كيف يتم إنشاء الأجنة في المختبر ولماذا؟ وما الذي يخبئه المستقبل لنا
إن إنشاء جنين من خلايا مختلفة عن النطفة والبويضة، ومن ثم تنميته خارج الرحم هو أحد مجالات الأبحاث التي تطورت على نحوٍ بارزٍ خلال السنوات الخمس الماضية. كم سيستغرق من الوقت حتى نتمكن من فتح الصندوق الأسود لعلم الجنين البشري؟
أعلن الباحثون هذا الشهر أنهم زرعوا نموذجًا لجنين فأر مصنوع بالكامل من خلايا جذعية جنينية وبدون استخدام حيوان منوي وبويضة أو رحم لمدة 8.5 يومًا، أي أطول بنحو يومين مما حققته التجارب السابقة.
أظهر التحليل الجيني أن بنية ونشاط الخلية في هذه النماذج الجنينية كانت مشابهة بنسبة 95٪ لأجنة الفئران الحقيقية وفعالة وظيفيًا. يشير هذا الأمر إلى أن هذه النماذج كانت مُشابهة بدرجة كافية للأجنة الطبيعية بحيث يمكن دراستها للتعرف على كيفية عملها.
يمكن أن تمنحنا الأبحاث المجراة على أجنة الفئران والبشر لمحةً حول الآليات التي تسمح لها بالانقسام والانغراس والتطور. على أية حال، إن القدرة على بناء الأجنة من الصفر تساعد الباحثين على تجاوز التجارب على الأجنة الحقيقية التي يُحتمل أن تكون باهظة الثمن وغير أخلاقية، وتساعدهم أيضًا على التحقق فيما إذا كانت الافتراضات حول كيفية عملها صحيحة.
تستعرض ورقة بحثية نُشرت مؤخرًا في مجلة الخلية (Cell) الإنجاز الذي حققه الباحثون في مختبر البروفيسور جاكوب حنا في معهد وايزمان للعلوم في رحوفوت، بالأراضي المحتلة.
تعد هذه الخطوة هي الأخيرة من سلسلة طويلة من الخطوات المتزايدة خلال السنوات الأخيرة لإنشاء جنين من الصفر في المختبر.
أول جنين مشتق من الخلايا الجذعية
نشر فريق البروفيسور حنا بالفعل تفاصيل عن جزء مهم ومحدد من هذا اللغز في العام الماضي في مجلة الطبيعة (Nature)، عندما استعرضوا العملية التي استخدموها لتنمية نماذج أجنة خارج الرحم.
يستخدم النظام الذي طوروه زجاجات مليئة بالسوائل تعمل كمزرعة للخلايا، والتي يمكن أن تبقى ساكنة أو تُستخدم للزرع بالتناوب خلال نقاطٍ مختلفة من النمو.
وضح البروفيسور حنا في رسالةٍ بالبريد الإلكتروني إلى موقع (أخبار طبية اليومMedical News Today): «نظرًا لأننا نعرف ما يلزم لدعم نمو (أجنة الفئران الطبيعية) خارج الرحم (الجهاز والظروف)، يمكننا أخيرًا اختبار فيما إذا كانت الخلايا الجذعية يمكن أن تولد جنينًا من البداية وفقط من الخلايا الجذعية، وأي منها صالح لذلك».
يقول البروفيسور جاكوب حنا:
«لم نتمكن من فعل ذلك من قبل، والسؤال الذي كان يطرح نفسه كيف سنتمكن من تنمية جنين اصطناعي إذا كنا لا نعرف كيفية تنمية جنين طبيعي؟ سمح استخدام الجهاز السابق، ونفس الظروف المشابهة لوسط الزرع، ونفس المقاييس لتجمعات مكونة من 27 خلية من الخلايا الجذعية متعددة القدرات (محفزة)، وبالتالي الوصول إلى أجنة عمرها 8.5 أيام عند وضعها في هذا الجهاز».
وضح البروفيسور حنا: «كان الجهاز ووسط الزرع أساسيين. هذه الأجنة هي أجنة كاملة لديها كيس محي ومشيمة. ولكن لم نستخدم على نحو ملفت خلايا جذعية للمشيمة وخلايا جذعية للكيس المحي، ومع ذلك أظهرنا أن كل شيء يمكن توليده حصريًا من جذع جنيني بسيط متعدد القدرات (مُحفز) أو سلاسل خلايا جذعية مُحرضة متعددة القدرات يزداد انتشارها روتينيًا في المختبرات حول العالم».
كان هذا الأمر رائعًا وبارزًا لأن الباحثين قد صنعوا سابقًا نماذج أجنة بدأت في تكوين المشيمة والكيس المحي والسلى باستخدام مزيجٍ من الخلايا الجذعية الجنينية والخلايا الجذعية المأخوذة من طبقة الأرومة الغاذية وهي الطبقة التي تتمايز عادة لتشكل المشيمة في الأجنة.
كان معدل الفشل في هذه السلسلة الأخيرة من التجارب مرتفعًا إذ تمكن 50 فقط من أصل 10000 من هذه الخلائط الخلوية من تكوين البنى الكروية أولًا ثم بنىً أكثر بيضوية مثل الجنين.
لم تبدأ نماذج الأجنة هذه فقط في إنتاج البنى التي ستدعم الحمل، وإنما بحلول نهاية فترة 8.5 يومًا التي نمت فيها، قامت بتشكيل قلب نابض ودورة لخلايا الدم الجذعية ومنطقة رأس مع طيات وأنبوب عصبي وبداءة أنبوب هضمي.
سباق مستمر في أبحاث الأجنة
نشر مخبر البروفيسورة ماجدالينا زيرنيكا جويتز في جامعة كامبريدج ورقتين كنسخةٍ أولية في نفس الأسبوع الذي نُشرت فيه هذه الورقة البحثية في مجلة Cell. إحداهما نُشرت في الواقع من قبل فريق البروفيسورة زيرنيكا جويتز في نفس اليوم الذي نُشرت فيه دراسة Cell .
تستعرض هذه الورقة كيف لاحظ الباحثون في مختبر كامبريدج أن بنى أعضاءٍ مماثلة بدأت في التشكل في بحثهم الخاص باستخدام نماذج الأجنة.
قالت البروفيسورة زيرنيكا جويتز في مقابلةٍ معMNT أن هذه الأوراق ستظهر في المجلات المحكمة في الأسابيع المقبلة وأن نسخها النهائية يُمنع مشاركتها في الوقت الراهن.
قالت لنا: «لذلك نجد أنها عملية نتقدم فيها خطوة بخطوة، و ستُظهر ورقتنا البحثية المزيد من التطورات».
قال البروفيسور ديفيد جلوفر -زوج البروفيسورة زيرنيكا جويتز- أن هذه النتائج الأخيرة تعتمد على العمل السابق للمختبرات والفرق الأخرى، سواء تلك الخاصة بالبروفيسورة زيرنيكا جويتز أو غيرها.
لدى البروفيسور جلوفر والبروفيسورة زيرنيكا جويتز فرقًا في كامبريدج وكالتيك. لقد أجريا البحث معًا وسيظهران كمؤلفين مشاركين في إحدى الأوراق البحثية التي ستنشر قريبًا.
قال البروفيسور جلوفر في مقابلة معMNT: «أعتقد أنه عليك العودة إلى ورقة ماجدالينا المنشورة في عام 2017، والتي كانت سارة هاريسون هي المؤلفة الرئيسية فيها، والتي تؤسس لمبدأ صنع بنية تشبه الجنين باستخدام مزيج من الخلايا خارج المضغة والخلايا الجنينية . «
تشمل الخلايا خارج المضغة المكونات الرئيسية التي تشكل أنسجة خارج المضغة، والتي تعتبر ضرورية للحفاظ على بقاء الجنين. تشمل الأنسجة خارج المضغة المشيمة والكيس المحي والسلى.
وأشار البروفيسور جلوفر إلى أن القدرة على إنتاج نماذج جنينية قادرة على البدء بتطوير هذه الأنسجة أمرٌ مهم للغاية لأن ذلك يساهم في بدء الإشارات التي تساعد نموذج الجنين على التطور والتجمع الذاتي بنفس الطريقة التي يقوم بها الجنين الطبيعي.
ويقول: «الحقيقة هي أنه ونظرًا لأن أجنتنا تتطور داخل الرحم، فإنها تتطلب تطور الأنسجة خارج المضغة بطريقة صحيحة. وتلك الأنسجة خارج المضغة لها وظيفتان هما توفير أساسًا هيكليًا، وتشكيل كيس محي ومشيمة كذلك الأمر».
كما أضاف الباحث «لكن قبل أن يصلوا إلى تلك المرحلة يجب إرسال إشارات إلى الجنين لإخباره بكيفية التطور على نحوٍ صحيح. إذا لم يكن لديك تلك الإشارات فلن يتطور الجنين بشكل صحيح».
أكد البروفيسور جلوفر أن هذه النماذج المحددة كانت مجرد نوع واحد من نماذج الأجنة التي يجري تطويرها حاليًا.
طور الباحثون أيضًا نماذج أخرى، مثلblastoids والتي تحاول إعادة تشكيل مرحلة الخلية الأرومية للجنين السابقة للانغراس، و gastruloids والتي لا تحتوي على أي أنسجة خارج المضغة ونتيجة لذلك تميل إلى عدم تطوير منطقة دماغية.
البحث في مرحلة ما قبل الانغراس
عمل مختبر الدكتور نيكولاس ريفرون في معهد التكنولوجيا الحيوية الجزيئية في الأكاديمية النمساوية للعلوم في فيينا، النمسا، على تطوير نماذج أجنة لاكتساب فهمٍ أعمق لمرحلة ما قبل الانغراس.
نشرت مجموعته ورقة رئيسية في عام 2018 في مجلةNature. استعرضت الورقة كيف أنهم طوروا نماذج أجنة الفئران باستخدام الخلايا الجذعية الجنينية، والخلايا الجذعية من طبقة الأرومة الغاذية لتكوين أشباه أريمية يمكن زرعها في رحم فأرٍ لبضعة أيام.
نشر نفس الفريق ورقة بحثية أخرى في مجلةNature في كانون الأول 2021، ووضحوا هذه المرة كيف أنهم أنشؤوا نماذج أجنة في مرحلة الكيسة الأريمية من خلايا جذعية بشرية متعددة القدرات، والتي قاموا بتحفيزها لتصبح قادرة على التمايز إلى أنواع مختلفة من الخلايا.
قال الدكتور ريفرون في حديثه إلىMNT: «نحتاج بالنسبة للمراحل التالية من البحث إلى فهم كيفية اندماج هذه الأجنة مع الخلايا الرحمية من أجل فهم عمليات الانغراس في الرحم، وكيف يمكن أن يطور ذلك معرفتنا لحل التحديات الصحية المختلفة لتنظيم الأسرة، ونقص الخصوبة، وكذلك أصل الأمراض».
وعلى الرغم من أن نماذج الأجنة الموصوفة في الورقة الأخيرة أظهرت أنها منظمة ذاتيًا لتشكيل بعض البنى التي من شأنها أن تشكل المشيمة، إلا أن نماذج الأجنة هذه كانت محدودة القدرة على النمو أكثر بدون وجود مشيمة واحدة، هذا ما قاله الدكتور ريفرون.
وأكمل حديثه بالقول «القيد هو المشيمة، فالمشيمة مهمة للغاية»، نظرًا لكونها توفر العناصر الغذائية والأكسجين للجنين، والتي تعد ضرورية للنمو والتطور أكثر.
إلى أي مدى يمكن أن يذهب الباحثون؟
أكدت الورقة البحثية الأخيرة أيضًا أن المراحل الأولى من نمو الأعضاء والمعروفة باسم تكوين الأعضاء، يمكن ملاحظتها في هذه الأجنة النموذجية.
كان من الصعب ملاحظة ذلك، لأنه يحدث عادةً في الرحم. يمكن على أية حال دراسة تمايز الخلايا والتحكم الجيني بهذا التمايز والبيئة اللازمة للتطور النموذجي من خلال إنشاء عملية لتطوير هذه النماذج الجنينية في المختبر.
استخدمت الورقة البحثية الأخيرة الخلايا الجذعية الجنينية للفأر لتطوير أجنة نموذجية، الأمر الذي يتطلب موافقة أخلاقية. تعد أبحاث الأجنة البشرية -وعلى النقيض مما ذكر سابقًا- على أنها محددة ومنظمة على نطاق واسع.
تصدر الجمعية الدولية لأبحاث الخلايا الجذعية(ISSCR) إرشادات لتنظيم هذه الأبحاث كل 5 سنوات تقريبًا، وأصدرت آخر مجموعة من الإرشادات العام الماضي. تناول هذا التوجيه وجود نماذج أجنة مشتقة من الخلايا الجذعية وإمكانية إنشاء نماذج أجنة خيمرية باستخدام خلايا من أنواع مختلفة جنبًا إلى جنب مع الخلايا البشرية.
على الرغم من أنه قد يكون من الممكن تقنيًا تنمية الأعضاء باستخدام نماذج الأجنة، فذلك قد لا يكون ضروريًا أو بالأحرى ليس مرغوبًا أخلاقيًا، هذا ما أشار إليه الدكتور ريفرون.
وأشار بدلاً من ذلك إلى تطويرorganoids وهي نماذج من أنسجة الأعضاء مشتقة من الخلايا الجذعية التي يمكن استخدامها للبحث في السلوك الخلوي، وربما في تطور الأعضاء أيضًا.
ظهرت ورقة بحثية توضح كيف صمم الباحثون في جامعة هارفارد بواسطة الهندسة الحيوية هياكل للقلب البشري في مجلةScience في نفس الأسبوع الذي نُشر فيه أحدث مقال عن النماذج الجنينية.
ساهم الدكتور ريفرون في أحدث مجموعة من إرشاداتISSCR وأخبر MNT: «إذا كنت ترغب في دراسة تكوين الأعضاء فإن المبدأ المعياري والذي يؤخذ به الناحية الأخلاقية هو أنه يجب عليك استخدام الطريقة الأقل إحداثاً للمشاكل في دراستها ألا وهي organoids».
لقد كان تطوير كلًّا من نماذج الأعضاء العضوية ونماذج الأجنة الذي انطلق على قدم وساق في السنوات الخمس الماضية متشابهاً، وأساسها سيكون هو النهج الجينومي الجديد الذي يمكننا استخدامه لفهم، وإعادة إنشاء الهياكل الثديية.
سيكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف تتقارب التخصصات في السنوات القادمة لتزويدنا بمجموعة أكبر من الأدوات لفتح الصندوق الأسود الذي يحوي أسرار تطورنا.
- ترجمة: مجدي عوكان
- تدقيق علمي ولغوي: رؤى بستون
- المصادر: 1