هل القلق والاكتئاب مشاكل اجتماعية أم اضطرابات كيميائية؟
يشكك اثنان من علماء الأنثروبولوجيا في نظرية التوازن الكيميائي لاضطرابات الصحة العقلية.
كان من المفترض أن يغيّر العلم في القرن العشرين كل شيء. والواقع أنه بفضل اللقاحات والمضادات الحيوية وتحسين الصرف الصحي، ازدهر البشر بشكل لم يسبق له مثيل. ومع ذلك، فقد طُرحت ضمن هذا المزيج علاجات دوائية لاضطرابات الصحة العقلية. ولكن لم يُحرز أي تقدّم يذكر على هذه الجبهة.
يمكن القول، في بحث جديد نُشر في المجلة الأمريكية للأنثروبولوجيا الفيزيائية، إننا نتراجع في كفاحنا ضد مشاكل الصحة العقلية. وكما تقول كريستين سايم، طالبة دكتوراه في الأنثروبولوجيا التطورية، وإدوارد هاجان أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة ولاية واشنطن، إن العلاجات الدوائية النفسية تتزايد جنبًا إلى جنب مع تشخيص اضطرابات الصحة العقلية. إذا نجح الأول، فإن الأخير سيتراجع.
هناك العديد من المشاكل في نموذج الطب النفسي الحالي. فقد أوضح الصحفي روبرت ويتاكر إن مضادات الاكتئاب ومضادات الذهان والتدخلات الدوائية الأخرى هي السبب الحقيقي وراء الاختلالات الكيميائية في الدماغ، وهي نقطة نقاش حُدّدت في الطب النفسي لأكثر من نصف قرن. إذ يُعطى المرضى الذين يعانون من القلق والاكتئاب البسيط أدوية غير فعّالة، وغالبًا ما يوصف لهم مزيج من تلك الحبوب. ومع تمويل العديد من مجموعات الدفاع عن المستهلك من قبل شركات الأدوية، وصلنا إلى نقطة تحول في بروتوكولات الصحة العقلية.
وكما كتب سايم وهاجان، فإن مجموعات الدفاع عن المستهلك ليست المنظمات الوحيدة المعرضة للخطر. إذ اكتشفت مراجعة واحدة ل 397 تجربة سريرية أن 47% من هذه الدراسات أبلغت عن تضارب مصالح واحد على الأقل. وكما كتب ويتاكر من قبل، تُلغى نتائج التجارب عندما لا تعجب شركات الأدوية حتى تُسجّل نتائج أكثر ملاءمة.
لقد تكاثر البشر بشكل لم يسبق له مثيل خلال القرن الماضي، ومع ذلك فإن الابتكار التكنولوجي لا يعني دائمًا نتائج أفضل. إننا نعيش في وهم دائم بالتقدم. وقد كان لقطع العلاقات مع الطبيعة عواقب وخيمة على صحتنا. مما يقودنا إلى جوهر بحث سايم وهاجان: إن كيمياء الدماغ تتأثر بشدة بالمجتمع. فمن المؤكد أن بعض الأشخاص يولدون بخلل في النمو بسبب الجينات. لكن هذا لا يفسّر زيادة أعداد الأشخاص الذين يتناولون زولوفت وزاناكس وعشرات الأدوية الأخرى اليوم.
تعد الأنثروبولوجيا الفيزيائية والبيولوجيا التطورية من المجالات الأساسية للدراسة عند التفكير في جميع جوانب الصحة. كما أن المنظور التاريخي مهم. وهنا يشير المؤلفون إلى معركة سابقة: ففي عام 1900، كان ما يقرب من نصف الوفيات في الولايات المتحدة تعزى إلى الأمراض المعدية. وبعد قرن من الزمن، أصبح عدد الوفيات الناجمة عن مثل هذه الأمراض ضئيلًا.
ويرجع ذلك لاكتشاف مسببات عدد من الأمراض المعدية بفضل نظرية الجراثيم. ومع ذلك، لم يكن هناك أبدًا مسببات شاملة للقلق أو الاكتئاب. وقد استغل الأطباء النفسيون، بالتنسيق مع شركات الأدوية، هذه الحقيقة من خلال إنشاء وتسويق مسببات فريدة، «نظرية التوازن الكيميائي»، وترويج علم الصيدلة للعالم.
إذا فكرنا في الإطار الأساسي لهذا الاقتراح: إن الحيوان الذي تطور على مدى ملايين السنين، ما يقرب من 350 ألف عام في شكله الحالي، يعيش أعظم قرن له حتى الآن من ناحية التوسع السكاني، في حين تتعرض المليارات من أدمغتنا فجأة للخطر كيميائيًا. هذه الرواية تحيّر العقل، ولكنها بالضبط ما يباع من قبل الأطباء النفسيين والأطباء في جميع أنحاء العالم.
وكما يكتب المؤلفون، أصبحت نظرية عدم التوازن الكيميائي، التي نوقشت أول مرة على نطاق واسع في أواخر الأربعينيات، جزءًا من حملة الصحة العامة المصممة لإزالة وصمة العار عن قضايا الصحة العقلية في العقد الأول من القرن العشرين. لكن في الواقع، حققت تلك الحملة عكس ذلك.
«أولًا، وجدت مراجعة منهجية أن تأييد الأسباب البيولوجية الجينية للاضطرابات العقلية لا يقلل من وصمة العار، بل قد يزيد في الواقع من مواقف الوصم بين العاملين في مجال الصحة العقلية والمرضى العقليين أنفسهم. ثانيًا، يوجد القليل من الأدلة على أن المستحضرات الصيدلانية النفسية تصحّح اختلالات كيميائية محددة أو عجزًا عصبيًا بيولوجيًا».
في حين إن الصحة العقلية مصطلح واسع يشمل العديد من الفئات، يقسّم المؤلفون الاضطرابات إلى أربع مجموعات فرعية:
· الاضطرابات التي هي خلل في النمو على أساس وراثي.
· الاضطرابات المرتبطة بالشيخوخة.
· الاضطرابات الناجمة عن عدم التوافق بين البيئات الحديثة وبيئات الأجداد.
· الاضطرابات التي تعتبر استجابات تكيفية للشدائد، والتي مهما كانت، غير مرغوب فيها.
تمثّل المجموعتان الأوّليّتان العديد من الأمراض الشائعة، مثل الخرف والتوحد والفصام. بينما تمثّل المجموعتان الأخريان الاضطرابات التي استغلها الطب النفسي الحديث. ومن خلال الفشل في مراعاة العوامل البيئية والعنصرية والاقتصادية والعائلية والمجتمعية، بيعت قصة مفادها أننا محطمون منذ الولادة.
وتخدم هذه القصة غرضًا معينًا: إذ من المتوقع أن تصل صناعة مضادات الاكتئاب العالمية إلى 16 مليار دولار بحلول عام 2023. وبفضل جهود التسويق والضغوط المتضافرة، تتزامن الزيادة الطفيفة في الوصفات الطبية مع عدد متزايد من الاضطرابات، وأعداد متزايدة من الأطفال الذين يتعاطون هذه الأدوية. عندما يُستغلّ سوق ما، يُنشأ سوق آخر.
قد تكون التدخلات الدوائية لمرض باركنسون والزهايمر والتوحد ذات قيمة لمرضى هذه الاضطرابات. لكن المشكلة لا تكمن في تطوير الأدوية، وهو مجال بحثي ضروري لمكافحة مثل هذه الأمراض المربكة. إذ كما كان معروفًا منذ فترة طويلة (منذ القرن التاسع عشر على الأقل، على الرغم من احتمال أن يكون ذلك لفترة أطول بكثير)، فإن معظم حالات القلق والاكتئاب تخف بمرور الوقت، خاصةً عندما تُنفّذ تدخلات مثل النظام الغذائي المناسب وممارسة الرياضة وتحسين الظروف الاقتصادية. وكما استنتج سايم وهاجان: «إن المجموعة الأخيرة من الاضطرابات، مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، تلعب العوامل الوراثية دورًا منخفضًا في تناقلها. هذه الاضطرابات تسببها الشدائد، وتتضمن أعراضًا تبدو وكأنها استجابات تكيفية لها. ولأنها شائعة نسبيًا طوال حياة البالغين، فإنها تمثّل جزءًا كبيرًا من عبء المرض الذي يعزى إلى المرض العقلي. ومع ذلك، قد لا تكون هذه اضطرابات على الإطلاق، ولكنها بدلًا من ذلك استجابات مكروهة إلا أنها تساعد على التكيّف مع الشدائد.
هذا يعني إن القلق والاكتئاب مشاكل اجتماعية إلى حد كبير، وليست اضطرابات طبية. فبينما يعتبر المؤلفون إنه من غير الأخلاقي وصف مسكنات الألم لعظم مكسور دون تثبيت العظم أولًا، لماذا إذن يقوم الأطباء النفسيون والأطباء بإعداد النصوص دون تحديد مصدر المعاناة التي جلبت المريض إلى العيادة في المقام الأول؟
مع أننا لا نملك حتى الآن مسببات موثوقة لمعظم اضطرابات الصحة العقلية، إلا أن المؤلفين يستنتجون أنها قد تكون في متناول اليد. إذ لا يعتمد اكتشافهم على كيمياء الدماغ وحدها، بل على علم الوراثة اللاجينية، والملاحظة السلوكية، والمقارنات بين السكان، والانتقال الثقافي، ونظرية التطور، وغير ذلك الكثير.
يعد البشر حيوانات معقدة. وربما شفرة أوكام ليست حادة كما نعتقد.
- ترجمة: عبير ياسين
- تدقيق علمي ولغوي: فريال حنا
- المصادر: 1