّا أنّه يمكنهم على الفور تقريبًا معرفة ما يقوله ثيسيوس.
يقول عالم فيزياء الكمّ النّظريّة ريناتو رينر من معهد الفيزياء النّظريّة في المعهد الفيدرالي السّويسري للتّكنولوجيا في زيورخ، الذي راجع دراسة أُجريت عام 2020 حول ثيسيوس، لكنّه لم يشارك بشكل مباشر في هذه الجهود: “إنّه عملٌ مذهل”.
تعثّر كرين في هذا البرنامج البحثيّ بأكمله عن طريق الصّدفة إلى حدّ ما عندما كان هو وزملاؤه يحاولون اكتشاف كيفيّة إنشاء حالات كموميّة تجريبيًا من الفوتونات المتشابكة بطريقة خاصّة جدًا: عندما يتفاعل فوتونان، يصبحان متشابكين، وكلاهما يمكن أن يوصف رياضيًا فقط باستخدام حالة الكمّ المشتركة الفرديّة. إذا قمت بقياس حالة أحد الفوتونات، فإنّ القياس يُثبِت على الفور حالة الفوتون الآخر حتّى لو كان الاثنان على بعد كيلومترات (ومن هنا جاءت تعليقات أينشتاين السّاخرة على التّشابك أنّها “شبحيّة” ).
عام 1989، وصف ثلاثة فيزيائييّن -دانييل جرينبرجر، والرّاحل مايكل هورن، وزيلينجر -حالة متشابكة والتي أصبحت تُعرف باسم “GHZ” (نسبةً إلى الأحرف الأولى من أسمائهم). تضمّنت أربعة فوتونات، كلّ منها يمكن أن يكون في حالة تراكب كمّيّ، مثلًا، حالتي، 0 و1 (حالة كمّيّة تسمّى الكيوبت). في بحثهم، حالة GHZ تضمّنت تشابك أربعة كيوبتّات بحيث كان النّظام بأكمله في حالة تراكب كمّيّ ثنائيّ البعد للحالتين 0000 و1111. إذا قمت بقياس أحد الفوتونات ووجدته في الحالة 0، فإنّ التّراكب سينهار. وستكون الفوتونات الأخرى أيضًا في الحالة 0. وينطبق الشّيء نفسه على الحالة 1. وفي أواخر التّسعينيّات، لاحظ زيلينجر وزملاؤه تجريبيًا حالات GHZباستخدام ثلاثة كيوبتّات لأوّل مرّة.
كان كرين وزملاؤه يهدفون إلى حالات GHZ بأبعاد أعلى. أرادوا العمل مع ثلاثة فوتونات، حيث كان لكلّ فوتون أبعادًا من ثلاثة، ممّا يعني أنّه يمكن أن يكون في تراكب ثلاث حالات: 0، 1 و2. تسمّى هذه الحالة الكمّيّة Qutrit. كان التّشابك الذي كان عليه الفريق بعد حالة GHZ ثلاثيّة الأبعاد تراكبًا للمجموعات 000 و111 و222. مثل هذه الحالات هي مكوّنات مهمّة للاتّصالات الكموميّة الآمنة والحوسبة الكموميّة الأسرع.
في أواخر عام 2013، أمضى الباحثون أسابيع في تصميم تجارب على السبورات والقيام بالحسابات لمعرفة ما إذا كانت إعداداتهم يمكن أن تولّد الحالات الكموميّة المطلوبة. لكن في كلّ مرة فشلوا. يقول كرين: “لقد فكّرت، هذا جنون مطلق. لماذا لا يمكننا التّوصل إلى إعداد؟”.
لتسريع العمليّة، كتب كرين أولًا برنامج حاسوب يأخذ إعدادًا تجريبيًا ويحسب الخرج. ثمّ قام بترقية البرنامج ليسمح له أن يدمجَ في حساباته نفس العناصر الأساسيّة التي يستخدمها المجرّبون لإنشاء الفوتونات ومعالجتها على طاولة بصريّة: اللّيزر، والبلّورات غير الخطيّة، ومقسّمات الشّعاع، ومبدّلات الطّور، والصّور المجسّمة، وما شابه ذلك. قام البرنامج بالبحث في مساحة كبيرة من التّكوينات عن طريق الخلط والمطابقة العشوائيّة لوحدات البناء، وأجرى الحسابات وأخرج النّتيجة. ولِدَ ميلفن. يقول كرين: “في غضون ساعات قليلة، وجد البرنامج حلاً لم نتمكّن نحن العلماء -ثلاثة تجريبيّين وعالم نظريّات واحد -من التّوصل إليه لعدّة أشهر. كان ذلك يومًا مجنونًا، لم أستطع أن أصدّق أنّه حدث”.
ثم أعطى ميلفن المزيد من الذّكاء. في أيّ وقت يجد فيه إعدادًا يفعل شيئًا مفيدًا، يضيف ميلفن هذا الإعداد إلى صندوق الأدوات الخاصّ به. يقول كرين: “تتذكّر الخوارزميّة ذلك وتحاول إعادة استخدامه لحلول أكثر تعقيدًا”.
لقد كان ميلفن الأكثر تطوّرًا هو الذي ترك كرين في حيرةٍ من أمره في مقهى في فيينا.
لقد قام بتشغيله باستخدام صندوق أدوات تجريبيّ يحتوي على بلّورتين، كلّ واحدة منهما قادرة على توليد زوج من الفوتونات المتشابكة في ثلاثة أبعاد. كان توقّع كرين السّاذج هو أن يجد ميلفن تكوينات تجمع هذه الأزواج من الفوتونات لتكوين حالات متشابكة ذات تسعة أبعاد على الأكثر. يقول كرين: “لكنّها وجدت في الواقع حلًا واحدًا، وهو حالة نادرة للغاية، تتمتّع بتشابك أعلى بكثير من بقية المجموعات”.
وفي النّهاية، اكتشف أن ميلفن قد استخدم تقنيّة طوّرتها فرق متعدّدة منذ ما يقارب ثلاثة عقود. في عام 1991، تمّ تصميم إحدى الطّرق بواسطة شين يو زو، ولي جون وانغ، وليونارد ماندل، وجميعهم كانوا يعملون في جامعة روتشستر. في عام 1994، توصّل زيلينجر، الذي كان آنذاك في جامعة إنسبروك في النّمسا، وزملاؤه إلى فكرة أخرى.
من النّاحية النّظريّة، حاولت هذه التّجارب القيام بشيء مماثل، لكن التّكوين الذي ابتكره زيلينجر وزملاؤه أسهل في الفهم. يبدأ ببلورة واحدة تولّد زوجًا من الفوتونات (A وB). تمرّ مسارات هذه الفوتونات عبر بلّورة أخرى، والتي يمكنها أيضًا توليد فوتونين (C وD). يتداخل مسار الفوتون A من البلّورة الأولى والفوتون C من البلّورة الثّانية تمامًا ويؤدّيان إلى نفس الكاشف. إذا نقر ذلك الكاشف، فمن المستحيل معرفة ما إذا كان الفوتون قد نشأ من البلّورة الأولى أم الثّانية. وينطبق الشّيء نفسه على الفوتونات B وD.
إنّ مبدّل الطّور هو جهاز يعمل بشكلٍ فعّال على زيادة المسار الذي يسلكه الفوتون كجزء من طول موجته. إذا قمت بإدخال ناقل طور في أحد المسارات بين البلّورات وواصلت تغيير مقدار تحوّل الطّور، فقد تتسبّب في حدوث تداخل بناء ومدمّر في أجهزة الكشف. على سبيل المثال، يمكن لكل بلّورة أن تولّد، على سبيل المثال، 1000 زوج من الفوتونات في الثّانية. ومع التّداخل البناء، تستطيع أجهزة الكشف تسجيل 4000 زوج من الفوتونات في الثّانية. ومع التّداخل المدمّر، لن يتمكّنوا من اكتشاف أيّة فوتونات: فالنّظام ككلّ لن يخلق أيّ فوتونات على الرّغم من أنّ البلّورات الفرديّة ستولّد 1000 زوج في الثّانية. يقول كرين: “هذا في الواقع أمر جنونيّ للغاية، عندما تفكّر فيه”.
يتضمّن حلّ ميلفن غير التّقليديّ مثل هذه المسارات المتداخلة. ما أذهل كرين هو أنّ الخوارزميّة كانت تحتوي على بلّورتين فقط في صندوق أدواتها. وبدلاً من استخدام تلك البلّورات في بداية الإعداد التّجريبيّ، فقد ثبّتتها داخل مقياس تداخل (جهاز يقسم مسار الفوتون، على سبيل المثال، إلى قسمين ثمّ يعيد تجميعهما). وبعد بذل الكثير من الجهد، أدرك أنّ الإعداد الذي وجده ميلفن كان معادلاً لواحد يشتمل على أكثر من بلّورتين، كلّ واحدة منهما تولّد أزواجًا من الفوتونات، بحيث تتداخل مساراتها إلى أجهزة الكشف. يمكن استخدام التّكوين لإنشاء حالات متشابكة عالية الأبعاد.
عالمة فيزياء الكمّ نورا تيشلر، التي كانت طالبة دكتوراه تعمل مع زيلينجر على موضوع غير ذي صلة عندما كان يتم اختبار ميلفن، تولي اهتمامًا لهذه التّطورات.
وتقول: “كان من الواضح منذ البداية أنّ مثل هذه التّجربة لم تكن لتوجد لو لم يتمّ اكتشافها بواسطة الخوارزميّة”.
إلى جانب توليد حالات متشابكة معقّدة، يمكن استخدام الإعداد الذي يستخدم أكثر من بلّورتين بمسارات متداخلة لإجراء نموذج معمّم لتجارب التّداخل الكمّيّ التي أجراها زيلينجر عام 1994 مع بلّورتين. أفرايم شتاينبرج، عالم تجريبيّ في جامعة تورنتو، وزميل كرين ولكنّه لم يعمل في هذه المشاريع، معجبٌ بما وجده الذّكاء الاصطناعيّ. ويقول: “هذا تعميم لم يحلم به (على حدّ علمي) أيّ إنسان في العقود الماضية، وربّما لم يكن ليقوم به أحد على الإطلاق، إنّه مثال أوّل رائع لنوع الاستكشافات الجديدة التي يمكن لآلات التّفكير هذه أن تأخذنا إليها”.
في أحد هذه التّكوينات المعمّمة المكوّنة من أربع بلّورات، كلّ منها تولّد زوجًا من الفوتونات، ومسارات متداخلة تؤدّي إلى أربعة أجهزة كشف، يمكن للتّداخل الكمّيّ أن يخلق مواقف حيث إمّا أن تنقر جميع أجهزة الكشف الأربعة (التّداخل البناء) أو لا يقوم أيّ منها بذلك (التّداخل المدمّر).
لكن حتّى وقتٍ قريب، ظلّ إجراء مثل هذه التّجربة حلمًا بعيد المنال.
بعد ذلك، في ورقة ما قبل الطّباعة في شهر مارس، أفاد فريق بقيادة لان تيان فينج من جامعة العلوم والتّكنولوجيا في الصّين، بالتّعاون مع كرين، أنّهم قاموا بتصنيع الإعداد بأكمله على شريحة ضوئيّة واحدة وأجروا التّجربة. قام الباحثون بجمع البيانات لأكثر من 16 ساعة: وهو إنجاز أصبح ممكنًا بسبب الاستقرار البصري المذهل للرّقاقة الضّوئيّة، وهو أمر كان من المستحيل تحقيقه في تجربة منضديّة واسعة النطاق. كبداية، سيتطلّب الإعداد ما يعادل مترًا مربعًا من العناصر البصريّة المصطفّة بدقّة على طاولة بصرية، كما يقول شتاينبرغ. علاوةً على ذلك، يقول: “إنّ تأرجح عنصر بصريّ واحد أو اهتزازه بمقدار جزء من الألف من قطر شعرة الإنسان خلال تلك السّاعات ال 16 يمكن أن يكون كافيًا لإزالة التّأثير”.
خلال محاولاتهم المبكّرة لتبسيط وتعميم ما وجده ميلفن، أدرك كرين وزملاؤه أنّ الحلّ يشبه أشكالًا رياضيّة مجرّدة تسمّى الرّسوم البيانيّة، والتي تحتوي على القمم والحوافّ وتستخدم لتصوير العلاقات الزّوجيّة بين الأشياء. في هذه التّجارب الكموميّة، يتمّ تمثيل كلّ مسار يسلكه الفوتون بواسطة قمّة. والبلّورة، على سبيل المثال، يتمّ تمثيلها بحافّة تربط بين رأسين. أنتج ميلفن لأوّل مرّة مثل هذا الرّسم البيانيّ ثمّ أجرى عمليّة رياضيّة عليه. تتضمّن العمليّة، التي تسمّى “المطابقة المثاليّة”، إنشاء رسم بيانيّ مكافئ يتمّ فيه توصيل كلّ قمّة بحافّة واحدة فقط. هذه العمليّة تجعل حساب الحالة الكموميّة النّهائيّة أسهل بكثير، على الرّغم من أنّه لا يزال من الصّعب على البشر فهمها.
لقد تغيّر ذلك مع خليفة ميلفن ثيسيوس، الذي يولّد رسومًا بيانيّة أبسط بكثير عن طريق تنقيح الرّسم البيانيّ المعقّد الأوّل الذي يمثّل الحلّ الذي وجده وصولاً إلى الحدّ الأدنى من عدد الحوافّ والقمم (بحيث يؤدّي أيّ حذف إضافيّ إلى تدمير قدرة الإعداد على توليد الحالات الكموميّة المطلوبة). هذه الرّسوم البيانيّة أبسط من الرّسوم البيانيّة المطابقة المثاليّة ل ميلفن، لذلك من الأسهل فهم أيّ حلّ يتمّ إنشاؤه بواسطة الذّكاء الاصطناعيّ.
أعجب رينر بشكلٍ خاصّ بمخرجات ثيسيوس القابلة للتفسير البشريّ. ويقول: “تمّ تصميم الحلّ بحيث يتمّ تقليل عدد الاتّصالات في الرّسم البيانيّ إلى الحدّ الأدنى، وهذا حلّ طبيعيّ يمكننا فهمه بشكلٍ أفضل ممّا لو كان لدينا رسم بيانيّ معقّد للغاية”.
وقد أبدى إريك كافالكانتي، من جامعة جريفيث في أستراليا، إعجابه بهذا العمل وحذّره بشأنه. تمثّل تقنيّات التّعلّم الآليّ هذه تطوّرًا مثيرًا للاهتمام. بالنّسبة لعالم بشريّ ينظر إلى البيانات ويفسّرها، قد تبدو بعض الحلول وكأنّها حلول جديدة “إبداعيّة”. ولكن في هذه المرحلة، ما تزال هذه الخوارزميّات بعيدة عن المستوى الذي يمكن القول فيه أنّ لديهم أفكارًا جديدة حقًا أو يتوصّلون إلى مفاهيم جديدة. ومن ناحيةٍ أخرى، أعتقد أنّهم سيصلون إلى هناك يومًا ما. لذا فهذه خطوات صغيرة -ولكن علينا أن نبدأ من مكانٍ ما “.
يوافق شتاينبرغ. ويقول: “في الوقت الحالي، إنّها مجرّد أدوات مذهلة، ومثل جميع الأدوات الأفضل، فهي تمكّننا بالفعل من القيام ببعض الأشياء التي ربّما لم نكن لنفعلها بدونها”.
- ترجمة: ريمة جبارة
- المصادر: 1